قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ
(53)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} وَافْتِتَاحُ كَلَامِهِمْ بِالنِّدَاءِ للِاهْتِمَامِ بِمَا سَيَقُولُونَهُ، وَأَنَّهُ جَدِيرٌ بِأَنْ يُتَنَبَّهَ لَهُ لِأَنَّهُمْ نَزَّلُوهُ مَنْزِلَةَ الْبَعِيدِ لِغَفْلَتِهِ فَنَادَوْهُ، وَقَدْ يَكُونُ مُرَادُهُم تَوْبِيخَهُ وَلَوْمُهُ. فقَالُوا لَهُ: يَا هُودُ إِنَّكَ لَمْ تَأْتِنا بِحُجَّةٍ ولا بَيانٍ ولا بُرْهَانٍ عَلَى صِحَّةِ مَا تَدَّعِيهِ مِنْ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، حَتَّى نُسْلِمَ لَكَ ونُؤْمِنَ بِكَ، وذلك لفَرْطِ عِنَادِهم وعَدَمِ اعْتِدادِهم بِما جاءَهُم بِهِ مِنَ البَيَّنَاتِ، ومنها انقطاعُ المطرِ عنهم، ثلاثّ سنينَ وجَدْبِ أراضيهم ومزارعهم، بِسَبَبِ تَكْذيبِهم لَهُ ـ عليه السلامُ، ومنها عُقْمُ أرحامِ نسائهم وانقطاعُ ذراريهم، ولم يَعْتَبِروا بِذَلِكَ. فقد تكونُ الآيةُ نِعْمَةً وسَعَةً، وذلك على المضيَّقِ عليهم، وقد تكونُ شدَّةً وقحطاً وجدبًا عندما يكونُ القوم في سَعَةٍ مِنْ قَبْلُ كقومِ عادٍ، لأنَّهُ، فلغرضُ من الآيَةِ لفتُ النَّظَرِ لأَمْرٍ جديدٍ طارئٍ، غيرِ مُعْتَادٍ. فإذا كنت في نعمةٍ فاعلم أنَّما يُريدُ اللهُ تَعالى أَنْ يَمْتَحِنَكَ بِها، فأَدِّ حقَّها بالشُّكرِ عليها، واحْذَرْ أَنْ تُبْطِرَكَ، وإذا ابْتَلاكَ اللهُ بالشِدَّةِ، فاعْلَمْ أَنَّما يُريدُ مِنْكَ أَنْ ترجع إليه بالتوبة والضراعةِ إليه برفعها عنك، واحذر أنْ تُيْأسَ من رحمتِهِ أو تتمرَّدَ عليه وتكفرَ به كما يفعلُ بعضُ الناس من الأشقياء، وهكذا كانَ حالُ، عادٍ فلم يَتَنَبَّهوا إلى التغيُّرِ الذي طَرَأَ على حَيَاتِهم بسببِ تَكْذيبِهم لِرَسُولِ اللهِ هُود ـ عليه السلامُ.
وقدْ سُمِّيَتِ البيِّنةُ بَيِّنَةً لأنَّها تُبَيِّنُ الحقَّ مِنَ الباطِلِ، ومِنَ المَعْلومِ أَنَّهُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، كانَ قدْ أَظْهَرَ لهم المُعْجِزاتِ البيِّناتِ إِلَّا أَنَّ قومَهُ أَنْكَروها لجهلهم، وزَعَموا أَنَّهُ ما جاءَ بِشَيْءِ مِنَ المُعْجِزاتِ، وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّ الْبَيِّنَاتِ الَّتِي جَاءَهُمْ بِهَا هُودٌ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمْ تَكُنْ طِبْقًا لِمُقْتَرَحَاتِهِمْ. فإنَّ قَوْلَهُمْ: "مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ" محضُ بُهْتَانٍ فقد أَتَاهُمْ بِمُعْجِزَاتٍ باهراتٍ لكنَّهم عموا عنها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى بعدَ ذَلِكَ في الآية 59: {وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ}، كَمَا سَيَأْتي إنْ شاء اللهُ تعالى، وَلقولِ نبيِّنا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، في الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ((مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُوتِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ)) أَخْرَجَهُ الشَيْخانِ مِنْ حديثِ أَبي هُريرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ لَمْ يَذْكُرْ آيَةً مُعَيَّنَةً لَهُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ. فقدِ اتَّخَذوا ذَلِكَ حجَّةً لِتَصْمِيمِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ آلِهَتِهِمْ، فَقَالُوا: وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ.
قولُهُ: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} أي: لَنْ نَتْرُكَ عِبَادَةَ آلهِتِنَا بِمُجَرَّدِ قَوْلِكَ لَنَا اتْرُكُوا آلهَتَكُمْ، فما زَادَهم نُصْحُ هُودٍ ـ عَلَيْهِ السلامُ وتذكيرُهُ لهم إلَّا تعنُّتًا وكفرًا، فكلَّما ازدادَ بَسْطًا في الآيِ وإيضاحًا في التَبيينِ ازدادوا عَمًى عَلى عَماهم، فلَم يُرْزَقوا بَصِيرَةً يهتدونَ بها، ولم يَزيدوا في خِطَابِهم إلَّا بِما دَلَّ عَلى فَرْطِ جَهالَتِهم، وشِدَّةِ ضَلالَتِهم.
قولُهُ: {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} وَلَنْ نُصَدِّقَكَ فِيمَا تَقُولُ وَتَدَّعِي مِنْ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ إِلَيْنَا. ولنْ نصدَّقَ كلَّ ما أَتَيْتَ بِهِ مِنْ آياتٍ تريدَ أن تحرفنا به عن عبادةِ آلهتِنا، فلن نبدِّلَ دينَنا مهما وعظتَ ونصحتَ وبيَّنتَ، فإننا على دين آبائنا محافظون، ولآلهة أجدادنا عابدون، ونحنُ على مبدئنا ثابتون.
قولُهُ تعالى: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} قَالُوا: فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواو الجماعةِ، وهي ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، والألفُ الفارقةُ، ولم يعطفْ على ما قبلَهُ لمجيئِهِ في سياقِ الحوارِ بينهم وبينَ نبيِّهم ـ عليه السلامُ، وهذه الجملةُ من الفعلِ وفاعلِه مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعراب. و "يَا هُودُ" أداةُ نداءٍ ومُنادى مُفرَدٌ عَلَمٌ مَبْنِيٌّ على الضَمِّ في مَحَلِّ النَّصبِ بالنداءِ، وجُمْلةُ النِّداءِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقوْلِ، لِ "قال"، و "مَا" نافيَةٌ، و "جِئْتَنَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هي تاءُ الفاعلِ، وتاءُ الفاعلِ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، و "نا" ضميرُ جماعة المتكلمين المتَّصلِ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ نصبِ مفعولِهِ، و "بِبَيِّنَةٍ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِـ "جِئْتَنَا"، والباءُ للتعديةِ، أي: ما أظهرْتَ لنا بَيِّنَةً قَطُّ، ويجوزُ أنْ تتَعلَّقَ بِمَحذوفٍ على أنَّها حالٌ، والتقديرُ: مُسْتَقِرًّا، أَوْ مُلْتَبِسًا بِبَيِّنَةٍ. والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ، ب "قال" على أنَّها جَوابُ النِّداءِ.
قولُهُ: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} وَمَا: الواوُ: عاطِفةٌ، و ما: نافيِةٌ أَوْ حِجازيَّةٌ، و "نَحْنُ" ضميرُ المتكلِّمين المفصولُ مبنيٌّ على الضمِّ في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، إذا أعربنا "ما" تميميَّةً، أَوْ في مَحَلِّ رَفْعِ اسمِها إذا أُعربتْ حجازيَّةً، و "بِتَارِكِي" الباءُ حرفٌ جرٍّ زائدٍ، و "تاركي" مجرورٌ لفظًا بالباءِ، وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المذكِّرِ السالمِ، مَرْفوعٌ مَحَلًا على أنَّهُ خبرُ المُبْتَدَأِ إذا أعربت "ما" تميميَّةً، أَوْ منصوبٌ محلًا خَبَرًا لِ "ما" الحجازيَّةِ، وهو مُضافٌ، و "آلهتنا" مضافٌ إليهِ وهو مضافٌ، و "نا" جَماعَةِ المتكلِّمين ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ جرِّ مضافٍ إليه، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولَ "قَالُوا". و "عَنْ قَوْلِكَ" جارٌّ ومجرورٌ مضافٌ، مُتَعَلِّقٌ بِالخبرِ "تَارِكِي" فَـ "عَن" للتَعْليلِ، كما هِي في قولِهِ تَعالى في سورةِ التوبة: {إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} الآية: 114، أَيْ: إلَّا لأَجْلِ مَوْعِدَةٍ وعدَها إيّاه. والمَعْنى هُنَا: وما نحنُ بِتاركي آلهتِنا لِقولِكَ، فيَتَعَلَّقُ بِتَاركي. وهذا هو الأَوْلى، أَوْ حَالٌ مِنَ الضَميرِ فِي "تاركي"؛ أَيْ: وما نَتْرُكُ آلِهَتَنَا تَرْكًا صادِرًا عِنْ "قَوْلِكَ"، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ جرِّ مضافٍ إليه.
قولُهُ: {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} وَمَا نَحْنُ: تقدَّمَ إعرابُه. و "لَكَ" جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ ب "مُؤْمِنِينَ"، و "بِمُؤْمِنِينَ" الباءُ حرفُ جرٍّ زائدٍ كسابقتها، و "مؤمنين" مجرورٌ لفظًا بالباءِ، وعلامةُ جرِّه الياءُ لأنَّه جمعٌ مذكَّرٌ سالمٌ والنونُ عِوَضًا عن التنوين في الاسمِ المفرد، مرفوعٌ محلًا أو منصوبٌ حسبَ ما تقدمَ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصبِ بالقولِ عطفًا على ما قبلها.