مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ
(24)
قولُهُ ـ تَبَارَكَ وتَعَالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} الظاهرُ أَنَّ المُرادَ بالحالِ المَدْلولِ عَلَيْها بِلَفْظ "المَثَلِ"، ما يُلائمُ الأَحْوالَ المَذْكورَةَ المُعْتَبَرَةَ في جانِبِ المُشَبَّهِ بِهِ، مِنْ تَعامي الفَريقِ الأَوَّلِ عَنْ مُشاهَدَةِ آياتِ اللهِ المَنْصوبةِ في العالَمِ، والنَظَرِ إِلَيْها بِعَيْنِ الاعْتِبارِ وتَصامِّهِم عَنْ اسْتِماعِ آياتِ القُرَآنِ الكَريمِ، وتَلَقِّيها بالقَبُولِ، وهيَ التي يَدورُ عَلَيْها أَمْرُ التَشْبيهِ. والمَثَلُ هوَ الحالُ والشَأْنُ. والفريقانِ المذكوران بحالِهِما العجيبِ هُما: فريقُ مَنْ ضَلَّ فَكانَ في السَعيرِ، وفريقُ مَنْ آمَنَ واهْتَدَى، فكانَ في الجَنَّةِ. فَقَدْ ضَرَبَ اللهُ تَعَالَى مَثَلاً لِحَالِ المُؤْمِنِينَ، أَهْلِ السَّعَادَةِ وَالجَنَّةِ، مَثَلَ البَصِيرِ السَّمِيعِ الذِي يَتْبَعُ الخَيْرَ، وَيَتْرُكُ الشَّرَّ، وَهُوَ سَمِيعٌ لِلْحُجَّةِ فَلا يَنطلي عَلَيْهِ البَاطِلُ. وَضربَ لِحَالِ الكَافِرِينَ، مَثَلَ الأَعْمَى وَالأَصَمِّ الذِي لاَ يُبْصِرُ وَلاَ يَسْمَعُ، وَلاَ يَهْتَدِي إِلَى خَيْرٍ. فكانُ في حالهمُ العَجَبُ لأنَّه لا يُمثَّلُ إلاَّ بما فيهِ غَرابةٌ مِنَ الأَحْوالِ والصِفاتِ. وأَصْلُ المِثْلِ النَظيرُ، ولا يَكونُ إلاَّ لِمَا فيهِ غَرَابَةٌ وصارَ في ذَلِكَ حَقيقَةً عُرْفِيَّةً، ومِنْ هُنا يُسْتَعارُ للقِصَّةِ والحالِ والصِفَةِ العَجيبَةِ. ووَجْهُ التَشْبيهِ هنا هوَ أَنَّهُ سُبْحانَهُ، خلقَ الإنسانَ مُرَكَّباً مِنَ الجَسَدِ ومِنَ النَّفْسِ، وكما أَنَّ للجَسَدِ بَصَراً وسَمْعاً فَإنَّ لِلرُوحِ سَمْعٌ وبَصرٌ كذلك. وكما أَنَّ الجَسَدَ إذا كانَ أَعْمى أَصَّمَّ بَقِيَ مُتَحَيِّراً لا يَهْتَدي إلى شَيْءٍ مِنَ المَصالِحِ، بَلْ يَكونُ كالتائِهِ في الظُلُماتِ، لا يُبْصِرُ نُوراً يَهْتَدي سبيلاً، ولا يَسْمَعُ منادياً، فكذلك الجاهلُ الضالُّ المُضِلُّ، يَكونُ أَعْمى القَلْبِ أَصَمَّهُ، تائهاً في ظُلُماتِ الضَلالاتِ حائراً فيها، أَيْ كَحالِ هؤلاءِ، فيكونُ ذواتُهم كذواتِهم.
والكلامُ وإنْ أَمْكَنَ أَنْ يُحمَلَ على تَشبيهِ الفريقِ الأَوَّلِ بالأَعْمى وبالأَصَّمِّ، وتَشْبيهِ الفريقِ الثاني بالبَصيرِ وبالسَّميعِ، لكنَّ الأَدْخَلَ في المُبالَغَةِ، والأَقْربَ إلى ما يُشيرُ إليْهِ لَفْظُ المَثَلِ، والأَنْسَبَ بما سَبَقَ مِنْ وَصْفِ الكَفَرةِ بِعدَمِ اسْتِطاعةِ السَّمعِ وبعدمِ الإبْصارِ، أَنْ يُحْمَلَ على تَشْبيهِ الفَريقِ الأَوَّلِ بِمَنْ جَمَعَ بَيْنَ العَمَى والصَمَمِ. وتَشْبيهُ الفريقِ الثاني بمَنْ جَمَعَ بيْنَ البَصَرِ والسَّمْعِ على أَنْ تَكونَ الواوُ في قولِهِ: "والأصَمِّ" وفي قولِهِ: "والسَّميعِ" لِعَطْفِ الصِفَةِ على الصِفَةِ.
قولُهُ: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} يعني هَلْ يَسْتَوِي الفريقان المذكورانِ؟ والاسْتِفهامُ إِنْكاريٌّ كقولِهِ ـ عَزَّ وجَلَّ، في سورةِ محمَّد: {أَفَمَنْ كَانَ على بَيّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} الآية: 14. و "مَثَلاً" أيْ حالاً وصِفَةً.
قولُهُ: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ فِيمَا بَيْنَ الهُدَى وَالضَّلاَلِ مِنَ التَّبَايُنِ، وَفِيمَا بَيْنَ البَاطِلِ وَالحَقِّ مِنَ الاخْتِلاَفِ وَالتَّمَايُزِ فَتَعْتَبِرُوا وَتَسِيرُوا فِي طَرِيقِ الهُدَى وَالإِيمَانِ، وَتَبْتَعِدُوا عَنْ طَرِيقِ الكُفْرِ وَالضَّلاَلِ؟. أو أَتَشُكُّونَ في عَدَمِ اسْتِواءِ الفريقينِ وما بينَهُما مِنَ التَبَايُنِ؟. أَوْ أَتَغْفُلونَ عَنْهُ فلا تَتَذَكَّرونَهُ بالتَأَمُّلِ فيما ضُرِبَ لكمْ مِنَ المَثَلِ فيَكونُ الإنْكارُ وارداً عَلى المَعطوفَيْنِ مَعاً. أوْ أَتَسْمَعونَ هذا فلا تَتَذَكَّرونَه؟. فيكونُ راجعاً إلى عَدَمِ التَذَكُّرِ بَعْدَ تَحَقُّقِ ما يُوجِبُ وُجُودَهُ، وهوَ المَثلُ المَضروبُ.
قولُهُ تَعالى: {مَثَلُ الفريقين كالأعمى وَالْأَصَمِّ والبصير والسميع} مثلُ: مًبْتَدأٌ مرفوعٌ مُضافٌ، و "الفريقينِ" مضافٌ إليْهِ مجرورٌ، وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأنَّهُ مثنى، و "كالأَعْمى" الكافُ حرفُ جرٍّ للتشبيهِ والمجرورُ مقدَّرٌ ب "كَمَثِلِ" وهوَ مضافٌ، و "الأَعْمى" مضافٌ إليهِ والجارُّ والمجرورُ في محلِّ رفعِ خبرِ المبتدأِ، ويُحتَمَلُ أَنْ تَكونَ هذهِ الكافُ هِيَ نفسَ الخَبَرِ، فتُقَدَّرُ بِ "مثل"، فيصبحُ تقديرُه: مَثَلُ الفريقين مثلُ الأَعمى. ويَجوزُ أَنْ تَكونَ "مثلُ" بِمَعْنى "صِفَة"، ومعنى الكافِ مَعْنى "مِثْل"، فيُقدَّرُ مُضافٌ محذوفٌ، أَيْ: كَمَثَلِ الأَعْمى. وقولُهُ: "مَثَلُ الفَريقَيْنِ كالأَعْمى" يَجوزُ أَنْ يَكونَ مِنْ بابِ تَشْبيهِ شَيْئَيْنِ بِشَيْئَيْنِ، فقابَلَ العَمَى بالبَصَرِ، والصَمَمَ بالسَّمْعِ، وهوَ مِنَ الطِّباقِ، ويجوزُ أَنْ يَكونَ مِنْ تَشْبيهِ شَيْءٍ واحدٍ بِوَصْفَيْهِ بِشَيْءٍ واحِدٍ بِوَصْفَيْهِ، وحِينَئِذٍ يَكونُ قولُهُ: "كالأعمى والأصمِّ" و "والبصير والسميع" مِنْ بابِ عَطْفِ الصِفاتِ كَقَوْلِ الشاعر:
إلى المَلِكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمامِ .............. ولَيْثِ الكتيبةِ في المُزْدَحَمْوَذَا الرَّأْيِ حِينَ تُغَمُّ الْأُمُورُ .............. بِذَاتِ الصَّلِيلِ، وَذَاتِ اللُّجُمْعَطَفَ صفاتٍ مُتَعَدِّدَةِ على مَوْصوفٍ واحدٍ، وفي الآيَةِ فقدْ شَبَّهَ فَرِيقَ الكافِرينَ بالأَعْمَى والأَصَمِّ، وفريقَ المؤمنين بالبصير والسميع، وهو مِنَ اللَّفِّ والطِّباق، أيْ: لَفِّ فريقَ المُؤمِنينَ وفريقَ الكافرينَ اللذَيْنَ هُما مُشَبَّهانِ بقولِهِ "الفريقين"، وهيَ عِبَارَةٌ مَشْهورةٌ في عِلْمِ البَيانِ يُقالُ: (اللَّفُّ والنَشْرِ)، وفيهِ مَعْنَيَانِ: أَنْ يُشَبِّهَ الفَرَيْقَيْنِ تَشْبيهَيْنِ اثْنَيْنِ، كَتَشْبيهِ امْرِئِ القيْسِ قُلوبَ الطَيْرِ بالحَشَفِ والعُنَّابِ بقولِهِ:
كأنَّ قُلُوبَ الطَّيْر رَطْباً ويَابِساً .... لَدَى وكْرِهَا العُنَّابُ والحَشَفُ البَالِي
أَصْلُ الكلامِ: كَأَنَّ الرَّطْبَ مِنْ قلوبِ الطَيْرِ: واليابِسَ مِنَ العُنَّابَ، (الحَشَفُ)، فلَفَّ ونَشَرَ، واللَّفُّ والنَشْرُ في عِلْمِ البَيانِ تَقْسيمٌ كَبيرٌ.
وفي الآية شَبَّهَ الكافرينَ بالذي جمعَ بينَ العَمى والصَّمَم، والمؤمنين بالذي جَمَعَ بَيْنَ البَصَرِ والسَّمْعِ، على أَنْ تَكونَ الواوُ في "والأصمِّ" وفي "والسميع" لعطفِ الصِفَةِ على الصِفَةِ كقولِ عمرِو بْنِ الحارثِ بْنِ هَمّامٍ ويعرفُ بابْنِ زَيّابَةَ:
يا ويحَ زيَّابةَ لِلحارِث الـــ ..................... ـــصابحِ فالغانِمِ فالآئِب
وقد قَدَّمَ تَشْبيهَ الكافِرِ عَلى المُؤمِنِ؟ لأنَّ المتقدِّمَ ذِكْرُ الكُفَّارِ. وعَدَلَ عَنْ قولِ: كالأعمى والبصير والأصم والسميع لِتَتَقابَلَ كلُّ لفظةٍ مَعَ ضِدِّها، ويَظْهرَ بِذلك التضادُّ؟ لأنَّهُ تَعالى لمَّا ذَكَرَ انْسدادَ العَيْنِ أَتْبَعَهُ بانْسِدادِ الأُذُنِ، ولمَّا ذَكَرَ انفتاحها أَتْبَعَهُ بانْفِتَاحِ الأُذُنِ أيضاً، وهذا التشبيهُ أحدُ الأقْسامِ، وهوَ تَشْبيهُ أَمْرٍ مَعْقولٍ بِأَمْرٍ مَحْسوسٍ: وذَلِكَ أَنَّهُ شبَّهَ عَمَى البَصيرَةِ وصَمَمَها بِعَمَى البَصَرِ وصَمَمِ السَمْعِ، وذاكَ متردِّدٌ في ظُلَم الضلالات، كما أنَّ هذا مُتَحَيِّز في الطُرُقاتِ.
قولُه: {هَلْ} هَلْ: اسْتِفْهامٌ إنْكاريٌّ، و "يَسْتَوِيَانِ" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ وعلامةُ رفعِه ثباتُ النونِ لأنَّهُ من الأفعال الخمسة، وألفُ التثنيةِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، و "مَثَلًا" تَمْييزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الفاعِلِ, والأَصْلُ: هَلْ يَسْتَوِي مَثَلُها، والجُمْلَةُ مستأنَفَةٌ، و "أَفَلَا" الهمزة: للاسْتِفُهامِ التَوْبِيخِيِّ داخِلَةٌ على مَحْذوفٍ، و الفاءُ: عَاطِفَةٌ على ذلِكَ المَحْذوفِ، و "لا" نَافيةٌ، و "تَذَكَّرُونَ" فعْلٌ ماضٍ مرفوعٌ وعلامة رفعِهِ ثباتُ النونِ في آخره لأنَّهُ من الأفعالِ الخمسة، والواوُ ضميرٌ متَّصلٌ دالٌّ على الجماعة في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، والجملةُ معطوفةٌ على ذلكَ المَحْذوف، والتقديرُ: أَتَشُكُّونَ فيِ عَدَمِ الاسْتِواءِ، فَلا تذكَّرون ما بَيْنَهُما مِنَ التَبَايُنِ.