أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ
(21)
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} أُولئِكَ المَنْعوتونَ بِمَا ذُكِرَ مِنَ القَبائحِ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم باشْتِراءِ عِبادَةِ الآلهَةِ المُصْطَنَعَةِ بِعِبادَةِ اللهِ الواحِدِ الأَحَدِ، وخَسِرُواْ سَعَادةَ أَنْفُسِهم وراحَتَها، والإشارةُ هُنا ب "أُولَئِكَ" إلى الذين هُدِّدُوا بِعَذَابِ الدُنْيا وإنَّهُ لَنازِلٌ بِهمْ، وأُنْذِروا بِعذابِ الآخِرَةِ، ومِنْ قبلُ صَدُّوا عن سبيل الله، وأَرادوها مُلْحِفينَ في إِرادَتِهم أَنْ تَكونَ مِعْوَجَّةً، والإشارةُ إلى المَوصوفِ بِصِفاتٍ تَدُلُّ على أَنَّ هذِهِ الصِفاتِ هِيَ سَبَبُ الحُكْمِ، وهذا الحُكْمُ هُوَ الخُسْرانُ المبين. لَقَدْ خَسِرَ هَؤُلاَءِ أَنْفُسَهُمْ، وَغَبَنُوهَا حَظَّهَا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ بِافْتِرَائِهِمْ عَلَى اللهِ، وَاشْتِرَائِهِم الضَّلاَلَةَ بِالهُدَى، لأَنَّهُمْ أُدْخِلُوا النَّارَ، وَلاَقُوا عَذَاباً لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ، وَلاَ يُتَوَّقَفُ، لقد خَسِروا أَنْفُسَهم بِكُفْرِهم باليومِ الآخِرِ وعَدَمِ رَجاءِ ما عَنْدَ اللهِ، وبِعذابِ الدُنيا والآخِرَةِ.
قولُهُ: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} غَابَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَهُ عَلَى اللهِ مِنْ نِسْبَةِ الأَنْدَادِ وَالشُّرَكَاءِ، وَالأَبْنَاءِ إِلَيْهِ، فَلَمْ تَنْفَعُهُمْ أَصْنَامُهُمْ، وَلاَ أَوْثَانُهُمْ شَيْئاً مِنَ اللهِ. وضاع منهم ما حصَّلوهُ بِذَلِكَ التَبْديلِ مِنْ مَتَاعِ الحياةِ الدُنْيا والرِياسَةِ. والتَعْبِيرُ بِـ "ضَلَّ" يُفيدُ أَنَّهم طَلَبوها فلَمْ يَجِدوها، أَوْ تَوَهَّمُوا أَنَّها تَنْفَعُهم فلَمْ تَجِدْهُم. وفي تَعْبيرِهِ سُبْحانَهُ، عَنِ الأَوْثانِ بِقَوْلِهِ تَعالى: "مَا كَانوا يَفْتَرُونَ" إشارَةٌ إلى أَنَّها لا وُجُودَ لَها في ذاتِها، وإِنَّ وُجُودَها كَآلِهَةٍ، إِنَّما هُوَ في أَوْهامِهم وافْتِرائهم وحسْبُ. ثمَّ يُؤكِّدُ ـ سُبْحانَهُ وتعالى، خَسَارَتَهُمُ البَالِغَةَ الحَدَّ الأَقْصى في الخسارةِ.
قولُهُ تَعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} أُولَاء: اسمُ إشارةٍ للبعيدِ مَبْني في مَحَلِّ رَفْعِ مُبْتَدَأٍ والكافُ للخطابِ، و "الَّذِينَ" اسمٌ موصولٌ مبني في محلِّ رفعِ خَبَرِهُ، والجملةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، و "خَسِرُوا: فعل ماضٍ مبنيِّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَماعَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضَميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رَفْعِ فاعِلٍ، والأَلِفُ الفارِقَةُ، و "أَنْفُسَهُمْ" مفعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ، وهوَ مُضافٌ، والهاءُ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ في مَحَلِّ جَرٍّ بالإضافَةِ، والميمُ لِلجَمْعِ المُذَكَّرِ، وهَذِهِ الجُمْلةُ صِلَةُ المَوْصُولِ "الذين".
قولُهُ: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} وَضَلَّ: الواوُ حَرْفُ عَطْفٍ، و "ضَلَّ" فِعْلٌ ماضٍ. و "عَنْهُمْ" جارٌّ ومَجْرورٌ مُتَعَلِّقٌ بالفِعْلِ "ضَلَّ"، والميمُ للجمع المذكَّرِ، و في "ما" ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَوَّلُهَا: أَنَّها اسمٌ موصولٌ بِمَعْنَى "الَّذِي"; وَالْمَعْنَى: يُضَاعَفُ لَهُمْ بِمَا كَانُوا، فَلَمَّا حُذِفَ حَرْفُ الجرِّ الباءُ نُصِبَ بنزعِ الخافضِ.
وثَانِيها: أَنَّ "ما" مَصْدَرِيَّةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: وضَلَّ عنهم مُدَّةَ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ.
وَثَالِثُها: أَنَّها نَافِيَةٌ; أَيْ مِنْ شِدَّةِ بُغْضِهِمْ لَهُ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ، لَمْ يَسْتَطِيعُوا الْإِصْغَاءَ إِلَيْهِ.
و "كَانُوا" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ، والواوُ: اسْمُها في محلِّ رَفْعِ، والأَلِفُ هي الفارِقَةُ، و "يَفْتَرُونَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ ولِذَلِكَ ثَبَتَتِ النُونُ في آخِرِهِ كَعَلامَةِ رَفْعٍ لَهُ، والواوُ الدّالَّةُ على الجَماعَةِ، وهذِهِ الجُمْلَةُ الفِعْليَّةُ في مَحَلِّ نَصْبِ خَبَرٍ ل "كانَ"، وجُمْلَةُ "كانَ" واسْمُها وخَبَرُها صِلَةُ "مَا" المَوْصُولَةِ، والعائدُ مَحْذوفٌ تَقْديرُهُ: ما يَفْتَرونَهُ.