وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ
(10)
قولُهُ ـ تباركت أسماؤه: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} وَكَذَلِكَ الحَالُ إِذَا أَصَابَتْهُمْ نِعْمَةٌ، بَعْدَ نَقْمَةٍ وَشِدَّةٍ. وَالنَّعْمَاءُ، بِالْمَدِّ وبِفَتْحِ النُّونِ: النَّعْمَةُ، مِنَ النُعومَةِ، أيْ: لينُ العيشِ، والمرادُ بها هنا النِّعْمَةُ الْحَاصِلَةُ بَعْدَ الضَّرَّاءِ، وَقد اخْتِيرَ هَذَا اللَّفْظُ، لِمُرَاعاةِ النَّظِيرِ فِي زِنَةِ اللَّفْظَيْنِ النَّعْمَاءِ وَالضَّرَّاءِ. وَإِنْ كَانَ لَفْظُ "النَّعْمَةِ" أَشْهَرُ. وَالْمَسُّ مُسْتَعْمَلٌ فِي مُطْلَقِ الْإِصَابَةِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ. وَاخْتِيَرَ للضَّرَّاءِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ إِصَابَةَ الضَّرَّاءِ أَخَفُّ مِنْ إِصَابَةِ النَّعْمَاءِ، وَأَنَّ لُطْفَ اللهِ شَامِلٌ لِعِبَادِهِ فِي كُلِّ حَالٍ.
قولُهُ: {لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} فَسَيَقُولُ: ذَهَبَ الضِيقُ وذهبتِ العُسْرَةُ عَنّي، وزالتِ الشدائدُ والمَكارِهُ ولَنْ يُصِيبَني بَعْدَ هذَا سُوءٌ وَلاَ ضَيْمٌ. إنْ هِيَ إِلَّا سَحَابَةُ صَيْفٍ انقَشَّعَتْ فعَلَيَّ أَنْ أَنْسَاهَا وأَنْ أَتَّمَتَّعَ بِالمَلاذَّ.
قولُه: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} فَرِحٌ: مِثَالُ مُبَالَغَةٍ، لِشَدِيدِ الْفَرَحِ، وَشِدَّةُ الْفَرَحِ: تَجَاوُزُهُ الْحَدَّ وَهُوَ الْبَطَرُ وَالْأَشَرُ، ومثلها "فَخُورٌ". وَالْفَخْرُ: تَبَاهِي الْمَرْءِ عَلَى غَيْرِهِ بِمَا لَهُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمَحْبُوبَةِ لِلنَّاسِ. فتحْمِلُهُمْ النعمةُ وذَهابُ السيئاتِ عَلَى الفَرَحِ بِمَتَاعِ الدُّنْيَا، وَعَلَى المُبَالَغَةِ فِي التَّفَاخُرِ عَلَى النَّاسِ، وانْشغالِ قَلْبِهم عَنْ شُكْرِ رَبِّهِمْ عَلَى نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ. فَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِي وُجُودِ خَالِقِ الْأَسْبَابِ وَنَاقِلِ الْأَحْوَالِ، وَالْمُخَالِفِ بَيْنَ أَسْبَابِهَا. وهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَتْمِيمٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّهَا حَكَتْ حَالَةً ضِدَّ الْحَالَةِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
قولُهُ تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} وَلَئِنْ: الواو: عاطفةٌ و اللامُ: مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ، و "إن" حرفُ شَرْطٍ، و " أَذَقْنَا" فعلٌ وفاعلُه، ومفعولاهُ الهاءُ و "نَعْمَاءَ" والجملةُ في مَحَلِّ جزمٍ بـ "إن" الشَرْطِيَّةِ، و "بَعْدَ" ظَرْفٌ، مُتَعَلِّق بـ "أَذَقْنَا" وهو مضافٌ، و "ضَرَّاءَ" مضافٌ إِلَيْهِ، و "مَسَّتْهُ" فِعْلٌ ماضٍ والتاءُ للتأنيث، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ جوازاً تقديرهُ "هي" يعودُ على "ضَرَّاءَ" والهاءُ مَفعولُه، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ جَرِّ صِفَةٍ لـ "ضَرَّاءَ".
قولُهُ: {لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} لَيَقُولَنَّ" اللام: مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ مُؤَكِّدَةٌ للأُولى، و "يقولن" فِعْلٌ مُضارعٍ مبنيٌّ على الفتحِ لاتِّصالِهِ بِنُونِ التَوْكيدِ الثقيلةِ، في مَحَلِّ الرَفْعِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ جوازاً تقديرُهُ "هو" يَعودُ على الإنسانِ، والجُمْلَةُ جَوابُ القَسَمِ لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ، وجَوابُ الشَرْطِ مَحْذوفٌ تَقْديرُهُ: وإنْ أَذَقْنَاهُ نَعماءَ .. يَقولُ: ..، وجملةُ الشَرْطِ مَعَ جَوابِهِ، وكَذا القَسَمُ مَعَ جَوابِهِ مَعطوفَةٌ على جملة: "وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ". و "ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ" فِعْلٌ ماضٍ وفاعلُه، و "عَنِّي" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، والجملةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقول.
قولُه: {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} إِنَّهُ: ناصِبٌ ناسخٌ والهاءُ اسْمُها، "لَفَرِحٌ" اللامُ مزحلقةٌ للتوكيدِ و "فرحٌ" خبرُ "إنَّ" و "فَخُورٌ" صِفَةٌ ل "فرح" أَوْ خبرٌ ثانٍ، وجُمْلَةُ "إنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسَوقَةٌ لِتَعْليلِ القَوْلِ.
قرأ الجمهور: {لَفَرِحٌ} بِكَسْرِ الراءِ، وَهوَ قياسُ اسْمِ الفاعلِ مِنْ فَعِلَ اللازمُ بِكَسْرِ العينِ، نحْو: أَشِرَ فهُوَ أَشِرٌ، وبَطِرَ فهو بَطِرٌ. وقرئَ شاذّاً "لَفَرُح" بِضَمِّ الراءِ نَحو: يَقِظٌ ويَقُظٌ، ونَدِسٌ ونَدُسٌ.