أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
قولُهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلاَ إنَّهُمُ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} حَوَّلَ أُسْلُوبَ الْكَلَامِ عَنْ مُخَاطَبَةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بِمَا أُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ إِلَى إِعْلَامِهِ بِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِ هؤلاءِ الَّذِينَ أُمِرَ بِالتَّبْلِيغِ إِلَيْهِمْ، وهوَ جَهْلُهُمْ بِإِحَاطَةِ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى بِكُلِّ حَالٍ منْ أحوالِ الْكَائِنَاتِ مِنَ الذَّوَاتِ وَالْأَعْمَالِ ظَاهِرِهَا وَخَفِيِّهَا، فَقَدَّمَ لِذَلِكَ إِبْطَالَ وَهْمٍ مِنْ أَوْهَامِ أَهْلِ الشِّرْكِ أَنَّهُمْ فِي مُكْنَةٍ مِنْ إِخْفَاءِ بَعْضِ أَحْوَالِهِمْ عَنِ اللهِ تَعَالَى. والعَرَبُ تُدْخِلُ "أَلا" إمّا تَوكيداً، أو إِيجاباً أو تَنْبيهاً. فافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ "أَلا" إنّما هو لِلِاهْتِمَامِ بِمَضْمُونِهِ لِغَرَابَةِ أَمْرِهِمُ الْمَحْكِيِّ وَلِلْعِنَايَةِ بِتَعْلِيمِ إِحَاطَةِ عِلْمِ اللهِ تَعَالَى. و "يثنون صدورهم" أيْ: يُعْرِضونَ عن الحقِّ، ويَطْوونَ صُدورَهم على ما فيها مِنْ حِقْدٍ وحَسَدٍ وعَداوةٍ للنَبِّيِ الكريم ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم. يُقالُ: ثَنَيْتُ الشَيْءَ أثْنيهِ إذا عَطَفْتُهُ وطَوَيْتُهُ. وَأَصْلُ اشْتِقَاقِهِ مِنَ اسْمِ الِاثْنَيْنِ. يُقَالُ: ثَنَاهُ بِالتَّخْفِيفِ، إِذَا جَعَلَهُ ثَانِيًا، يُقَالُ: هَذَا وَاحِدٌ فَاثْنِهِ، أَيْ كُنْ ثَانِيًا لَهُ، فَالَّذِي يَطْوِي الشَّيْءَ يَجْعَلُ أَحَدَ طَاقَيْهِ ثَانِيًا لِلَّذِي قَبْلَهُ فَثَنْيُ الصُّدُورِ: إِمَالَتُهَا وَحَنْيُهَا تَشْبِيهًا بِالطَّيِّ. وَهَذَا الْكَلَامُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَمْثِيلًا لِهَيْئَةٍ نَفْسِيَّةٍ بِهَيْئَةٍ حِسِّيَّةٍ. فهم يَثْنونَ صُدورَهم على الكُفْرِ لِيَسْتَخْفوا مِنَ اللهِ تَعالى، أو يَثْنونَها على عداوةِ النَبِيِّ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، لِيُخفوها عَنْه. وَقَدْ أَشَارَتْ الْآيَةُ إِلَى مَا كانَ يَفْعَلُهُ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَدْخُلُ بَيْتَهُ وَيُرْخِي السِّتْرَ عَلَيْهِ وَيَسْتَغْشِي ثَوْبَهُ وَيَحْنِي ظَهْرَهُ وَيَقُولُ: هَلْ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قَلْبِي؟ وَذَلِكَ مِنْ جَهْلِهِمْ بِعَظَمَةِ اللهِ. فَقد أخرجَ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قال: اجْتَمَعَ عِنْدَ الْبَيْتِ قُرَيْشِيَّانِ وَثَقَفِيٌّ، كَثِيرَةٌ شَحْمُ بُطُونِهِمْ، قَلِيلَةٌ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: أَتَرَوْنَ أَنَّ اللهَ يَسْمَعُ مَا نَقُولُ؟ قَالَ الْآخَرُ: يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا وَلَا يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا. وَقَالَ الْآخَرُ: إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا فَإِنَّهُ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى قولَهُ في سورة فُصِّلَتْ: {وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ} الآيتان: 22، 23.
قولُه: {لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} أَيْ: إنَّهم يُحاوِلُون الخَفاءَ مِنَ اللهِ تعالى، أَوْ يحاولونَ أنْ يَتَوارَوا عَنْ سيدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وَالِاسْتِخْفَاءُ: الِاخْتِفَاءُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلُ اسْتَجَابَ وَاسْتَأْخَرَ.
قولُهُ: {أَلاَ حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمُ} يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يتغطون بها، الِاسْتِغْشَاءُ: التَّغَشِّي بِمَا يُغَشِّي، أَيْ يَسْتُرُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلُ قَوْلِهِ تعالى في سورة نوح: {وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ} الآية: 7. يَعْني حينَ يَلْبَسونَ ثِيابَهم ويَتَغَطَّوْنَ بِها، ومِنْ ذَلِكَ قولُ الخَنْساءِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْها:
أرعى النجومَ وما كُلّفتُ رِعْيَتَها ........... وتارةً أَتَغَشّى فَضْلَ أَطْماري
قولُهُ: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أيْ: "يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ" في قلوبِهم وَ "ما يُعْلِنُونَ بأَفواهِهم، أوْ: "يعلم ما يسرون" مِنَ الإيمانِ وما يُعْلِنونَ مِنَ العِباداتِ. أوْ: "ما يُسِرُّونَ" مِنْ عَمَلِ الليْلِ، و "ما يعلنون" منْ عَمَلِ النَهار. فاللهُ تَعالى يَسْتَوي في عِلْمِهِ سِرُّهُم وعَلَنُهم، فكَيْفَ يَخْفَى عَلَيْهِ ما عَسَى يُظْهِرونَه؟.
قولُهُ: {إنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} عليمٌ: هذه الصيغةُ للمُبَالَغَةِ وَهُوَ عَلِيمٌ لِاسْتِقْصَاءِ التَّعْبِيرِ عَنْ إِحَاطَةِ الْعِلْمِ بِكُلِّ مَا تَسَعُهُ اللُّغَةُ الْمَوْضُوعَةُ لِمُتَعَارَفِ النَّاسِ فَتَقْصُرُ عَنْ أَلْفَاظٍ تُعَبِّرُ عَنِ الْحَقَائِقِ الْعَالِيَةِ بِغَيْرِ طَرِيقَةِ اسْتِيعَابِ مَا يَصْلُحُ مِنَ الْمُعَبِّرَاتِ لِتَحْصِيلِ تَقْرِيبِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ. وَذَاتُ الصُّدُورِ: الْأَشْيَاءُ الْمُسْتَقِرَّةُ فِي النُّفُوسِ الَّتِي لَا تَعْدُوهَا. فأضيفت إِلَيْهَا. كَلِمَةُ (ذَاتِ) مُؤَنَّثُ (ذُو) يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الْوَصْفِ بِأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ، أَيْ: إنَّهُ ـ سبحانَهُ وتعالى، عليمٌ بأَسْرارِ ذاتِ الصُدورِ، أَوْ بالقُلُوبِ وأَحْوالِها. وهذه الجملةُ نَتِيجَةٌ وَتَعْلِيلٌ لِلْجُمْلَةِ قَبْلَهُ، أَيْ يُعْلَمُ سِرَّهُمْ وَجَهْرَهُمْ لِأَنَّهُ شَدِيدُ الْعِلْمِ بِالْخَفِيِّ فِي النُّفُوسِ وَهُوَ يَعْلَمُ الْجَهْرَ بِالْأَوْلَى. وَالمُرَادُ بِالصُّدُورِ النُّفُوسُ لِأَنَّ الْعَرَبَ يُعَبِّرُونَ عَنِ الْحَوَاسِّ الْبَاطِنِيَّةِ بِالصَّدْرِ.
ومما وَرَدَ في سَبَبِ نُزُولِ هذِهِ الآية الكريمةِ: ما أَخْرَجَهُ الْوَاحِدِيُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ الثَّقَفِيِّ حَلِيفِ بَنِي زَهْرَةَ، وَكَانَ رَجُلاً حُلْوَ الْمَنْطِقِ، وَكَانَ يُظْهِرُ الْمَوَدَّةَ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُنْطَوٍ عَلَى عَدَاوَتِهِ، أَيْ عَدَاوَةِ الدِّينِ، فَضَرَبَ اللهُ ثَنْيَ الصُّدُورِ مَثَلًا لِإِضْمَارِهِ بُغْضَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَهُوَ تَمْثِيلٌ وَلَيْسَ بِحَقِيقَةٍ. وَأخرج الْبُخَارِيِّ في صَحِيحِه أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَسْتَخْفُونَ أَنْ يَتَخَلَّوْا فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ وَأَنْ يُجَامِعُوا نِسَاءَهُمْ فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ لَا يُنَاسِبُ مَوْقِعَ الْآيَةِ وَلَا اتِّسَاقَ الضَّمَائِرِ. فَلَعَلَّ مُرَادَ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ تَنْطَبِقُ عَلَى صَنِيعِ هَؤُلَاءِ وَلَيْسَ فِعْلُهُمْ هُوَ سَبَبُ نُزُولِهَا.
وقيلَ: إنَّها نَزَلتْ في بَعْضِ المُنافقينَ، كانَ إِذا مَرَّ بِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ثَنَى صَدْرَهُ وظَهْرَهُ وطَأْطَأَ رَأْسَهُ وغَطَّى وجْهَهُ لِئَلاَّ يَراهُ رَسُولُ اللهِ. قالَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ شَدَّادٍ.
قولُهُ تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} أَلَاَ: حرف تنبيه، "إِنَّهُمْ" ناصِبٌ ناسخٌ واسْمُهُ. و "يَثْنُونَ" فِعْلٌ مضارعٌ مرفوعٌ وعلامة رفعه ثبوت النون لأنه من الأفعل الخمسة، وفاعلُهُ واو الجماعة، وفيه إِعْلالٌ بالتَسْكينِ وإِعْلالٌ بالحَذْفِ، فإنَّ أَصْلَهُ "يُثْنِيُونَ" بِضَمِّ الياءيْنِ، واسْتُثْقِلَتِ الضَمَّةُ على الياءِ الثانِيَةِ فَسُكِّنَتْ ونُقِلَتْ حَرَكَتُها إلى النونِ - إِعْلال بالتسكين، ثَمَّ حُذِفَتِ الياءُ لالْتِقائِها ساكِنَةً معَ واوِ الجَماعَةِ - إعلالٌ بالحذفِ، وَزْنُهُ "يَفْعون". و "صُدُورَهُمْ" مفعولُهُ منصوبٌ وهو مُضافٌ، والهاءُ مُضافٌ إِلَيْهِ، والمِيمُ علامَةُ جَمْعِ المُذَكَّرِ، وجُمْلَةُ "يَثْنُونَ" في مَحَلِّ رَفْعِ خَبَرِ "إنَّ" وجُمْلَةُ "إنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ. و "لِيَسْتَخْفُوا" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ وتَعْليلٍ "يستخفوا" فِعْلٌ مضارعٌ منصوبٌ بـِ "أَن" مُضْمَرَةٍ جَوازًا بَعْد لامِ كَيْ. وعلامة نصبه حذفُ النون من آخره لأنَّه من الأفعال الخمسةِ، وفاعِلُهُ واو الجماعة والألفُ هي الفارقةُ، "مِنْهُ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِ "يستخفوا"، و في "يستخفوا"، إِعْلالٌ بالتَسْكِينَ، وإعلالٌ بالحذْفِ جَرى فِيه مُجْرى "يثنون" وزْنُهُ "يستفعون". والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ مَعَ "أَن" المَصْدَرِيَّةُ في تأويلِ مَصْدَرٍ مَجرورٍ باللامِ تَقديرُهُ: لاسْتِخْفائهم مِنْهُ. ولامُ الجَرِّ ومَجْرورُها مُتَعَلِّقٌ بـِ "يَثْنُونَ".
قولُهُ: { أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} ألاَ: حرْفُ تَنْبيهٍ كُرِّرَ للتَأْكِيدِ. و "حِينَ" مَنْصوبٌ عَلى الظَرْفِيَّةِ، والظَرْفُ مُتَعَلِّقٌ بـِ "يَسْتَخْفوا" أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَعْلَمُ" الآتي، وهوَ أَوْضَحُ كَما مَرَّ، و "يَسْتَغْشُونَ" فِعْلٌ مضارع مرفوعٌ وعلامة رفعه ثبوتُ النون في آخره لأنَّهُ من الأفعال الخمسة، وفاعِلُه واوُ الجماعةُ، وفيه، إِعْلالٌ بالتَسْكينِ أيضاً وإعلالٌ بالحَذْفِ كما تقدَّم في "يثنون" وَزْنُهُ "يَستفعون". و "ثِيَابَهُمْ" مُفعولُهُ وهو مضافٌ، و والهاء مضافٌ إليه والميم علامَةُ المُذكَّر، و "ثياب"، جمعُ ثَوْبٍ، وهو اسْمٌ جامِدٌ بِمَعْنى اللِّباسِ، وَزْنُهُ "فَعْل" بِفَتْحٍ فَسُكونٍ، وَوَزْنُ "ثياب" "فِعال" بِكَسْرِ الفاءِ. والجملة في محلَّ الجرِّ بإضافَةِ "حين" إِلَيْهِ، و "يَعْلَمُ" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ جوازاً تقديرُهُ "هو" يَعودُ عَلى "الله" تعالى، و "مَا" موصولٌ في محلِّ نَصبِ مفعولٍ به، والجُمْلَةُ مُسْتَأنَفَةٌ. و "يُسِرُّونَ" فُعْلٌ مضارعٌ مرفوعٌ وعلامة رفعه ثبوت النون في آخره لأنَّه من الأفعال الخمسة والواو الدلَّةُ على الجماعة فاعلُه، والجُمْلَةُ صِلَةُ الموصولِ "مَا" أَوْ صِفَةٌ لَها، والعائدُ أَوِ الرابِطُ مَحْذوفٌ، تَقديرُهُ: يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَه. و "مَا يُعْلِنُونَ" مَعْطُوفٌ على "مَا يُسِرُّونَ". وله نفسُ الإعراب. ثمَّ إنَّ ما بينَ "يسرّون" و "يغلنونَ" طباقٌ وهو من البديع.
قولُهُ: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} إِنَّهُ: إنَّ: حرفٌ ناصبٌ ناسِخٌ والهاءُ: في محلِّ نصبِ اسْمِه، و "عَلِيمٌ" خَبَرُهُ، و "بِذَاتِ" جارٌّ ومجرورٌ مضافٌ مُتَعَلِّقٌ بِ "عليم" و "الصُّدُور" مجرورٌ بالإضافة إليه، وجملة "إنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ ما قَبْلِها. والله أعلم.
قرأَ الجُمْهورُ: {يَثْنُونَ} بفتح الياءِ وضَمِّ النون، مِنْ ثَنَى يَثْني،
وبابه "رمى". وقرأ سعيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "يُثْنون" بِضَمِّ الياءِ، مُضارِعُ أَثْنى الرُباعيِّ ومعناهُ: عَرَضوها للإثْناءِ، كما تَقولُ: بِعْتُ الفَرسَ، إذا عَرَضْتَهُ للبيع. وقرأَ ابْنُ عَبَاسٍ وعَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ وابْناهُ، زَيْدٌ ومُحَمَدٌ، وابْنُهُ جَعْفَرَ، وقرأ مجاهدٌ وابْنُ يَعْمُرَ، ونَصْرُ بْنُ عاصِمٍ، وعبدُ الرَحمنِ بْنِ أَبْزى، والجَحْدَرِيُّ، وابْنُ أَبي إسْحاقَ، وأَبو الأَسْوَدِ الدُؤَلِيُّ وأَبو رَزينٍ والضَحَّاكُ.
فقد أَخْرَجَ البُخارِيُّ، وابْنُ جَريرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ وابْنُ مِرْدُوَيْهِ، مِنْ طَريقِ مَحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما. أَنَّهُ قَرَأَ: "ألاَ إنَّهمْ يُثْنونَ صُدورُهم" وأخرج البخاري وابن مِرْدُوَيْهِ مِنْ طَريقِ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه، قال: قرأَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: أَلاَ إِنْهم تَثَنّوا في صًدورهم. واللهُ أعلم.
تَمَّ بِحَمْدِهِ تَعالى ومِنَّتِهِ وعَظيمِ فَضْلِهِ عَلى عَبْدِهِ الجزءُ الحادي عَشَرَ مِنْ الموسوعة القرآنِيَّةُ فَيْضُ العَليم، بِتاريخ: 17/ من ذي القعدة / 1436، لهجرة سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، الموافق: 1/9/ 2015م. ويليه الجزء الثاني عَشَرَ بِمَشيئَتِهِ سُبحانَه وفَيْضِ مَدَدِهِ.