وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ
(3)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ ُثمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ} فابْتَدئوا باسْتِغْفاركم، ثمَّ تُوبوا بِتَرْكِ أَوْزارِكم، والتَنَقِّي عَنْ إِصرارِكُم. أيْ: اسْتَغْفِروا رَبَّكم مِنْ ذُنوبِكم التي فَعَلْتُموها ثُمَّ تُوبوا إِلَيْهِ مِنْ ذُنُوبٍ تَفْعَلونَها، ف "ثُمَّ" على حالها مِنَ التَراخي في الزمانِيِّ.
وقيل: الاستغفارُ هوَ التوبةُ بَلْ هوَ تَرْكُ المَعْصيَةِ والتوبةُ هيَ الرُجوعُ إلى الطاعَةِ ولَئِنْ سُلِّمَ أَنَّهُما بمَعْنىً ف "ثم" للتَراخي في الرُتْبَةِ، والمُرادُ بالتَوبَةِ الإخلاصُ فيها، والاسْتِمْرارُ عَلَيْها. وقالَ بَعْضُ المُحَقِّقينَ: الاسْتِغْفارُ هوَ التَوْبَةُ إلاَّ أنَّ المُرادَ بالتَوْبَةِ في جانِبِ المَعْطوفِ التَوَصُّلُ إلى المَطْلوبِ مَجازاً مِنْ إِطْلاقِ السَبَبِ عَلى المُسَبِّبِ. و "ثُمَّ" على ظاهرِها وهيَ قرينةٌ على ذَلِكَ.
وأَصْلُ مَعنى الاستغفارِ طَلَبُ الغُفْرانِ، أيْ سَتْرُ النوبِ ومعنى التَوْبَةِ الرُجوعُ، فيُطْلَقُ الأوَّلُ عَلى طَلَبِ سَتْرِ الذَنْبِ مِنَ اللهِ تَعالى والعَفْوِ عنْهُ، ويطلقُ الثاني على النَدَمِ عَلَيْهِ مَعَ العَزْمِ على عَدَمِ العَوْدِ إلى الذنبِ فلا اتِّحادَ بَيْنَهُما، بَلْ ولا تَلازُمَ بينهما عَقْلاً، لكنِ اشْتُرِطَ شَرْعاً لِصِحَّةِ ذلِكَ الطَلَبِ وقبولِهِ النَدَمُ على الذَنْبِ مَعَ العَزْمِ على عَدَمِ العَوْدِ إِلَيْهِ، وجاءَ أَيْضاً استعمالُ الأوَّلِ في الثاني، والاحتياج إلى توجيه العطف على هذا ظاهر، وأَمَّا على ذاكَ فلأَنَّ الظاهِرَ أَنَّ المُرادَ مِنَ الاسْتِغْفارِ المَأْمورِ بِهِ الاسْتِغْفارُ المَسْبوقُ بالتَوْبَةِ بمَعنى النَدَمِ فَكَأَنَّهُ قيلَ: اسْتَغْفِروا رَبَّكم بَعْدَ التَوْبَةِ ثمَّ تُوبوا إليْهِ ولا شُبْهَةَ في ظُهُورِ احْتِياجِهِ إلى التَوْجيهِ حِينَئِذٍ، والقَلْبُ يَميلُ فيهِ إلى حَملِ الأَمْرِ الثاني على الإخلاصِ في التوبةِ والاسْتِمْرارِ عَلَيْها، والتَراخِي عَلَيْهِ يَجوزُ أَنْ يَكونَ رُتَبِيًّا ويجوزُ أَنْ يكونَ زَمانِيّاً كَما لا يَخْفى.
قولُهُ: {يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إلى أجلٍ مسمَّى} يَعْني إِنَّكم إذا فَعَلْتُمْ ما أُمِرْتُمْ بِهِ مِنَ الاسْتِغْفارِ والتَوْبَةِ، وأَخْلَصْتُمُ العِبادَةَ للهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، بَسَطَ عَلَيْكم مِنَ الدُنيا وأَسْبابِ الرِزْقِ ما تَعيشونَ بِهِ في أَمْنٍ وسَعَةٍ وخيْرٍ، طيلةَ حياتكم، أيْ: يمتِّعُكم تَمْتيعاً حَسَناً، فقيلَ: هو طيبُ النَفْسِ وسَعَةُ الرِزْقِ، وقيلَ: هو الرضا بالمَيْسورِ، والصَبْرِ على المَقدورِ. وقيل: هو ترْكُ الخَلْقِ، والإقبالُ على الحَقِّ، وقيلَ: هو الحلالُ الكافي الذي لا كَدَّ فيه ولا طَلَبٍ، المُقْتَرِنُ بالصِّحَّةِ والعافِيَةِ. والحَسَنُ لإفادَةِ أَنَّها حَياةٌ طَيِّبَةٌ وهو هنا: هو الخالصُ مِنَ المُكَدِّراتِ والمُنَغِّصاتِ، الطويلُ بَقاؤهُ لِصَاحِبِهِ مدى حياتِه. والأجلُ المسمَّى: هوَ الموتُ الذي قَضاهُ اللهُ تَعالى، على عِبادِهِ جَمِيعاً، وقدَّرَهُ على جَميعِ مَخلوقاتِهِ، والمعنى: أَنَّهُ لا يَسْتَأْصِلُهم، كما اسْتَأْصَلَ مَنْ جَحَدوا رَبَّهم، وكذَّبوا نَبيَّهم فيمن كانَ قَبْلَهم مِنْ أَمَمِ.
وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتِمٍ، وأَبو الشَيْخِ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في قولِهِ تعالى: "يُمَتِّعكُمْ مَتَاعاً حَسَناً" قال: فأَنْتُمْ في ذَلِكَ المَتَاعِ فَخُذوهُ بِطاعَةِ اللهِ ومعرفَةِ حَقِّهِ، فإنَّ اللهَ مُنْعِمٌ يُحِبُّ الشاكِرينَ، وأَهلُ الشِكْرِ في مَزيدٍ مِنَ اللهِ سبحانه، وذَلِكَ قَضاؤهُ الذي قَضى.
قولُهُ: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} الفضلُ: هو إعطاءُ الخَيْرِ. وقد سُمِّيَ فَضْلاً لأنَّ الغالِبَ أَنَّ فاعِلَ الخيرِ إنّما يَفْعَلُهُ بما هوَ فاضِلٌ عَنْ حاجَتِهِ. وهذا فيما يَتَعَلَّقُ بالمَخْلوقِ، أَمَّا فيما يتعلَّقُ بالخالقُ ـ سبحانَهُ وتعالى، فإنَّهُ المُتَفَضِّلُ بكلِّ شيءٍ ولا حاجَةَ لَهُ في شَيْءٍ أبداً. وإنَّما يؤتيه لمن شاءَ من عباده بالقدرِ الذي يشاءُ تَكَرُّماً منه وجُوداً.
والإيتاءُ: الإعْطاءُ، وهذا التَفَضُّلُ هو المَتَاعُ الحَسَنِ الذي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فيُعْلَمُ أَنّهُ إِعْطاءُ نَعيمِ الآخِرَةِ. فالفَضْلُ الأَوَلُ: العَمَلُ الصالِحُ، بِقَرينَةِ مُقابَلَتِهِ بِفَضْلِ اللهِ الغَنِيِّ عَنِ النَّاسِ. والفَضْلُ الثاني المُضافُ إلى ضَميرِ الجَلالَةِ: هوَ ثوابُ الآخِرَةِ، بِقَرينَةِ مُقابَلَتِهِ بمَتاعِ الدُنْيا. والمعنى: أنَّه ـ سبحانه، يُعطي فَضْلَهُ كُلَّ ذِي فَضْلٍ في عَمَلِهِ. مكافأةً لَهُ، ولمَّا عَلَّقَ الإيتاءَ بالفَضْلَيْنِ عُلِمَ أَنَّ مِقْدارَ الجَزاءِ بُقَدَّرُ المَجْزي عَلَيْهِ، و لا يعلمُ ضَبْطَ ذَلك إلاَّ اللهُ تعالى، وهوَ سِرٌّ بَيْنَه وبينَ عبده.
قولُهُ: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} فإذا تولَّوا عن دُعائكَ لهم، وأَعْرَضُوا عَنْ طريقِ الحَقِّ واتِّباعِ سَبِيلِ المُؤْمنين، المُتَفَضِّلِينَ إخوانِهِمُ المُحْتاجينَ بِما زادَ عَنْ حاجَتِهِم، فَبَلِّغْهم ـ يا رسولَ اللهِ، خوفَكَ عَلَيْهِم وخَشْيَتِكَ مِنْ عَذابٍ أَليمٍ يطالُهُم يومَ القيامةِ. وقد نُكِّرَ "يوم" للتَهْويلِ، ووَصْفُهُ بالكِبَرِ زِيادَةٌ في التَهْويلِ عليهِم. والمُرادُ بالكِبَرِ الكِبَرُ المَعْنَوِيُّ، وهوَ شِدَّةُ ما يَقَعُ عليهم في ذلك اليومِ، مِنْ عذابٍ، فَوَصْفُ اليومِ بالكِبَرِ هوَ مِنَ المَجازِ العَقْليِّ.
قولُهُ تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} الواو: حرفُ عطفٍ، و "أنْ" حرفٌ ناصِبٌ، و "اسْتَغْفِروا فعلُ أمرٍ مَبْنِيٍّ على حذفِ النُونِ لأنَّه من الأفعالِ الخمسةِ، والواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ فاعلُهُ، والألفُ فارقةٌ، و "ربَّ" مفعولٌ بهِ منصوبٌ وهو مضافٌ، والكافُ في محلِّ جرٍّ بالإضافةِ، والميمُ عَلامَةُ جَمْعِ المُذَكَّرِ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ {أَنْ لَا تَعْبُدُوا} من الآية السابقة عطفَ جملةِ عِلَّةٍ عَلى جملةِ علِّةٍ مِثْلِها.
قولُهُ: {ثُمَّ تُوبُوا إليه} ثُمَّ: حرفُ عطف، وهوَ هُنَا على بابِهِ مِنَ التَراخي؛ لأنَّه يَسْتَغْفِرُ أَوّلاً، ثُمَّ يَتُوبُ ويَرْجِعُ إلى طاعَتِهِ سبحانه، ويَتَجَرَّدُ مِنْ ذَلِكَ الذَنْبِ المُسْتَغْفَرِ مِنْهُ. وجملةُ: "تُوبُوا" مثلُ: "استغفروا" مَعْطوفةٌ عَليْها، فهيَ عِلَّةٌ ثالثةٌ. و "إِلَيْهِ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِ "توبوا".
قولُهُ: {يُمَتِّعْكُمْ متاعاً حَسَناً} يُمَتِّعْكُمْ: فِعْلٌ مضارعٌ مجزومٌ بالشرط على أنَّهُ جوابُه، وفاعلُه ضَميرٌ مستترٌ جوازاً تقديرُه "هو" يعودُ على اللهَ تعالى. ومفعولُهُ الكافُ والميم للجمع المذَكَّرِ، و "مَتَاعاً" مَنْصوبٌ على المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ. نائبٌ عَنْ مَصْدَرِهِ الأَصْليِّ "تمتيع"، و "حَسَناً" صِفَةٌ لَهُ، وهذا مُرَتَّبٌ عَلى قولِهِ: "وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا" وهذه الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ لا محلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ لأنَّها جوابُ الطَلَبِ. و "إِلَى أَجَلٍ" جارٌّ ومَجرورٌ متعلِّقٌ بِـ "يمتع"، و "مُسَمًّى" صِفَةٌ لِ "أَجَلٍ" ممجرورٌ مثله وعلامةُ جرِّهِ كسرةٌ مقدرة على آخره.
قولُهُ: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} الواو: للعطف، "يُؤْتِ" فعلٌ مُضارِعٌ مَعْطوفٌ على: "يُمَتِعْ" وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ جوازاً تقديرُهُ "هو" يعود على "اللهَ". وهذا مرتَّبٌ على قولِهِ: "ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ" كَما في الجُمَلِ. و "كُلَّ ذِي فَضْلٍ" كلَّ: مفعولٌ أَوَّل، وهم مُضافٌ، و "ذي" مضافٌ إليه أوَّل وهو مضافٌ أيضاً. و "فضلٍ" مضافٌ إليه مجرورٌ، و "فَضْلَهُ" مَفْعولٌ به ثانٍ, لأنَ آتى هُنَا بِمَعنى: أَعْطَى.
قولُهُ: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} الوَاوُ: استئنافيَّةٌ، و "إنْ" حَرْفُ شَرْطٍ. و "تَوَلَّوْا" فعلٌ مُضارِعٌ مَجْزومٌ بِـ "إن" الشَرْطِيَّةِ؛ وعلامة جزمهِ حذفُ النون من آخرهِ لأنَّه من الأفعالِ الخمسةِ فأَصْلُهُ "تَتَوَلَّون" بتاءيْنِ، والواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ فاعلُه. و "فَإِنِّي" الفاءُ رابطةٌ لِجَوابِ الشَرْطِ وُجُوبًا. و "إِنِّي" ناصِبٌ ناسخٌ والياءُ اسمُه، و "أَخَافُ" فعلٌ مُضارعٌ وفاعلُه ضَمِيرٌ مستترٌ وجوباً تقديرُ "أنا" يَعودُ على سيدنا محمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلّمَ. و "عَلَيْكُمْ" جارٌّ وجرورٌ مُتَعَلِّقٌ ب "أخاف" والميمُ للجمع المذَكَّر. و "عَذَابَ" مَفْعولٌ بِهِ وهو مضافٌ، و "يَوْمٍ" مُضَافٌ إِلَيْهِ. و "كبَير" صِفَةٌ لِـ "يَوْمٍ"، وقيلَ: صِفَةٌ لـ "عَذَابَ" فهوَ مَنْصوبٌ، وإنَّما خُفِضَ عَلى الجِوارِ، كما في قولهم: هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ، بِجَرِّ خَرِبٍ، وهوَ صَفَةٌ لِ "جُحْرُ". وجملةُ "أَخَافُ" في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَراً ل "إنَّ" وجملَةُ "إنَّ" في مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "إنْ" الشَرْطِيَّةِ عَلى أنَّها جَوابٌ لِها، وجُمْلَةُ "إن" الشَرْطِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ.