مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
(113)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} أي: أنَّهُم غيرُ مؤهَّلين البَتَّةَ لأنْ يَسْتَغْفِروا للمُشْرِكين، فإنَّ قولهم: ما كانَ لكَ أَنْ تَفعل، يعني: أَنَّكَ غَيرُ مُؤَهَّلٍ لِفِعْلِ هَذا مُطْلَقاً.
وفيه مَنْعُ الاسْتِغْفارِ للمُشْرِكين إذا كانوا مَيْؤوساً مِنْ إيمانهم، إمَّا بِسببِ مَوْتِهم على الكفرِ، كما قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في العاصي بْنِ وائلٍ، لمَّا ذُكِرَ: (لا جَزَاهُ اللهُ خيراً)، وإمَّا بِنَصٍّ مِنَ اللهِ تَعالى عَلى كُفْرِ أَحَدٍ، كأَبي لَهَبٍ وغيرِهِ، فيَمْتَنِعُ الاسْتِغفارُ لَهُ وهوَ حَيٌّ.
فقد أوجبَ سبحانه التبرُّؤَ مِنَ الكُفَّارِ أَمْواتاً، كما سبق أنْ أَوْجَبَ التبرُّؤَ مِنْهم أَحياءً فيما تقدَّمَ مِنْ آيات، وجاءَتْ هذِه الآيةُ لِتَقْطَعَ مُوالاةِ الكُفَّارِ حَيِّهم ومَيِّتِهم. فإنَّ اللهَ تعالى لم يُجِزْ للمُؤمنين أَنْ يَسْتَغْفِروا للمُشْرِكينَ. لأنَّ طلبَ الغُفْرانِ للمُشْرِكِ لَيْسَ بجائزٍ, فقد نَسَخَتْ هَذِهِ الآيةُ التَِخْييرَ المُتَقَدِّمَ في قولِهِ تَعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية:80. وكان فيهِ تَسْوِيَةٌ بين أَنْ يَسْتَغْفِرَ النَبيُّ ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، لهم وبَينَ أَنْ لا يَسْتَغْفِرَ في انْتِفاءِ أَهَمِّ الغَرَضَينِ مِنَ الاسْتِغْفارِ، وهُوَ حُصولُ الغُفرانِ، فبَقِيَ للتَخْييرِ غَرَضٌ آخَرُ وهُوَ حُسْنُ القَوْلِ لِمَنْ يَرَى النَبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، أَنَّهُ أَهْلٌ للمُلاطَفَةِ لِذاتِهِ، أوْ لِبَعْضِ أَهْلِهِ، كما كانَ الأمر مع عبدِ اللهِ ابْنِ أُبيِّ.
قولُهُ: {وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} فِيه دَعْوَةٌ لِلنَّبِيَّ وَالمُؤْمِنِينَ إِلَى عَدَمِ الاسْتِغْفَارِ لِلْكَافِرِينَ الَّذِينَ مَاتُوا عَلَى شِرْكِهِمْ وَلَوْ كَانُوا أَقْرِبَاءَهُمْ. وجمهورُ العلماءِ على أَنَّهُ لا بأْسَ أَنْ يَدْعو المؤمنُ لأَبَوَيْهِ الكافِرَيْنِ ما داما حَيَّيْنِ، فإَذا ماتا على الكفرِ، فَقدِ انْقَطَعَ الرَّجاءُ بإيمانهما فلا يَدْعو لهما. لما أَخرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ، مِنْ طَريقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهم، قَوْلُهُ: "مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ". وَكَانُوا يَسْتَغْفِرُونَ لَهُمْ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، فَلَمَّا نَزَلَتْ أَمْسَكُوا عَنِ الاسْتِغْفَارِ، وَلَمْ يَنْتَهُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلأَحْيَاءِ، حَتَّى يَمُوتُوا، ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} يَعْنِي: اسْتَغْفَرَ لَهُ مَا كَانَ حَيًّا، فَلَمَّا مَاتَ أَمْسَكَ عَنِ الإِسْتِغْفَارِ".
ورُوِيَ لَمَّا حَضَرَتِ الوَفَاةُ أَبَا طَالِبٍ، عَمَّ رَسُولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، دَخَلَ عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ، مِنْهُمْ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أُمَيَّة، فَقَالَ لَهُ: أَيْ عَمُّ، قُلْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ، كَلمةٌ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ. فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ وَعُبْدُ اللهِ بْنُ أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ؟ فَقَالَ أَنَا عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ. فَقَالَ النَّبِيُّ: لأَسْتَغِفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ. واسْتَبْعَدَ بَعْضُهم ذَلِكَ، لأَنَّ مَوْتَ أَبي طالبٍ كانَ قبلَ الهِجْرَةِ بِثَلاثِ سِنينَ، وهذِهِ السُورَةُ مِنْ أَواخِرِ ما نَزَلَ بالمَدينَةِ. ولا يَنْفي هذا أَنْ تَكونَ نَزَلَتْ في مَنْعِ اسْتِغْفارِهِ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، لِعَمِّهِ أَبي طالِبٍ لثَلاثَةِ أَسْبابٍ، أَوَّلُها: أَنَّ الخَبرَ صَحيحٌ أَخْرَجَهُ الشَيْخانِ وغيرُهما.
وثانيها: لأنَّهُ لا مانِعَ مِنْ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، كانَ يَسْتَغْفِرُ لأَبي طالِبٍ مِنْ وَقْتِ مَوْتِهِ إلى وَقْتِ نُزولِها، وعلَيْهِ فلا يُرادُ مِنْ قولِهِ: "فنزلت" في الخبرِ أَنَّ النُزُولَ كانَ عُقَيْبَ القَوْلِ، بَلْ يُرادُ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبُ النُزولِ فَحَسْبُ. فتَكُونُ الفاءُ للسَبَبِيَّةِ لا للتَعْقيبِ.
وثالثُها: ما أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ. وابْنُ عَساكِرَ، وأَبو القاسِمِ عَلِيُّ بْنُ الحُسَينِ في تاريخِ مَدينةِ دِمَشْقَ: (66/ 336) عَنْ عَلِيٍّ ـ كَرَّمَ اللهُ تَعالى وَجْهَهُ، قالَ: أَخْبَرْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلّى اللهُ عليهِ وسلَّم، بمَوْتِ أَبي طالِبٍ فَبَكَى، فقال: ((اذْهَبْ فَغَسِّلْهُ، وكَفِّنْهُ، ووارِهِ، غَفَرَ اللهُ لَهُ ورَحِمَهُ)) ففَعَلْتُ. وجَعَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، يَسْتَغْفِرُ لَهُ أَيَّاماً، ولا يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ حتى نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْريلُ ـ علَيْهِما الصَلاةُ والسَّلامُ، بهذِهِ الآيَةِ: "مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ .." فإنَّهُ ظاهرٌ في أَنَّ النُزولَ قَبْلَ الهِجْرَةِ، ولم يتناولْ أحدٌ من العلماءِ هذا الحديثَ بالنقد. واللهُ أعلم.
هذا وقدَ وَرَدَ في سببِ نُزولِ هذِهِ الآيَةِ المُبارَكَةِ، حديثانِ صحيحان، أَوّلُهما: ما سبق ذكرُهُ، والذي أَخْرجهُ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وأَحمدُ، والبُخارِيُّ، ومُسلِمٌ، والنَّسائيُّ، وابْنُ جَريرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في دلائلِ النُبُوَّةِ، عَنْ سَعيدِ ابْنِ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِيهِ، قال: لَمَّا حَضَرَتِ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللهِ ابْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، فَقَالَ: ((أَيْ عَمِّ قُلْ: "لا إِلَهَ إِلا الَهُ" كَلِمَةٌ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ))، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللهِ ابْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ قَالَ: فَكَانَ آخِرُ شَيْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ أَنْ قَالَ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ)). فَنَزَلَتْ: "مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى". وثانيهِما: ما أَخْرَجَ الطَيالِسِيُّ، وابْنُ أبي شَيْبَةَ، وأحمدُ، والتِرْمِذِيُّ، والنَّسائيُّ، وأَبو يَعلى، وابْنُ جَريرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشيخِ، والحاكِمُ، وصَحَّحَهُ، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإِيمانِ، والضِياءُ المقدِسيُّ في المُخْتارَةِ، عَنْ عَلِيٍّ ـ كرَّمَ اللهُ وجهَهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلاً يَسْتَغْفِرُ لأَبَوَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ، فَقُلْتُ: تَسْتَغْفِرُ لأَبَوَيْكَ وَهُمَا مُشْرِكَانِ؟ قَالَ: أَوَلَمْ يَسْتَغْفِرْ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ؟ فَذَكَرْتُهُ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ: "مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى". والمعنى: لا حُجَّةَ لَكُمْ أَيُّها المُؤمنونَ في اسْتِغْفارِ إِبْْراهيمَ الخَليلِ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، لأَبيهِ، فإنَّ ذَلِكَ لمْ يَكُنْ إلاَّ عَنْ عِدَةٍ.
وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: كانَ أَبو إبْراهيم وَعَدَ إبْراهيمَ الخَليلَ ـ عليه السلامُ، أَنْ يُؤْمِنَ باللهِ، ويَخْلَعَ الأَنْدادَ، فلمَّا ماتَ عَلى الكُفْرِ، عَلِمَ أَنَّهُ عَدُوُّ اللهِ، فتَرَكَ الدُعاءَ لَهُ. فالكِنايَةُ في قولِهِ: (إِيَّاهُ) تَرْجِعُ إلى إبْراهيمَ، والواعِدُ أَبُوهُ. وقيلَ: الواعدُ إبراهيمُ، أَيْ: وَعَدَ إبراهيمُ أَباهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ، فلَمَّا ماتَ مُشْرِكاً تَبَرَّأَ مِنْهُ.
قولُهُ تَعالى: {ما كان للنبيٍّ .. } اسْمُ كانَ المصدرُ المُؤَوَّلُ من "أَنْ يَسْتَغْفِروا"، و "للنبي" هذا الجارُّ مُتَعَلِّقٌ بالخَبَرِ.
قولُهُ: {وَلَوْ كانوا أُوْلِي قُرْبى} والواو في "ولو" حالية وهي للعطف على حال محذوفة، أي: ما كانوا أَنْ يَسْتَغْفِروا في كُلِّ حالٍ، ولو في هذِهِ الحالِ؛ وهذا لاسْتِقْصاءِ الأَحْوالِ، وجوابُ الشرطِ "لو" محذوفٌ لِدَلالَةِ ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ، والجملةُ حالٌ معطوفةٌ على حالٍ مُقَدَّرَةٍ محذوفةٍ حذفاً مطّرداً كَقَوْلِهِ: ((أَعْطوا السائلَ وَلَوْ عَلى فَرَسٍ))، وكقولِهِ: {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} ونَظائرِه، وقد تقدَّمَ ما فيه. و "أولي" خَبَرُ كانَ مَنْصوبٌ وعلامةُ نصبِهِ الياءُ؛ لأنَّهُ مُلْحَقٌ بجمْعِ المُذَكَّرِ السّالِمِ.
قولُهُ: {من بعد ما تبين} هذا الجارُّ مُتَعَلِّقٌ ب "يستغفروا"، و "ما" مصدريَّةٌ، والمَصْدَرُ مُضافٌ إلَيْهِ، وجملةُ "تبيَّن" صِلَةُ المَوصولِ الحَرْفيِّ.
وقولُه: {أنَّهم أَصْحابُ} والمصدرُ المنسبكُ مِنْ "أنّ" وما بعدها فاعلُ "تبيَّن"، والتقديرُ: من بعد ما تبيَّنَ كونُهم أصحابَ الجَحيم.