وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
(106)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللهِ} وآخرون: أَيْ: ومِنَ المُتَخَلِّفين مِنْ أَهْلِ المدينةِ ومَنْ حولَها مِنَ الأَعْرابِ قومٌ آخَرونَ غَيرُ المُعْتَرِفين المَذْكورينَ مِنَ المُتَخَلِّفينَ، تَخَلَّفُوا مِنْ غيرِ عُذْرٍ، ولمْ يَقدِّموا عُذْراً يُعتدُّ بِه، وهؤلاءِ مُؤَخَّرونَ لأَمْرِ اللهِ في شَأْنِهم؛ وهُمْ: مَرارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَهِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ، قالَهُ مجاهدٌ فيما أَخْرَجه عنه ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ. وعليهِ أكثرُ المفسِّرين، وقدْ تَقدَّمَ ذكرُهم.
فقد قَعَدُ هؤلاءِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فِي جُمْلَةِ مَنْ قَعَدَ كَسَلاً، وَمَيْلاً إِلَى الرَّاحَةِ، لاَ شَكّاً وَلاَ نِفَاقاً ولا كَراهِيَةً للجِهادِ، ولكنَّهم شُغِلُوا عِنْدَ خُروجِ الجَيْشِ وهُمْ يَحْسَبونَ أَنَّهم يَلْحَقونَهُ، وانْقَضَتِ الأَيَّامُ وأَيِسُوا مِنَ اللَّحاقِ. وسَأَلَ عَنْهُمُ النَبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وهُو في تَبُوك، فلَمَّا رَجَعَ أَتَوْهُ وصَدَّقوهُ، فلم يُكَلَّمْهُم، ونَهى المُسْلِمينَ عَنْ كَلامِهم ومُخالَطَتِهم، وأَمَرَهم باعْتِزالِ نِسائهم، فامْتَثَلوا، وبَقُوا كَذلِكَ خمسينَ لَيْلَةً، فَهُمْ في تِلكَ المُدَّةِ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللهِ. وفيهم أُنْزِلَ قولُهُ: {لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} إلى قوله: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} الآية: 117 ـ 119. مِنْ هَذِهِ السورة المباركة، وفيهم أَيْضاً نَزَلَ قولُهُ تعالى في سورة المائدة: {ثُمَّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ} الآية: 71. وقد أَوْرَدْنا هناك قصَّة كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مُفَصَّلةً كما رَواها البخاريُّ. وكان قالَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: أَنَا أَفْرَهُ أَهْلِ المَدينَةِ جَمَلاً، فمَتى شِئْتُ لَحِقْتُ الرّسُولَ، فَتَأَخَّرَ أَيَّاماً وأَيَسَ بَعدَها مِنَ اللَّحوقِ بِهِ، فَنَدِمَ على صَنِيعِهِ، وكَذلِكَ صاحباهُ.
والجهادُ في غَزوةِ تبوكٍ كان جهادَ طَلَبٍ لا جهادَ دَفْعٍ، أي لم تكن أرض المسلمين وديارُهم مهاجمة من قبل الأعداء، فهو فرضُ كفايةٍ لا فرضُ عَينٍ، وإنَّما كان واجباً على الأَنصارِ وحدَهم ـ رَضِيَ اللهُ عنهم، لأنهم بايعوا رسولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، على ذَلِكْ، ولذلك قالَ راجزهم في غزوةِ الخندق فيما رواه الشيخان عن أنس وغيره:
نحن الذين بايعوا محمدا ...................... على الجهادِ ما بَقينا أبدا
وفي رواية: (على الإسلام)، وكانوا جميعاً يرددونَ ذلك خلفه. وهؤلاءِ الثلاثةُ المذكورون آنفاً هم مِنْ أَجِلَّةِ الأنصار ـ رضي اللهُ عنهم، فكانَ تَخَلُّفُهم كَبيرةً.
قولُهُ: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} إمَّا أَنْ يُعذِّبَهم، إنْ بَقوُا على ما هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الحالِ، وقيلَ: إنْ أَصَروا على النِفاقِ، وليسَ بِذاكَ، فإنَّ المَذْكورينَ لَيْسُوا مِنَ المُنافقين. وعذابُهم أَنْ يُميتَهم على حالِهم، أَوْ أنْ يَأْمُرَ بِعذابهم إذا لم يَعْلَمْ صِحَّةَ تَوبَتِهم. "وإمَّا يَتُوبُ عَلَيْهم" إنْ خَلصتْ نِيَّتُهم، وصَحَّتْ تَوبَتُهم، بِأَنْ يَعْلَمَ صِدْقَ تَوْبَتِهم فيُطَهِّرَ ما فيهم، أَوْ يَعْفو عَنْهم ويَصْفَحُ عَنْ ذُنوبهم. والمقَصودُ تَفْويضُ ذَلِكَ إلى إرادة الله ومَشيئَتِهِ، فإنَّهُ سبحانَه، لا يَجِبُ عَلَيْهِ تعذيبُ العاصي، كما لا تَجِبُ عليْهِ المَغْفِرَةُ للتائبِ.
قولُهُ: {وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي: وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يُصْلِحُ عِبَادَهُ، وَيُرَبِّيهِمْ وَيُزَكِّيهِمْ، عليم بما يَؤولُ إلَيْهِ حالُهم، وَهُوَ حَكيمٌ فيما فَعَلَهُ مِنْ إرْجائهم، حَكِيمٌ فِيما شَرَعَهُ لَهُمْ مِنْ أَحْكامٍ.
قولُهُ تَعالى: {وآخرون مُرْجَوْن لأمرِ اللهِ} آخرون: رَفْعٌ على الابْتِداءِ، و "مُرْجَوْنَ" خَبرُهُ، والجُمْلَةُ عَطْفٌ على قولِهِ قَبْلَ ذلِكَ: {وآخرون} الآية: 84. و "لأَمْرِ" هذا الجارُّ مُتَعَلِّقٌ بِ "مُرْجَوْنَ".
قوله: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ} إمَّا: للتَنْويعِ والتَفْصيلِ عَلى مَعْنى أَنَّ أَمْرَهم دائرٌ بَينَ هَذَيْنِ الأَمْرينِ، وقيلَ هِيَ هُنا للشَكِّ بالنِسْبَةِ إلى المخاطَبِ، أو للإِبهام بالنسبة إلى أَنَّه أُبْهِمَ على المخاطَبين. و "يُعَذِّبُهُمْ" يجوزُ أَنْ تَكونَ هذِهِ الجُمْلَةُ في محَلِّ رَفْعٍ خَبَراً، وعلى هذا يَكونُ "مُرْجَوْن" نَعْتاً للمُبْتَدأِ، ويجوزُ أَنْ يَكونَ خَبَراً بَعْدَ خَبَرٍ، ويجوزُ أَنْ يَكونَ في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ، أَيْ: هُمْ مُؤَخَّرون: فإمَّا مُعذَّبين وإمَّا مَتُوباً عليهم.
قولُه: {وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} هَذِهِ الجُملةُ في محلِّ نَصْبِ على الحالِ كسابقتها، أَيْ: وآخرونَ ومِنْهم هؤلاءِ إمَّا مُعَذَّبين وإمَّا مَتوباً عليهم.
قرأ أَهْلُ المَدينَةِ، وأَهْلُ الكَوفَةِ، غيرَ أَبي بَكْرٍ: نَافعٌ، والأَعرَجُ وشَيْبَةُ ابْنُ نِصاحٍ مَوْلى أُمِّ سَلَمَةَ ـ رَضيَ اللهُ عنْهُما، وأَبو جَعْفَرٍ وطَلْحَةُ، والحَسَنُ: {مُرْجَوْنَ} مِنَ أَرْجى يرجي، دونَ هَمْزٍ، وقرأَ ابْنُ كَثيرٍ وأَبو عَمْرو، وابنُ عامرٍ، وأَهْلُ البَصْرَةِ، وأَبو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ: "مُرْجَؤُون" بهَمْزَةٍ مَضْمُومَةٍ بَعْدَها واوٌ ساكِنَةٌ، مِنْ أَرْجَأَ يُرجِئُ، واخْتُلِفَ عَنْ عاصِمٍ، وهذا كَقراءتِهم في الأَحْزابِ: {تُرْجِئ} بالهمزة. وهما لُغَتانِ، يُقالُ: أَرْجَأْتُه وأَرْجَيْتُه كأَعْطيتُه. ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكونا أَصْلَيْنِ بِنَفْسَيْهِما، وأَنْ تَكونَ الياءُ بَدَلاً مِنَ الهَمْزَةِ، ولأنَّ تحقيقَها قَدْ عُهِد كَثيراً، ك "قَرَأْت" وقَرَيْتُ، و "توضَّأْت" و "توضَّيْت". وأَنْكَرَ المُبرِّدُ تَرْكَ الهَمْزِ في مَعْنى التَأْخيرِ، وليسَ الأمرُ كما قالَ. وقد سُمِّيَتِ المُرْجِئَةُ بهذا الاسْمِ لأنَّهم لا يَجْزِمونَ القولَ بمغفرةِ التائِبِ ولكنْ يُؤخِّرونَها إلى مَشيئَةِ اللهِ تَعالى. وقالَ الأُوزاعيُّ: سُمّوا بذلك لأنَّهم يُؤَخِّرونَ العَمَلَ عَنِ الإيمانِ.
وقرَأَ العامَّةُ: {وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}، وقرِئَ واللهُ غَفُورٌ رَحيم، قالَهُ أبو السعود العمادي في تفسيره.