يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ
(21)
قولُهُ ـ جلَّ وعلا: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ} أَيْ: يُعْلِمُهُمْ في الدُنْيا ما لهمْ في الآخرةِ مِنَ الثوابِ الجَزيلِ والنَعيمِ المُقيمِ، رحمةً بهم، وجوداً مِنْه وكرماً وبِرّاً لإدْخالِ البهجة والسُرورِ على قلوبهم اعْتِناءً منه بهم ومحبَّةً لهم. فالبِشارةُ: هي الخبرُ السارُّ الذي يُفْرِحُ الإنْسانَ عِنْدَما يسمَعُهُ، وتَسْتَنيرُ بَشْرَةُ وَجْهِهِ عِنْدَ سماعِهِ وتُصبِحُ نَضِرَةً، بِعَكْسِ الخَبرِ السيِّءِ، فإنَّ بَشَرَةَ الوَجْهِ تبدو قاتمةً ويُصْبِحُ لونُها داكناً كما قال تعالى في سورةِ النَحْلِ: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيم} الآيةَ: 58.
يُخْبرهُم ربُّهم بالنِهايَةِ السّارَّةِ التي سَوْفَ يَصِلونَ إِلَيْها لِيَتَحَمَّلوا مَشَقَّةَ التَكَاليفِ التي يَأْمُرُهم بها؛ لأَنَّ الجنَّةَ محفوفَةٌ بالمَكارِهِ، كما قال ـ عليه الصلاةُ والسلامُ" ((حفَّتِ النارُ بالشهواتِ، وحفَّتِ الجنةُ بالمَكارِهِ)). أخرجه مسلمٌ والبيهقيُّ في شُعب الإيمان عن أنسٍ، وأخرجه الإمامُ أحمدُ وابنُ حبّانٍ عن أبي هُريرةَ، وسَنَدهُ صحيحٌ على شَرْطِ الشَيْخَين ـ رَضِيَ اللهُ عنهم أجمعين. وذلكَ لأَنَّ التَشْريعَ الإلهي تَقْييدٌ لحريَّةِ الاخْتِيارِ، وكذلك كلُّ التَشريعاتِ والقَوانِينِ، فإنَّها تقييدٌ لحريَّةِ الفرْدِ، بما يُحقَّقُ مَصْلَحَة الجماعةِ. والمؤمِنُ مُقَيَّدٌ بأَوامِرِ اللهِ تَعالى. ولكنْ إذا نَظَرْنا في الأَمْرِ، نَجِدُ أَنَّ الذي يَتْبَعُ شَهَواتِهِ، ويُطْلِقُ العِنانَ لهواهُ، إنما يُحَصِّلُ لَذَّةً مُوقَّتَةً، لأنَ عُمْرَهُ في الدُنيا محدودٌ حتى ولو أنَّ هذه اللذَةَ دامت طوالَ حياته وهذا مستحيلٌ، فهو الخاسِرُ إذاً، بينَما الذي قيَّدَ حَرَكَتَهُ وِفْقَ مِنهَجِ اللهِ تعالى فإنَّه يَرْبحُ اطْمِئْنانا في الدُنيا ونَعيماً مُقيماً في الآخرةِ، لا يَزُولُ ولا يَنْتِهي، ومِنْ ثمَّ فإنَّ الحريَّةَ غيرَ المُنْضَبِطَةِ بِضَوابِطِ الشَرْعِ هِيَ في النِهايةِ وبالٌ على صاحبها وعلى المجتمعِ الذي يعيشُ فيه على السواءِ، وانْظُرْ لمجتمَعِ الغابةِ حيثُ تعيشُ الحَيواناتُ فيهِ بغير ضَوابطَ ودونَ قُيودٍ على حُرّيَّتِها، كيف يَأْكُلُ القَوِيُّ الضَعيفَ، وإذا ما أَرادَ الناسُ أَنْ يَشْتُموا مُجْتَمَعاً إنْسانيّاً غَيرَ مُنْضَبِطٍ شبَّهوهُ بمُجْتَمِعِ الغابَةِ.
وفائدةُ هذه البِشارَةِ هنا أَنها تُغري الإنْسانَ بِسُلوكِ السبيلِ الذي يحقِّقُها، فإنَّ البِشارَةَ تجعلُكَ تَتَّخِذُ الوَسيلةَ التي تُوصِلُك إليها.
والرَّحمةُ والرِّضْوانُ مِنْ صِفاتِ اللهِ تعالى وهي صِفاتٌ ذاتِيَّةٌ فِيهِ سُبْحانَهُ، يَهَبُها لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ.
أَخْرَجَ الطَبريُّ عَنْ جابِرٍ بْنِ عبدِ الله ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: ((إذا دَخَلَ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، قالَ اللهُ سُبْحانَهُ: أُعْطِيكُم أَفْضَلَ مِنْ هَذا؟ فيَقولونَ: رَبَّنا، أَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ هَذا؟ قالَ: رِضْواني)). أخرجه الطبريُّ وابنُ مَردويْهِ، وزادَ البُخاريُّ في كتابِ السُنَّةِ مِنْ صَحيحِهِ: "فَلا أَسْخَطُ عَليكم أَبَداً". وأَخرَجَهُ ابْنُ أبي حاتمٍ أيضاً عنْ أَبي عَبْدِ المَلِكِ الجُهني.
ذلكَ لأنَّ ما في الجنةِ مِنْ نِعَمٍ ماديَّةٍ كالطَعامِ، والشَرابِ، والحُورِ العينِ، وغيرِ ذلك، هو مِنْ حظِّ الجَسَدِ، أَمَّا رُضوانُهُ سُبْحانَهُ، فهُوَ راحةٌ وسعادةٌ ونعيمٌ للروحِ، وأُنْسٌ بِهِ تَبارَكَ وتَعالى ومَحَبَّةٌ. ولا شكَّ في أنَّ هذا أَفْضَلُ مِنْ نَعيمِ الجَسَدِ بما لا يَنْقاسُ.
قولُهُ: {وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} وهذا ارْتقاءٌ وتَدَرُّجٌّ في النِعْمةِ، فقدْ بَشَّرَهُمُ اللهُ سُبْحانَهُ أَوَّلاً بالرَحمةِ، ثمَّ بِنِعْمَةٍ دائمةٍ في الحياةِ. والنعيمُ: هو لِينُ العيشِ ورَغَدُهُ. فالمؤمنون حين يَرْتَقونَ في دَرَجَةِ الإيمان؛ يَعيشونَ دائماً مَعَ النِعْمَةِ والمُنْعِمِ، فإذا أرادوا الطَعامَ قالوا: "بسمِ الله"، وإذا أَكَلوا قالوا: "الحمدُ للهِ"، ولكنَّهم إذا ارْتََقُوا في الإيمانِ أكثر، عاشُوا مَعَ المُنعِمِ وَحْدَهُ، فرأوا أنَّ الذي يطعمهم ويسقيهم هو مولاهم ـ تبارك وتعالى، كما قال إبراهيمُ عليه الصلاةُ والسلامُ: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} سورة الشعراء، الآية: 79. ولذلك يُباهِي اللهُ بعبِادِهِ هؤلاءِ المَلائكَةَ؛ بِعبادَتهم وطاعتِهم التي يَلْتَزِمونَ بها على أَيِّ حالةٍ يكونونَ عَلَيْها، ولو نَزَلَ بهم أَشَدُّ البَلاءِ، وسُلِبَتْ منهمُ النِعَمَ، وهؤلاءِ هم أَصْحابُ المنزلةِ العاليةِ.
قولُهُ تعالى: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ} هذه الجملةُ في محلِّ رفعِ خبرٍ ثانٍ للمُبْتَدَأِ "أَولئِكَ" المُتَقَدِّمِ في الآيةِ السابِقَةِ.
قولُهُ: {لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ} يجوزُ أَنْ تَكونَ هذِهِ الجُملَةُ صِفَةً ل "جَنَّاتٍ"، ويجوزُ أَنْ تَكونَ صفةً ل "رحمة"؛ لأنهم جَوَّزوا في هذِهِ الهاءِ أنْ تَعودَ للرِحمَةِ، وأَنْ تَعودَ للجَنَّاتِ. وقدْ جَوَّزَ مَكِّيٌّ أَنْ تَعودَ على البُشْرى المفهومةِ مِنْ قولِهِ: "يُبَشِّرُهم"، كأنَّه قيلَ: لهم في تِلكَ البُشْرى.
وعلى هذا فَتَكونُ الجُملَةُ صِفَةً لِذلِكَ المَصْدَرِ المُقَدَّرِ إِنْ قدَّرْتَهُ نَكِرَةً، وحالاً إنْ قَدَّرْتَهُ مَعْرِفَةً. ويجوزُ أَنْ يَكونَ "نعيمٌ" فاعلاً بالجارِّ قبلَهُ، وهوَ أَوْلى لأنَّه يَصيرُ مِنْ قَبيلِ الوَصْفِ بالمُفْرَدِ، ويجوزُ أَنْ يَكونَ مُبْتَدَأً، وخَبرُ الجارِّ قبلَهُ. وقدْ تَقَدَّمَ تحقيقُ ذلكَ غيرَ مَرَّةٍ.
وقد تَقَدَّمَ اخْتِلافُ القُرَّاءِ في "يُبَشِّرُهم" وتوجيهُ ذلك في سورة آلِ عمرانَ، وكذلك الخلافُ في "رِضْوَانٌ" سورة آلِ عُمران الآية: 15. وقرأَ الأعمشُ "رُضُوان" بضمِّ الراء والضاد، ورَدَّها أبو حاتم وقال: لا يجوز. والأعْمَشُ إنَّما رواها قراءةً، وقد وُجِد مثلُ ذلك في لِسانِ العِرِبِ فقالوا: السُّلُطان بِضَمِّ السِينِ واللامِ.