لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاَّ وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ
(10)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّهُ: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاَّ وَلا ذِمَّةً} إنَّ كُفْرَهُمْ يَجْعَلُهُمْ لاَ يَرْعَوْنَ فِي مُؤْمِنٍ، يَقْدِرُونَ عَلَى الفَتْكِ بِهِ، قَرَابةً تَقْتَضِي الوُدَّ، وَلا ذِمَّةً تُوجِبُ الوَفَاءَ بِالعَهْدِ، وَلا رَبّاً يحُرَمِّ ُالخِيَانَةَ وَالغَدْرَ. وقال هنا: "لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاَّ وَلا ذِمَّةً" فعمَّم، وقال قبل ذلك في الآيةِ الثامنةِ: {لا يرقبون فيكم} فخصَّصَ فلا تَكْرارَ، فقدْ بيَّنَ هنا أَنَّ سَبَبَ هذِهِ العَداوةِ المُسْتَفْحِلَةِ التي تَجْعَلُهُمْ يُنَحُّونَ كُلَّ العُهودِ والمواثيقِ، ووَشائجَ القَرابَةِ، ورَوابِطَ الموَدَّةِ، هو عداؤهم للدِّين، وكرهُهُم للمُؤمِنينِ. وقال النَحَّاسُ: ليس هذا تَكْريراً، ولكنَّ الأوَّلَ لجميعِ المُشْرِكينَ والثاني لليَهودِ خاصَّةً. والدليلُ على هذا قولُهُ: "اشتروا بآيات الله ثمناً قليلا" يَعني اليَهودَ، باعوا حُجَجَ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ وبيانَهُ بِطَلَبِ الرِئاسَةِ وطَمَعٍ في شيءٍ.
قولُهُ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ} وَهَؤُلاَءِ الموصوفون بما عدَّدْنا مِنَ الصِفاتِ السَيِّئَةِ هُمُ المُتَجَاوِزُونَ الحُدُودَ فِي الظُّلْمِ، والغايةَ القُصْوى في الشرِّ.
قولُهُ تعالى: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} جملةُ "لا يرقبون" خبرٌ ثانٍ ل "إن" في الآية السابقةِ. ويجوزُ أَنْ تَكونَ هذِهِ الجُمْلَةُ بَدَلَ اشْتِمالٍ مِنْ جملةِ: {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الآية: 9. لأَنَّ انْتِفاءَ مراعاةِ الإلِّ والذِمَةِ مَعَ المُؤمنينَ ممَّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ سُوءُ عَمَلِهم، ويجوزُ أَنْ تَكونَ اسْتِئْنافاً ابْتُدِئَ بِهِ.
قولُهُ: {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ} هم: ضَميرُ فَصْلٍ لا محَلَّ لها، وهذه الجملة. عَطْفٌ على جملَةِ: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} لمُناسَبَةِ أَنَّ إثْباتَ اعْتِدائهم، نَشَأَ عَنِ الحِقْدِ الذي أَضْمَروهُ للمُؤْمنين، لا لِشَيْءٍ إلاَّ لأنَّهم مُؤمنونَ وهو كقولِهِ تَعالى في سورةِ البُروجِ: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} الآية: 8.