إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ
(43)
قولُهُ ـ جلَّ وعلا: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً} توضيحٌ لتدبيره تعالى، إنفاذاً لقضائه وقدره، في إعلاء شأنِ المسلمين بنصرهم على المشركينَ فقد أَرَى ـ سبحانه وتعالى، نَبِيَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، في منامِهِ المُشْرِكِينَ قَلِيلِي العَدَدِ فَأَخْبَرَ صحابتَهُ بذلك فَاسْتَبْشَرُوا، وتشجَّعوا، فكَانَ في ذَلِكَ تَثْبِيتٌ لَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ.
ورؤيا الأنبياءِ عَليهِمُ السَلامُ، إنما هي مُكاشفاتٌ رُوحانِيَّةٌ على عَالمِ الحَقائقِ. لأنَّ أَرْواحَهم لا تَغْلِبُها الأَخْلاطُ، ولا تَجولُ حَوَاسُّهُم الباطنةُ في العَبَثِ. وكانت رؤيا قِلَّةِ عدَدِ المشركينَ في الرُؤيا رَمْزاً وكِنايَةً عَنْ وَهْنِ أَمْرِ المُشْرِكينَ وضعفهم، لا عَنْ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ، ولذلكَ جَعَلَها اللهُ تعالى في رُؤيا النَوْمِ دُونَ الوَحْيِ، لأنَّ صُوَرَ المرائي المنامِيَّةِ تَكونُ رُموزاً لمَعانٍ، فلا تُعَدُّ صُورَتُها الظاهِرِيَّةُ خُلْفاً، بخِلافِ الوَحْيِ بالكَلامِ. ورُؤْيا النَبيِّ لا تخطيءُ ولكِنَّها قدْ تَكونُ جارِيَةً على الصورةِ الحاصِلَةِ في الخارِجِ كَما وَرَدَ في صحيح البخاري من حديثِ السيدة عائشةَ أمِّ المؤمنين ـ رضي اللهُ عنها، في بِدْءِ الوَحْيِ، قالتْ: ".. فكان لا يَرَى رُؤْيا إلاَّ جاءتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُبْحِ"، وهذا هُوَ الغالبُ وخاصَّةً قبلَ ابْتِداءِ نُزُولِ المَلَكِ جبريل ـ عليه السلامُ، بالوَحيِ. وقدْ تَكونُ رُؤياه رَمْزِيَّةً وكِنايَةً كَما في صحيحِ البخاري أيضاً رُؤياه ـ صلى اللهُ عليه وسلمَ، بَقَراً تُذْبَحُ ويُقالُ لَهُ: اللهُ خَير. فأوَّلها أنَّ أصحابه يقتَلون يومَ أُحُدٍ.
وقد تَظاهرتِ الرِواياتُ أَنَّ هذِه الآيةَ نَزَلَتْ في رُؤيا رآها الرسولُ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، رأى فيها عددَ الكُفَّارِ قَليلاً، فأَخْبَرَ بذلك أصحابَهُ، فاشتدَّت عزيمتُهم على القتال، وهذا مَعنى قولِهِ تعالى: "في منامك" أَيْ: في نَوْمِكَ، يؤيِّدُهُ ما أَخْرَجَ عَبْدُ الرزَّاقِ، وابْنُ جَريرٍ، وابنْ المنذِرِ، وابْنُ أبي حاتمٍ عَنْ مجاهد ـ رضيَ اللهُ عنه، في قولِهِ تعالى: "إذ يريكهم الله في منامك قليلاً" قال: أَراهُ اللهُ إيّاهم في مَنامِهِ قَليلاً، فأَخْبرَ النَبيُّ ـ صَلى اللهُ عليه وسَلَّمَ، أَصحابَهُ بِذلكَ وكانَ تَثْبيتاً لهم. ورُويَ عَنِ الحَسَنِ أَنَّ مَعنى قولِهِ "في مَنَامِكَ" أَيْ: في عَيْنِكَ إذْ هِيَ مَوْضِعُ النَوْمِ، وعلى هذا التأويلِ تَكونُ الرُؤيةُ في اليَقَظَةِ، وبِهِ أَخَذَ النَقَّاشُ، وذكرهُ عَنِ المازِني. ويؤيِّدُهُ ما أَخرجَ ابنُ إسحقَ، وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ حَيَّانَ بْنِ واسِعٍ بْنِ حيَّانَ، عن أَشياخٍ مِنْ قومِهِ "أنَّ رَسولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، عَدَّلَ صُفوفَ أَصْحابِهِ يومَ بَدْرٍ ورَجَعَ إلى العَريشِ، فدَخَلَهُ ومعه أَبو بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وقدْ خَفَقَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، خَفْقَةً وهو في العريشِ، ثمّ انْتَبَهَ فقالَ: ((أَبْشِرْ يا أَبا بَكْرٍ، أَتاكَ نَصْرُ اللهِ. هذا جَبريلُ آخِذٌ بِعِنانِ فَرْسٍ يَقودُهُ، على ثَناياهُ النَقْعُ)).
قولُهُ: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ} وَلَوْ أنّ اللهَ سبحانه، أَرَى نبيَّه المُشْرِكِينَ كَثِيرِي العَدَدِ وحدَّث به أصحابه لتنازعوا وأَحجَموا عن قتالِ عدوِّهم، وَلَدَبَّ الخُلْفُ فِيمَا بَيْنَهُمْ بين موافقٍ على لقاء العدوِّ ومعترضٍ، والتَنازُعُ أنْ يُحاوِلَ كُلُّ واحِدٍ أنْ يَنْزِعَ صاحِبَهُ مما هُو عليه، وقد جمعَ ضَميرَ الخِطابِ في الجَزاءِ: "لَتَنازَعْتُمْ" مع إفراده في الشرط: "وَلَوْ أَراكَهُمْ" إشارةً إلى أَنَّ النزاعَ، الجُبْنَ، وخَوْفَ الأَعداءِ، إنّما قد يَعْرِضُ لهُم، ولكنَّه لا يَعْرِضُ لَهُ.
قولُه: {وَلَكِنَّ اللهَ سَلَّمَ} مِنْ ذَلِكَ الاختلافِ، الفَشَلِ والتَنازُعِ بأحسنِ تدبيرٍ بِأنْ سَلَّمَكم مِنْ سَبَبِها، لأن الاطلاعَ عَلى كَثْرَةِ العَدُوِّ يُلْقي في النُفوسِ تَهَيُّباً له وتخوُّفاً مِنْهُ، وذلك يُنْقِصُ شَجاعتكم فأَرادَ اللهُ أَنْ يُوفِّرَ لكم مُنْتَهى الشَجاعَةِ. وَنَجَّاكم مِنْ عَوَاقِبِِ ذلكَ الخِلافِ الذي كان وقوعُهُ ممْكِناً فيما لو عَلِمتم حَقيقةَ كثرة عددِ العدوِّ وعُدده ومدى قوتهِ واستعدادِهِ لحربكم. قال ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما: سَلَّمَ اللهُ أَمْرَهُمْ حينَ أَظْهَرَهم على عَدُوِّهم.
قولُهُ: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بذاتِ الصدورِ} ومَا تُكِنُّهُ الضَّمَائِرُ، وَتَنْطَوِي عَلَيْهِ النُّفُوسُ وَما تُخفيه السَّرَائِرُ، وما يجولُ في الخواطِرِ التي جُعِلَتْ كأنَّها مَالِكَةً للصُدورِ، والمُرادُ أَنَّهُ سبحانه، يَعْلَمُ ما سَيَكونُ فيها مِنَ الجَراءةِ أو الجُبنِ، والصَبْرِ أو الجَزَعِ، ولِذلِكَ دَبَّرَ ما دَبَّرَ.
قولُهُ تَعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ الله} إذ: منصوبٌ بمضمَرٍ أَيْ: اذْكُرْ، والأَحْسَنُ أَنْ تَعربَ بَدَلاً مِنْ "إذ" في الآية السابقة، وقيلَ هي نَصبٌ عَلى الظَرْفِ لِقولِهِ في الآيَةِ السابِقِةِ: "عَليمٌ"، وفيهِ بُعْدٌ مِنْ حيثُ تَقييدُ هَذِهِ الصِفَةِ بهذا الوقتِ. والإِراءةُ حُلْميةٌ هنا، واخْتَلَفَ النحاةُ فيها: بين قائلٍ بأنّها تتعدَّى في الأَصْلِ لِواحدٍ كالبَصَريَّة أَوْ لاثْنَيْنِ كالظَنِّيَّةِ، والجُمهورُ على الأوَّلِ. فإذا دَخَلَتْ همزةُ النَقْلِ أَكْسَبَتْها ثانياً أَوْ ثالثاً على حَسَبِ القَوْلين، فعلى الأَوَّلِ تَكونُ كافُ "يريكَ" مَفْعولاً أَوَّلَ، و "هم" المفعول الثاني، و "قليلاً" حالٌ. وعلى الثاني يَكونُ "قليلاً" مفعولها الثالث، وهذا يَبْطُلُ بجوازِ حَذْفِ الثالثِ في هذا البابِ اقْتِصاراً، أَيْ: مِنْ غَيرِ دَليلٍ، تَقولُ: أَراني اللهُ زَيْداً في مَنامي، ورأيتُهُ في النَوْمِ، ولو كانتْ تَتَعَدَّى لِثلاثَةٍ لَمَا حُذِفَ اقْتِصاراً لأنَّه في الأَصْلِ خبرٌ.
قولُه: {في منامك} جارٌّ ومجرور متعلق بِ "يُريكَهم" والمَنامُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بمَعنى النَومِ، ويُطْلَقُ على زَمَنِ النَوْمِ وعلى مَكانِهِ.
وقرأَ الجمهورُ: {ولكنَّ الله سلَّمَ} بِتشديدِ النُونِ ونَصْبِ لفْظِ الجلالةِ، وقَرَأَتْ فِرْقَةٌ "ولكنْ اللهُ" بِتسكينِ النونِ ورَفْعِ لفظِ الجلالةِ بالابْتِداءِ على القطع.