يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ} افْتُتِحَ الخِطابُ بالنِداءِ للاهْتِمامِ بما سيُلقى إليهم بِقَصْدِ إحْضارِ الذِهْنِ لاستيعاب ما سيقال وفهمِه، فقدْ نَزَّلَ الحاضِرَ القريبَ مَنْزِلَةَ البَعيدِ، فَطَلَبَ حُضورَهُ بحرْفِ النِداءِ "يا" لِطَلَبِ إقبالِ المُنادَى على المُنادِي. وقد أَفْرد المؤمنين بالخِطابِ دُونَ المُنافِقينَ إجْلالاً لهم. وجِيءَ بالاسْمِ الموصولِ "الَّذِينَ" للتَنْبيهِ على أَنَّ الموصوفين بهذِهِ الصِلَةِ مِنْ شَأْنهمْ أَنْ يَتَقَبَّلوا ما سَيُؤْمَرونَ بِهِ، وأَنَّهُ كما كانَ الشِرْكُ مُسَبِّباً لمُشاقَّةِ اللهِ ورَسُولِهِ في قولِهِ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ} سورة الأنفال، الآية: 13، فالأحرى أَنْ يَكونَ الإيمانِ باعثاً على طاعة اللهِ ورسولِهِ. فقولُهُ هُنا "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" يُساوي قولَهُ في الآية المَردودِ إليْها {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} سورة الأنفال، الآية: 1، مَعَ الإشارةِ هُنا إلى تحقُّقِ وَصْفِ الإيمانِ فيهم، وإفراغُه في صُورةِ الشَرْطِ في الآيةِ السابِقَةِ ما قُصِدَ مِنْهُ إلاَّ شَحْذُ العَزائمِ. وبذلكَ انْتَظَمَ هذا الأُسْلوبُ البَديعُ في المحاوَرَةِ مِنْ أَوَّلِ السُورَةِ إلى هُذِهِ الآيةِ انتظاماً بَديعاً مُعْجِزاً. فأَمَرَ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِإِطَاعَةِ اللهِ، وَإِطَاعَةِ رَسُولِهِ، وذَكَرَ طاعتَهُ سُبْحانَهُ، للتَوْطِئةِ والتَنْبيهِ على أَنَّ طاعةَ اللهِ في طاعةِ الرَسُولِ، لِقولِهِ تَعالى في سُورَةِ النِساءِ: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَد أَطَاعَ الله} الآية: 80. وذلكَ بَعْدَ أَنْ أَراهم آياتِ لُطْفِهِ وعِنايَتِه بهم، ورَأَوْا فَوائدَ امْتِثالِ أَمْرِ الرَسولِ ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، بالخُروجِ إلى بَدْرٍ، وقَدْ كانوا كارِهينَ أَنْ يخرجوا، وأَعْقَبَ ذلك بأنْ أَمَرَهُم بِطاعَةِ اللهِ ورَسُولِهِ شُكْراً على نِعْمَةِ النَصْرِ، واعْتِباراً بأَنَّ ما يَأْمُرُهم بِهِ خَيْرٌ عَوَاقِبُهُ، وحَذَّرَهم مِنْ مُخالَفَةِ أَمْرِ اللهِ ورَسُولِهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
وفي هَذا رُجوعٌ إلى الأَمْرِ بالطاعَةِ الذي افْتَتَحَتْ بِهِ السُورَةُ في قولِهِ: {وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} سورة الأنفالِ، الآية: 1. رُجوعَ الخَطيبِ إلى مُقدِّمَةِ كلامِهِ ودَليلِهِ ليأَخُذَها بَعْدَ الاسْتِدلالِ في صُورَةِ نَتيجةٍ أَسْفَرَ عَنْها احْتِجاجُهُ، لأَنَّ مَطْلوبَ القِياسِ هُوَ عينُ النَتيجةِ، فإنَّهُ لمَّا ابْتَدأَ فأَمَرَهُم بِطاعَةِ اللهِ ورَسُولِهِ بِقَوْلِهِ: {وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} في سِياقِ تَرْجيحِ ما أَمَرَهمْ بِهِ الرَسولُ ـ عَليه الصلاةُ والسّلامُ، على ما تهواهُ أَنْفُسُهم، وضَرَبَ لهمْ مَثَلاً لِذلك بحادِثَةِ كَراهَتِهم الخُروجَ إلى بَدْرٍ في بِدْءِ الأَمْرِ ومُجادَلَتِهم للرَغْبَةِ في عَدَمِهِ، ثمَّ حادثةُ اخْتِيارِهِمْ لِقاءَ العِيرِ دُونَ لقاءِ النَفيرِ خَشْيَةَ الهَزيمةِ، ومَا نَجَمَ عَنْ طاعَتِهم الرَسُولَ ـ صلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ومخالفتِهم هواهم، مِنْ نَصْرٍ عَظيمٍ وغُنْمٍ وَفيرٍ لهم، ومِنَ التَأْييدِ المُبينِ للرَسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، والتَأْسيسِ لإقْرارِ دِينِهِ قولُهُ تعالى: {وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} سورة الأنفال، الآية: 7. وقولُهُ: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} الآية: 8 من ذاتِ السورة. وكَيفَ أَمَدَّهمُ اللهُ بالنَصْرِ العَجيبِ لما أَطاعوهُ مخالفين في ذلك هواهم، وكيف هَزَمَ المُشركين لأنهم شاقُّوا اللهَ ورسولَه. والمُشاقَّةُ ضِدُّ الطاعةِ تَعريضاً للمُسْلِمين بِوُجوبِ التَبَرُّؤِ ممَّا فِيهِ شائبةُ عِصْيانِ الرَسولِ ـ صَلَّى اللهُ عليْه وسَلَّم.
قولُه: {وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} التَوَلّي الانْصِرافُ، وقد تَقَدَّمَ آنِفاً، وهُوَ مُسْتَعارٌ هُنا للمُخالَفَةِ والعِصْيانِ، "وأنتم تسمعون" دعاءَهُ لكم بالقُرآنِ والمواعِظِ والآياتِ، سماعَ تَفَهُّمٍ وإذعانٍ، وقد يُرادُ بالسَّماعِ التَصديقُ، وقد يَبْقى الكلامُ على ظاهرِهِ مِنْ غيرِ تجوُّزٍ. فيَجِبُ عَلَيْهم الاسْتِجَابَةُ لِلْرَّسُولِ إِذَا دَعَاهُمْ إلَى الجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ مُخَالَفَتِهِ، وَتَرْكِ طَاعَتِهِ، وَرَفْضِ الاسْتِجَابَةِ لَهُ إِذَا دَعَاهُمْ إلَى الجِهَادِ، لأَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ الذِي يَأْمُرُهُمْ بِطَاعَةِ الرَّسُولِ وَمُوَالاَتِهِ وَنَصْرِهِ، وَيَعْقِلُونَهُ، ويَدْخُلُ في طاعته ـ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وتَلْبِيَةِ دَعْوَتِهِ، السَّمْعُ والطاعةُ في كُلِّ ما أَمَرَ بِهِ ونهى، فالعِبرَةُ بِعُمومِ النَصِّ ولَيْسَ بخُصوصِ المناسبةِ.
قولُهُ تعالى: {وَلاَ تَوَلَّوْا} الأَصْلُ: تَتَوَلَّوا، فحَذَفَ إحْدى التاءيْنِ. وقد تَقَدَّمَ الخلافُ في أَيِّهِما المحذوفةُ.
قولُهُ: {وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ، وهذه الجملةٌ حاليَّةٌ، مَسُوقَةٌ لِتَأْكيدِ وُجُوبِ الانْتِهاءِ عَنِ التَولي مُطْلَقاً، لا لِتَقْييدِ النَهْيِ عَنْهُ بحالِ السَّماعِ. والضميرُ في "عَنْهُ" يَعودُ على الرَسُولِ؛ لأنَّ طاعتَه مِنْ طاعةِ اللهِ. وقيلَ: يَعُودُ على اللهِ، وهذا كقولِهِ تَعالى في سُورَةِ التَوْبَةِ: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} الآية: 62. وقيلَ: يَعودُ على الأَمْرِ بالطاعَةِ.