إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} يُعْلِمُ اللهُ عِبَادَهُ أَنَّ المَلاَئِكَةَ الكِرَامَ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، لاَ يَفْتُرُونَ وَلاَ يَسْتَكْبِرُونَ، فَعَلَى المُؤْمِنِينَ الاقْتِدَاءُ بِهِمْ، والتَشَبُّهِ بالمَلأِ الأَعْلى، ولذلك شُرِعَ السُجودُ عِنْد قراءتها، وهو تَعريضٌ بالكُفّارِ كَما يَدُلُّ عَليْه تَقديمُ "لَهُ".
ومَعْنى "عِندَ" دُنُوُّ الزُلْفَةِ والقُرْبِ مِنْ رَحمَتِهِ تَعالى وفَضْلِهِ، لِتَوَفُّرِهم على طاعَتِهَ وابْتِغاءَ مَرْضاتِهِ، أَمّا العِنْدِيَّةُ المَكانِيَّةِ فهيَ مُسْتَحيلةٌ لِتَنَزُّهِ اللهِ ـ تبارك وتَعالى، عَنْ ذلك، وقيلَ: المُرادُ عِنْدَ عَرْشِ رَبِّكَ. "وَلَهُ يَسْجُدُونَ" ويختَصُّونَهُ بالعِبادَةِ لا يُشْرِكونَ بِهِ غَيرَهُ. فقولُهُ: "ولَهُ يَسْجُدُونَ" يُفيدُ الحَصْرَ ومعناه: أَنَّهم لا يَسْجُدونَ لِغَيرِ اللهِ.
أَخْرَجَ البُخاريُّ ومُسلم وأَبو داوودَ والبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو بنِ العاص ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، قال: كانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، يَقرأُ عَلَيْنا القُرآنَ، فيَقْرَأُ السٌورَةَ فيها السَجْدَةُ فَيَسْجُدُ ونَسْجُدُ مَعَهُ حتى لا يجِدَ أَحَدُنا مَكاناً لِوَضْعِ جَبْهَتِهِ.
وأَخْرَجَ مُسلم وابْنُ ماجَةَ والبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رضي اللهُ عنه، قال: قالَ رسولُ اللهِ ـ صلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((إذا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَجْدَةَ، فَسَجَدَ، اعْتَزَلَ الشيْطَانُ يَبْكِي، يَقُولُ: يَا وَيْلهُ، أُمِرَ هَذا بالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الجَنّةُ، وأُمِرْتُ بالسُجُودِ فَعَصَيْتُ فَلِي النارُ)).
وأَخرَجَ البَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ سِيرينَ قالَ: سُئِلَتْ السيدةُ عائشةُ ـ رضيَ اللهُ عنها، عَنْ سُجودِ القُرآنِ فقالت: حَقٌّ للهِ يُؤدِّيهِ أَوْ تَطوّعٌ تَطَوَّعَهُ، وما مِنْ مُسلِمٍ سَجَدَ للهِ سَجْدَةً إلاَّ رَفَعَهُ اللهُ بها دَرَجَةً، أَوْ حَطَّ عَنْهُ بها خَطيئَةً، أَوْ جمَعَهُما لَهْ كِلْتَيْهِما. وأَخْرَجَ البَيْهَقِيُّ عَنْ مُسلِم بْنِ يَسار قالَ: إذا قَرَأَ الرَجُلُ السَجْدَةَ فلا يَسْجُدْ حتى يَأْتي عَلى الآيَةِ كُلِّها، فإذا أَتى عَلَيْها رَفَعَ يَدَيْهِ وكَبَّرَ وسَجَدَ.
وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ في المُصَنَّفِ، وأَحمدُ، وأَبو داوودَ، والتِرْمِذِيُّ، وصَحَّحَهُ، والنَسائيُّ، والدار قُطني، والبَيْهَقي، عَنِ السيدةِ عائشةَ ـ رضيَ اللهُ عنها، قالت: كان رسُولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، يَقولُ في سُجودِ القُرآنِ باللّيْلِ يَقولُ في السَجْدَةِ مِراراً: ((سَجََدَ وَجْهي للذي خَلَقَهُ، وشَقَّ سمعَهُ وبَصَرَهُ بحولِهِ وقُوَّتِهِ، فتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخالِقين)).
تمَّ بِفَضْلِهِ تَعالى تفسير سورةِ الأعرافِ بتاريخ السادس من ربيعٍ الأول، 1435 لهجرته عليه الصلاةُ والسلامُ الموافق للتاسع والعشرين من شهر كانون الأول: عام 2014 لميلاد السيد المسيح عليه السلامُ, ويليه بإذن اللهِ تفسير سورة الأَنفال.