لَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ
ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ
(165)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {لَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} أي: تَرَكوا ما ذَكَّرَهُمْ بِهِ صُلَحاؤهُم تَرْكَ الناسي للشيْءِ وأَعْرضوا عَنْهُ إعْراضاً كُلِّيّاً، فالنِسْيانُ هنا مِنْ قَبيلِ قولِهِ تعالى في سورة التوبة: {نَسُوا اللهَ فَنَسِيهم} الآية: 67. فاللهُ ـ جَلَّ وعَلا ـ مُنَزَّهٌ عَنِ النِسيانِ الذي هو السهوُ عن الأمرِ وعدمِ تذكُّره، أي فقدانُ الذاكرةِ لشيءٍ مّا، وإنَّما نِسيانُه لهمُ هو المُقابل لنسيانِهم هنا وقد قدَّمنا أنَّه الإعراضُ عن الشيءِ وتركُه تركَ الناسي، فهم قد تَرَكُوا ما أمِروا بهِ من تعظيم يوم السبتِ وأَعْرَضوا عن موعظةِ الفرقةِ التي ذكَّرتهم بهذه الحرمة وحذَّرتهم وبالَ معصيةِ ربِّهم ومولاهم. فَإنَّ هؤلاء لَمْ يَهْتَمَّوا بِأمْرِ اللهِ، وَلاَ بِتَذْكِيرِ إِخْوانِهِمْ لهم، فهو من المجاز، وفيه استعارةٌ حيثُ شَبَّهَ التَرْكَ بالنِسْيانِ، وجُوِّزَ أَنْ يَكونَ مجازاً مُرْسَلاً لِلعَلاقَةِ السَبَبِيَّةِ.
قولُه: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} وَنَجّى اللهُ تَعَالَى الذِينَ قَامُوا مِنْهُمْ بِأمْرِهِ بِالنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ. وفي الآيةِ دليلٌ على أَنَّ الفِرْقَةَ المتَعَدِيَةَ التي عدت في السبت هَلَكَتْ، والفرقةُ الناهيةُ عَنِ المُنكَرِ نَجَتْ. أَمَّا الفرقة الثالثةَ وهم الذين قالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قوماً اللهُ مُهْلِكُهم أَوْ مَعَذِّبهم عذاباً شديداً} فقَدِ اخْتَلَفَ المُفَسِّرونَ فيهم، فمنهم مَنْ قال هم مع الهالكين، فقد أخرج عبدُ الرزّاقِ، وابنُ جريرٍ، وابنُ أَبي حاتمٍ، والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عن عِكْرِمَةَ قالَ: جِئْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يوماً وهو يَبْكي، وإذا المُصْحَفُ في حُجْرِهِ فقُلْتُ: ما يُبْكيكَ يا بْنَ عبَّاسٍ؟ فقالَ: هؤلاءِ الوَرَقاتِ. وإذا في سُورَةِ الأَعْرافِ قال: تَعْرِفُ أَيْلَةَ؟ قلتُ: نَعم. قال: فإنَّهُ كانَ بها حَيُّ مِنْ يَهود سِيقَتِ الحِيتانُ إليْهِم يَوْمَ السَّبْتِ، ثمَّ غاصَتْ لا يَقْدِرونَ عَلَيْها حتى يَغُوصُوا عَلَيْها بَعْدَ كَدٍّ ومَؤنَةٍ شَديدةٍ، وكانَتْ تَأْتيهمْ يَومَ السبْتِ شُرَّعاً بِيضاً سماناً كأنها الماخِضُ، فكانوا كذلك بُرْهَةً مِنَ الدَهْرِ ثمَّ إنَّ الشَيْطانُ أَوْحى إليْهِم فقالَ: إنما نهيتُم عَنْ أَكْلِها يَوْمَ السَبْتِ فَخُذوها فِيهِ وكُلوها في غَيرِهِ مِنَ الأيّامِ. فقالتُ: ذَلِكَ طائفةٌ منهم، وقالتْ طائفةٌ: بَلْ نهيتم عَنْ أَكْلِها وأَخْذِها وصَيْدِها في يومِ السَبْتِ، فَعَدَتْ طائفةٌ بأنْفُسِها وأَبْنائِها ونِسائها، واعْتَزَلَتْ طائفةٌ ذَاتَ اليَمينِ، وتَنَحَّتْ واعْتَزَلَتْ طائفةٌ ذاتَ اليَسارِ، وسَكَتَتْ وقالَ الأَيمنونَ: ويْلَكم؟ لا تَتَعَرَّضُوا لِعُقوبَةِ اللهِ، وقالَ الأَيْسَرونَ: {لم تَعِظونَ قوماً اللهُ مُهْلِكُهم أَوْ مُعَذِّبهم عَذاباً شديداً} قالَ الأيمنُونَ: {معذرةً إلى رَبِّكم ولَعَلَّهم يَتَّقون} إنْ يَنْتَهوا فهو أَحَبُّ إليْنا أَنْ لا يُصابوا ولا يَهْلِكوا، وإنْ لم يَنْتَهوا فمَعذِرَةٌ إلى رَبِّكم. فمَضوا على الخطيئةِ وقال الأيمنون: قد فعلتم يا أَعْداءَ اللهِ، واللهِ لَنُبايِنَنَّكمُ الليلةَ في مَدينَتِكم. واللهِ ما نَراكم تُصْبِحونَ حتى يُصِبْحَكم اللهُ بخَسْفٍ أَوْ قَذْفٍ أَوْ بَعْضِ ما عِنْدَهُ مِنَ العَذابِ، فلَمَّا أَصْبَحوا ضَرَبوا عَلَيْهِمُ البابَ ونادوا فلم يُجابوا، فَوَضَعوا سُلَّماً وعَلَوا سُورَ المَدينَةِ رَجُلاً، فالْتَفَتَ إلَيْهم فقالَ: أَيْ عِبادَ اللهِ قِردةٌ واللهِ تَعَاوَى لها أَذْنابٌ! ففَتَحُوا فَدَخَلوا عَلَيْهم فَعَرَفَتِ القِرَدَةُ أَنْسابَها مِنَ الإنْسِ ولا تَعْرِفُ الإنْسُ أَنْسابَها مِنَ القِرَدَةِ، فَجَعَلَتِ القُرودُ تَأْتي نَسيبَها مِنَ الإنْسِ فَتَشُمُّ ثِيابَهُ وتَبْكي، فَيَقولُ أَلمْ نَنْهَكُمْ فتَقولُ بِرَأْسِها: أَيْ نَعم. ثمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما: "فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس" قالَ: أَليم وَجيع. قال: فأرى الذين نَهوا قدْ نَجوا، ولا أَرى الآخرين ذُكِروا، ونحنُ نَرى أَشْياءَ نُنْكِرُها ولا نَقولُ فيها. قلتُ: أيْ جَعَلَني اللهُ فِداكَ، أَلا تَرى أَنَّهم كَرِهوا ما هُمْ عَلَيْهِ وخالَفوهُمْ، وقالوا: {لم تعظونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهم} قالَ: فأَمَرَ بي فَكُسِيتُ ثَوْبَينِ غَليظَينِ. ونَسَبَ الطَبَرْسِيُّ إليهِ ـ رضيَ اللهُ تَعالى عَنْهُ قولَيْنِ آخرَيْنِ في الفرقة الساكتَةِ، أَحَدُهُما القَولُ بالتَوَقُّفِ وثانيهُما القَوْلُ بالهَلاكِ، وبِهِ قالَ ابْنُ زَيْدٍ أَيْضاً، فالمأخوذُ حينئذٍ الساكِتونَ والظالمون. وقالَ الحَسَنُ البصريُّ ـ رضيَ اللهُ عَنْه: الفِرْقَةُ الساكِتَةُ نَاجِيَةٌ، وأَنْكَرَ القَوْلَ الذي ذَكَرَهُ عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عَنْهُما ـ وقالَ: ما هَلَكَ إلاَّ فِرْقَةٌ لأنَّه ليسَ شَيْءٌ أَبْلَغُ في الأمْرِ بالمَعْروفِ والوِعْظِ مِنْ ذِكْرِ الوَعيدِ، وقدْ ذَكرَتِ الفِرْقَةُ الثالثةُ الوعيدَ فقالتْ: {لمَ تَعِظُونَ قوماً اللهُ مُهْلِكُهُم أوْ مُعَذِّبُهم عذاباً شَديداً}. وقولُ الحَسَنِ أَقْرَبُ إلى ظاهِرِ الآيَةِ، فَعلى هَذا نَجَتْ فِرْقَتان وهَلَكَتِ الثالثةُ. واحْتَجّوا عَلَيْه بِأَنهم لما قالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ} دَلَّ ذلك على أَنَّهم كانوا مُنْكِرينَ عَلَيْهِم أَشَدَّ الإنْكارِ، وأَنَّهم إنَّما تَرَكُوا وعظَهم لأنّهُ غَلَبَ على ظَنِّهم أَنَّهم لا يَلْتَفِتُون إلى ذلكَ الوَعْظِ ولا يَنْتَفِعونَ بِهِ.
قولُه: {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} فَجَاءَ أَمْرُ اللهِ فَأخَذَهُمْ بِعَذَابٍ شَدِيدٍ "بِئَيسٍ" بِسَبَبِ فِسْقِهِمْ وَخُرُوجِهِمْ عَنْ طَاعَةِ اللهِ. فإنْ قيلَ: إنَّ تَرْكَ الوَعْظِ مَعْصِيَةٌ، والنَهْيُ عَنْهُ أَيْضاً مَعْصِيَةٌ، فوَجَبَ دُخولُ أُلائكَ التارِكين للوَعْظِ الناهين عَنْه تحتَ قولِهِ: "وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ". وهذا برأينا غيرُ لازِمٍ، لأنَّ النَهْيَ عَنِ المُنْكَرِ إنَّما يَجِبُ على الكِفايَةِ. فإذا قامَ بِهِ البَعْضُ سَقَطَ عَنِ الباقين، ثمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ تَعالى أَخَذَهم بِعَذابٍ بَئيسٍ، والظاهرُ أَنَّ هذا العذابَ غيرُ المَسْخِ المُتَأَخِّرِ ذِكْرُهُ.
قولُهُ تعالى: {فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ}: الضَميرُ في "نَسُوا" للمَنْهِيّين. و "ما" مَوْصولةٌ بمعنى الذي، أي: فلمَّا نَسُوا الوعظَ الذي ذكَّرهم بِهِ الصَالحون.
قولُهُ: {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} قَرَأَ أهلُ المدينة (نافعٌ وأَبو جَعفَرَ وشَيْبَةُ) وغيرُهم: "بِيْسٍ" بِياءٍ ساكنةٍ على وزنِ "جيد". وقَرَأَ ابْنُ عامرٍ بهمزةٍ ساكِنَةٍ، على وزنِ "بِئْر"، والقراءتان على أَنَّ "بئيس" في الأَصْلِ فعلٌ ماضٍ، سُمِّيَ بِهِ فأُعْرِبَ على الحِكايَةِ كَقولِهِ: ((قيل وقال))، في الحديث الذي أَخْرَجَهُ أَبو نعيمٍ في الحليةِ أنَّ رسولَ اللهِ ـ صلى اللهُ عَليْه وسَلَّمَ ـ قال: ((أَنْهاكُم عَنْ قِيلٍ وقالَ وكَثْرَةِ السُؤالِ وإِضاعَةِ المالِ)) صحيح كُنُوزُ السُنَّةِ النَبَوِيَّةِ: (1/98). وكذا قولُهم: "مُذْ شَبَّ إلى دَبَّ". فلمَّا نُقِل إلى الاسميَّةِ صارَ وَصْفاً كَ "نِضْو" و "نِقْض". أو أَنَّه وَصْفٌ وُضِعَ على فِعْلٍ ك "حِلْف". أو أَنَّ أَصْلَهُ "بَئيس" كالقِراءَةِ المَشْهورَةِ، فخُفِّفَتِ الهَمْزَةُ، فالْتَقَتْ ياءانِ ثمَّ كُسِرَتِ الباءُ إتْباعاً كَ "رِغيف" و "شِهيد"، فاسْتُثْقِلَ توالي ياءيْن بعدَ كسرةٍ، فحُذِفتِ الياءُ المَكسورةُ، فصارَ اللَّفظُ بِئْسٍ، وهو تخريج الكسائي. أو أنَّ أَصْلَهُ "بَئِس" بِزِنَةِ "كَتِف" ثمَّ أُتْبِعَتِ الباءُ للهمزةِ في الكَسْرِ، ثمَّ سُكِّنَتِ الهَمْزَةُ ثمَّ أُبْدِلَتْ ياءً. وأمَّا قراءةُ ابْنِ عامرٍ فتَحْتَمِلُ أَنْ تَكونَ فِعْلاً مَنْقولاً، وَأَنْ تَكونَ وصْفاً كَ "حِلْف".
وَقَرَأَ أَبو بَكْرٍ ابنُ الأنباريِّ عَنْ عاصِمٍ "بَيْئَسٍ" بياءٍ ساكِنَةٍ بين باءٍ وهمزةٍ مَفتوحَتَين وهو صفةٌ على فَيْعَل كضيغَم وصَيْرَف وهي كثيرة في الأوصاف. قال امرؤ القيس:
كلاهما كان رئيساً بَيْئَساً ............... يَضْرِبُ في يومِ الهياجِ القَوْنَسا
وقرأ باقي السبعة بَئِيْسٍ بزنة رئيس. على أَنَّه وصفٌ على وزنِ "فَعِيل" ك "شديد" وهو للمبالغة وأَصلُه "فاعل" أي: بائس. أو أَنَّه مصدرٌ وُصِفَ بِهِ، أَيْ: بِعذابٍ ذِي بأْسٍ بَئيسٍ، مَصْدَرٌ مِثلُ النَذيرِ والنَكيرِ والعَذيرِ، ومثلُ ذلك في احتمالِ هذين الوجهين قولُ أَبي الإِصْبَعِ العَدوانيِّ:
حَنَقَاً عَلَيَّ ولا أَرَى ............................. ليَ منهما شَرَّاً بئيساً
وهي أيضاً قراءةُ عليٍّ وأَبي رَجاء.
وقَرَأَ يَعْقوبٌ القارئُ: بَئِسَ بِوَزْنِ شَهِدَ، وقَرَأَها أَيضاً عِيسى بْنُ عُمَرَ وزَيْد بْنُ عليِّ. وقرَأَ نَصْرُ بْنُ عاصِم: "بَأَسَ" بِوزْنِ ضَرَبَ، فعلاً ماضياً .
وقرأ الأعمشُ ومالك بنْ دينار: "بَأْس" فعلاً ماضياً، وأَصْلُهُ "بئِس" بِكَسْرِ الهَمْزَةِ فسَكَّنَها تخفيفاً ك "شَهْد" في قولِهِ:
لو شَهْدَ عادَ في زمانِ تُبَّعِ ...
وقرأَ ابْنُ كَثيرٍ وأَهْلُ مَكَّةَ: "بِئِسٍ" بِكَسْر الباءِ والهَمْزِ هَمْزاً خَفيفاً، ولم يُبَيَّنْ: هَلِ الهَمْزةُ مَكْسورةٌ أَوْ ساكِنَةٌ؟
وقرَأَ طَلْحَةُ وخارجةَ عَنْ نافع "بَيْسٍ" بفتحِ الباءِ وسُكونِ الياءِ مثلَ: "كَيْل" وأَصْلُهُ "بَيْئَس" مثل: "ضَيْغَم" فخَفَّفَ الهمزةَ بِقَلْبِها ياءً وإدْغامِ الياءِ فيها، ثمَّ خَفَّفَهُ بالحذْفِ كَ "مَيْتٍ" في "مَيِّتٍ".
وقرأَ عيسى بْنُ عُمَرَ والأَعْمَشُ وعاصِم في رواية: "بَيْئِسٍ" كقِراءَةِ ابْنِ الأنْباريِّ عَنْه إلاَّ أَنَّهُ كَسَرَ الهَمْزَةَ. وقد رَدَّ الناسُ هذه القراءةَ لأنَّ "فَيْعِلاً" بكَسْرِ العَينِ في المُعْتَلِّ، كما أَنَّ "فَيْعَلاً" بِفَتْحِها في الصَحيحِ ك "سيِّد" و "ضَيْغَم". على أَنَّهُ قدْ شَذَّ: "صَيْقِل" بالكسر، و "عَيَّل" بالفتح.
وقرَأَ نَصْر في روايةِ مالك بنِ دينار عَنْه "بَأَسٍ" بِفَتْحِ الباءِ والهمزةِ وجَرِّ السينِ بِزِنَةِ "جَبَل".
وقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَحمنِ السُلَميَِّ وطلحةُ بْنُ مَصَرّفٍ "بَئِسٍ" مِثل "كَبِد" و "حَذِر" قالَ عُبيد اللهِ بْنُ قيس:
ليتني أَلْقَى رُقَيَّةَ في ............................ خَلْوةٍ من غير ما بَئِسِ
وقرأ نَصر بْنُ عاصمٍ في روايةٍ: "بَيِّسٍ" بِتَشْديدِ الياءِ ك "ميّت"، على أَنها مِنَ البُؤسِ، ولا أَصْلَ لها في الهمزِ، والأَصْلُ: "بَيْوِس" ك "مَيْوِت" ففُعِل بْهِ ما فُعِل بِهِ. أو على أَنَّ أصلَه الهمزةُ فأَبْدَلها ياءً ثمَّ أَدْغَمَ الباءَ في الياءَ.
وقرأ أَيْضاً في روايةٍ: "بَأَّس" بهمزةٍ مُشَدَّدَةٍ، قالوا: قَلَبَ الياءَ همزةً وأَدْغَمَها في مِثلِها ماضياً ك "شَمَّرَ".
وقرأتْ طائفةٌ: "بَأَسَ" كالّتي قبلَها إلاَّ أَنَّهم خفَّفوا الهَمْزَةَ. وطائفةٌ أُخرى قرأت: "باسٍ" بأَلِفٍ صريحةٍ بينَ الباءِ والسينِ المجرورة.
وقرأ أهلُ المدينة: "بِئيس" ك "رئيس"، إلاَّ أَنَّهم كَسَروا الباءَ، وهيَ لُغةُ تميمٍ في "فعيل" الحَلْقيِّ العَينِ نحو: بِعير وشعير وشهيد سواءً أَكانَ اسْماً أَمْ صِفَةً.
وقرأ الحسنُ والأَعْمَشُ: "بِئْيَسٍ" بياءٍ مَكسورةٍ ثمَّ همزةٍ ساكِنَةٍ ثمَّ ياءٍ مَفْتُوحَةٍ بِزِنَةِ "حِذْيَمَ" و "عِثْيَرَ".
وقرَأَ الحَسَنُ: "بِئْسَ" بِكَسْرِ الباءِ وسُكونِ الهمزةِ وفتحِ السِينِ، جَعَلَها التي للذَّمِّ في نحو: بِئْسَ الرَجُلُ زَيْدٌ، ورُوِيَتْ عَنْ أَبي بَكْرٍ ابنِ الأنباري.
وقرأَ الحَسَنُ أَيْضاً كذلك إلاَّ أَنَّه بِياءٍ صَريحةٍ، وتخْريجُها كالتي قبلَها وهيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْ نافعٍ. وقدْ ردَّ أَبُو حاتمٍ هذِهِ القِراءةَ والتي قَبْلَها بِأَنَّهُ لا يُقالُ: (مَرَرْتُ بِرَجُلٍ بِئْسَ). حتى يُقالَ: بِئْسَ الرَجُلُ، أَوْ بِئْسَ رَجُلاً. قالَ النَحَّاسُ: وهذا مَردودٌ، يَعني قَولَ أَبي حاتمٍ، حَكى النَحْوِيُّونَ: (إنْ فَعَلْتَ كَذا وكَذا فبها وَنِعْمَتْ)، أيْ: ونِعمَتِ الخَصْلة، والتقديرُ: (بئسَ العذابُ). وأَبو حاتمٍ معذورٌ في رَدِّ القِراءَةِ فإنَّ الفاعلَ ظاهراً غَيرُ مَذْكورٍ والفاعِلُ عَمْدَةٌ لا يجوزُ حَذْفُه، ولكنْ قدْ وَرَدَ في الحديث قولُهُ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَنْ تَوَضَّأَ فَبِها ونِعْمَتْ، ومَنْ اغْتَسَلَ فالغَسْلُ أَفْضَلُ)). ففاعلُ "نعمت" هُنا مُضْمَرٌ يُفَسَِّرُهُ سِياقُ الكلام.
فهذِهِ اثْنَتانِ وعِشْرونَ قراءةً، التي ذَكَرَها الشيخُ أبو حيان التوحيدي وضَبْطُها بالتَلْخيصِ أَنَّها قُرِئَتْ ثلاثيَّةَ اللَّفْظِ ورُباعيَّتَه: فالثلاثيُّ اسماً: بِيْسٍ، بِئْسٍ، بَيْسٍ، بَاْسٍ، بَأَسٍ، بِئِسٍ، بَئِسٍ. أمَّا فعلاً فهي: بِئْسَ، بِيْسَ، بَئِسَ، بَأَسَ، بَأْسَ، بَيَسَ.
والرباعيَّةُ اسماً: بَيْئَسٍ، بِيْئِسٍ، بَيْئِسٍ، بَيِّسٍ، بَئِيْسٍ. بِئَيْسٍ، بِئْيَسٍ. وأمّا فِعْلاً ف: بَأَّسَ.
وقد زَادَ عليها أَبو البَقاءِ أَرْبَعَ قِراءاتٍ أَخَرَ وهي: "بَيِسٍ" بباءٍ مَفْتُوحَةٍ وياءٍ مَكْسورةٍ. وأَصلُها همزةٌ مَكْسورَةٌ فأُبْدِلَتْ ياءً، و "بَيَسَ" بِفَتْحِهِما، وأَصْلُها ياءٌ ساكنةٌ وهمزةٌ مَفتوحَةٌ، إلاَّ أَنَّ حَرَكَةَ الهَمْزَةِ أُلْقِيَتْ على الياءِ وحُذِفَتْ، ولم تُقْلَبِ الياءُ ألفاً لأنَّ حَرَكَتَها عارضةٌ. و "بَأْيَسٍ" بفتحِ الباءِ وسُكونِ الهمزةِ وفتحِ الياءِ، وهوَ بَعيدٌ إذْ لَيْسَ في الكلامِ "فَعْيَل". وقُرئَ "بَيْآس" على "فَيْعال" وهوَ غَريبٌ.
فهذِهِ سِتٌّ وعِشْرونَ قراءَةً في هذِه اللَّفظةِ، وقدْ حرَّرْتُ أَلْفاظَها وتَوجيهاتِها بحمْدِ اللهِ تَعالى ومِنَّتِه.