وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ
قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
قولُه ـ تعالى شأنُه: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} أي وقَطَّعْنا قَوْمَ مُوسى وفَرَّقْناهم وميّزنا بعضَهم من بعضٍ، ليكونَ رُجوعُ أَمْرِ كُلِّ فرقةٍ إلى رَئيسِها لِيَخِفَّ أَمْرُهم على مُوسى، ولِئَلاَّ يَتَحاسَدوا فَيَقَعَ الهَرْجُ بينهم، بأنْ فَجَّرَ لهم اثْنَتيْ عَشْرَةَ عَيْناً لكي لا يَتَنازَعوا ويَقْتَتِلوا على الماءِ، وجعلَ لِكِلِّ فرقةٍ نَقيباً لِيُرْجَعَ بِأَمْرِهم إلَيْهِ، فقد جَعَلَ اللهُ تَعَالَى بَنِي إسْرَائِيلَ اثْنَتِي عَشْرَةَ جَمَاعَةً، إذْ جَعَلَ نَسْلَ كُلِّ وَاحِدِ مِنْ أبْنَاءِ يَعْقُوبَ الاثْنَي عَشَرَ أُمَّةً وَجَمَاعَةً. ولقد كان ذلك التَقطيعُ في الأُمَّةِ الذين يَهْدونَ بالحَقِّ. لأنَّ هذه الجملةَ جاءتْ عَطْفاً على قولِهِ: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ} إلخ. وكانَ التقطيعُ مِنَّةً مِنْهُ ـ سبحانه وتعالى ـ عليهم، وهُوَ مِنْ محاسِنِ سِياسَةِ الشَريعةِ المُوسَوِيَّةِ، ومِنْ مُقدَّماتِ نِظامِ الجَماعةِ، وهو نَظيرُ ما فَعَلَ أميرُ المؤمنينَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ ـ رضي اللهُ عنه ـ حين تَدوينِ الدِيوانِ، وكانوا جميعاً ينْتَسبون إلى أَسْباطِ اسْحاقَ، ولكنَّهم لم يكونوا مُقَسَّمين إلى عَشائرَ لمَّا كانوا في مِصْرَ، ولمَّا اجْتَازوا البحرَ، كانَ هذا التَقسيمُ قبلَ انْفِجارِ العُيونِ، لِقولِهِ تعالى في سورة البقرة: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} وهنا ذَكَرَ الاستسقاءَ عَقِبَ الانْقِسامِ إلى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُمَّةٍ، وضَروريٌّ أَنْ يَكونَ ذلك التقسيمُ قَبْلَ الاسْتِسْقاءِ، لأنَّه لو وَقَعَ بعده لحصلَ مِنَ التَزاحُمِ على الماءِ ما يُفْضي إلى التخاصُمِ بينهم، وظاهرُ التوراةِ أنهم لمَّا مَرّوا بِ "حُوريبَ"، وجاءَ شُعَيْبٌ للِقاءِ مُوسى ـ عليهما السلامُ: أَنَّ شُعيْباً أَشارَ على موسى أَنْ يُقيمَ لهمْ رُؤَساءَ أُلوفٍ، ورُؤساءَ مِئاتٍ، ورُؤساءَ خماسين، ورُؤساءَ عَشَراتٍ، حسبَ ما جاء في الإصحاحِ الثامن عشر من سفرِ الخُروج، وعليه فإنهم كانوا قبائلَ مِنْ قَبْلُ، لِيَسْهُلَ وَضْعُ الرُؤساءِ على هذه الأَعْدادِ التي اقترحها شُعَيب. ووقع في السنة الثانيةِ مِنْ خُروجِهم أنَّ اللهَ أَمَرَ مُوسى أَنْ يحصيَ جميعَ بني إسرائيلَ، وأنَّ مُوسى وهارونَ جمعا جميعَ بني إسرائيل فانْتَسَبوا إلى عَشائرِهم وبُيوتِ آبائهم.
قولُهُ: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَر} وَحِينَما عَطِشَ بَنُوا إِسْرَائِيل وهم تائهون فِي صَحراءِ سِينَاءَ، طلبوا من نبيهم موسى ـ عليه السلامُ ـ أنْ يسألَ ربَّهُ السُقيا لهم، فاسْتَسْقَى لَهُمْ مُوسَى، فَأوْحَى اللهُ إليهِ: أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ حَجَراً مِنْ أَحْجَارِ الصَّحْراءِ. قال عَطاء: كانَ الحَجَرُ أَرْبَعَةَ وُجُوهٍ لِكُلِّ وَجْهٍ ثَلاثةُ أَعْين لِكُلِّ سِبْطٍ عينٌ لا يُخالِطُهم سِواهم. أَمَّا الحجرُ الذي يتم الحديث عنه فهو بحجم رأس الثور من حجارةِ جَبَلِ الطورِ، فقد أخرج ابنُ أبي حاتمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلَهُ: (... وَكَانَ حَجَرًا طُورِيّاً مِنَ الطُّورِ يَحْمِلُونَهُ مَعَهُمْ، حَتَّى إِذَا نَزَلُوا ضَرَبَهُ مُوسى بِعَصَاهُ). وأخرج كذلك عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ: (وَجَعَلَ لَهُمْ حَجَرًا مِثْلَ رَأْسِ الثَّوْرِ، يُحْمَلُ عَلَى ثَوْرٍ، فَإِذَا نَزَلُوا مَنْزِلاً وَضَعُوهُ، فَضَرَبَهُ موسى بِعَصَاهُ، فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، فَإِذَا سَارُوا حَمَلَهُ عَلَى ثَوْرٍ، فَاسْتَمْسَكَ الْمَاءُ). وكذلك روي عن مقاتلٍ أنَّ الحجر كان من جبل الطورِ. وقال بعضُهم: كانَ الحَجَرُ مِنَ الجَنَّةِ. وقيل: رَفَعَهُ مُوسى مِنْ أَسْفَلِ البَحْرِ حَيْثُ مَرَّ فِيهِ مَعَ قَومِه. على أنَّ قولُهُ تعالى: "الحجر" يفيدُ بأنَّ المرادَ حجرٌ معيَّنٌ وليس أيَّ حجرٍ كان لأنَّ "أل" هنا للعهدِ. فهو حجرٌ معروفٌ بالنسبة لموسى ـ عليه السلامُ.
قولُه: {فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} فَضَرَبَه فَانْبَجَسَتِ المِيَاهُ مِنْهُ، فِي اثْنَتَي عَشْرَةَ عَيْناً، أيْ: نَبَعَتْ، الانْبِجاسُ أَخَفُّ مِنَ الانْفِجارِ، وحَذَفَ "فضربه" للإيماءِ إلى أَنَّ مُوسى سارعَ في تنفيذ الأمرِ ولم يَتَأخّرْ في الامْتِثالِ، حتى كأنَّ الإيحاءَ وضَرْبَهُ أَمْرٌ واحِدٌ، كما يومئ الحذفُ إلى أن الانبجاسَ كان بأمرِ الله تَعالى حتى كأنَّ فِعْلَ مُوسى ـ عليه السلامُ ـ لا دَخْلَ له في الانبجاسِ، وأَنَّهُ لم يَكُنْ مُؤثِّرًا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الفِعْلُ ذَاتُهُ، بَلْ هو سَبَبٌ عاديٌّ وحِكْمَةٌ جارِيَةٌ، أمّا الفِعلُ فإنَّما هو القُدْرَةُ الإلهيَّةُ، وهذا ما يَقْتَضِيهِ النَظْمُ، والتعقيبُ بالفاءِ. والمعهودُ الذي جرت عليه العادة أنَّ الحفرَ يَسترقُ زمناً ويتطَّلبُ جهداً، أَمّا هُنا فقدْ ضَرَبَ مُوسى الحَجَرَ بِعَصاهُ وإذْ بالمياهِ تتدفَّقُ مِنْ اثْنَيْ عَشِرَ موضعِ فيهِ، وكأنَّ الضربَ كان الإشارةَ لبدء تفجُّر الينابيعِ. إنَّها معجزةٌ أُخرى لِسَيِّدِنا موسى ـ عليهِ السلامُ ـ في هذه العصا التي سَبَقَ الحديثُ عنْها، في هذه السُورَةِ، ولَسَوْفَ يَكونُ لَنا معها وِقْفةٌ أُخرى إنْ شاءَ اللهُ عند قولِه في سورةِ طه: {وما تلك بيمينك يا موسى}. وقالَ أَبو عَمْرٍو بْنُ العلاءِ: "انبجست": عَرِقَتْ، وانْفَجَرَتْ: سالَتْ. ففرَّقَ بَيْنَ انبجست هُنا وانفجرت في سورة البقرة، وجاءَ في التَفسيرِ أَنَّ مُوسى ـ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ ـ كان إذا ضَرَبَ الحَجَرَ ظَهَرَ عَلى الحجرِ مثلُ ثَدْيِ المَرْأَةِ فَيَعْرَقُ ثمَّ يَسيلُ، وهما قريبانِ مِنَ الفَرْقِ المَذْكورِ في النَّضْخِ والنَّضْحِ. وقال الراغبُ الأصفهانيُّ: يُقالُ: بَجَسَ الماءُ وانْبَجَسَ انْفَجَرَ، لكنَّ الانْبِجاسَ أَكثرُ ما يُقالُ فيما يَخْرجُ مِنْ شَيْءٍ ضَيْقٍ، والانْفِجارُ يُسْتَعْمَلُ فيه وفيما يخرُجُ مِنْ شَيْءٍ واسِعٍ، ولذلك قالَ تعالى: {فانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً}، وفي مَوْضِعٍ آخرَ {فانفجرت} سورة البَقرة: 60.، فاستُعْمِلَ حيثُ ضاقَ المَخْرَجُ اللفْظتان، يَعني ففرَّقَ بَيْنَهُما بالعُمومِ والخُصوصِ، فكُلُّ انْبِجاسٍ انْفجارٌ مِنْ غَيرِ عَكْسٍ وقال الهَرَوِيُّ: يُقالُ: انْبَجَسَ وتَبَجَّسَ، وتَفَجَّرَ وتَفَتَّقَ بمَعنىً واحدٍ، وفي حديثِ حُذَيٍفَةَ: ((ما مِنَّا إلاَّ رَجُلٌ لَهُ آمَّةٌ يَبْجُسُها الظُّفُرُ غيرَ رَجُلَيْن)). يَعْني عُمَرَ وعَلِيّاً ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهم جميعاً. والآمَّةُ: الشَجَّةُ تَبْلُغُ أُمَّ الرأسِ، وهذا مَثَل يَعني أنَّ الآمَّةَ مِنَّا قَدِ امْتَلأَتْ صَديداً بحيثُ إنَّهُ يُقْدَرُ على اسْتِخْراجِ ما فيها بالظُفُرِ ولا يحْتِاجُ آلَةً كالمِبْضَعِ، فعَبَّرَ بِذلك عَنْ زَلَلِ الإِنسانِ وذنوبِه، وأَنَّه تَفاقَمَ إلى أَنْ صارَ يُشْبِهُ شَجَّةً هذِهِ صِفَتُها.
قولُه: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} لِكُلِّ سِبْطٍ مِنْهُمْ عَيْنٌ يَشْرَبُ مِنْهَا، يخالطهم فيها غيرهم مَنْعاً لِلْخِصَامِ والتَّنَافُسِ وَالتَّزَاحُمِ عَلَى المَاءِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، والحكمة في ذلك أن الأسباط كانت بينهم عصبية ومباهاة، وكل سبط منهم لا يتزوج من سبط آخر.
قولُه: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ} ذِكْرٌ لإِنعامِهِ ـ سبحانه وتَعالى ـ على بني إسرائيلَ وهُم في مَعِيَّةِ مُوسى وهارونَ في التِيهِ، حيثُ سَخرَّ لهم الغمامَ، وهو السَّحابُ الأبيضُ الباردَ لِيُظلَّهم منْ حرِّ أشعةِ الشَمْسِ حتى لا تَلْفَحَهم. لِكُلِّ سِبْطٍ غَمامَةٌ عَلى قَدْرِهِ. قيلَ وكان يَنْزِلُ باللَّيْلِ عَمُودٌ مِنْ نارٍ يَسيرون بِضَوْئِهِ.
قولُه: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} وَأَرْسَلَ إليهِم المَنَّ وَالسَّلْوَى، والمَنَّ كُالطلِّ يَنْزِلُ مِنَ السَمَاءِ على شَجَرٍ أَوْ حَجَرٍ ويحلو ويَنْعَقِدُ عَسَلاً ويجِفُ جَفافَ الصَّمْغِ، قيل: كانَ المنُّ يَنْزِلُ عليهم مثلَ الثَلْجِ مِنَ الفَجْرِ إلى طُلوعِ الشَمْسِ لِكُلِّ إنْسانٍ صاعٌ، وكانت ريحُ الجنوبِ تَبْعَث عليهم طائرَ السُماني فَيَذْبَحُ الرَّجُلُ مِنْهُ ما يَكْفيهِ. وعن مقاتل: أنَّ السلوى طائرٌ أحمرُ يُشبِه السُمّان أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ بِسَنَدِهِ عَنْ قَتادَةَ في قولِهِ: "وأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ المَنَّ" قال: كان المَنُّ يَسْقُطُ عَلَيْهِم في محلَّتِهم سُقوطَ الثَلْجِ، أَشَد بياضاً مِنَ اللَّبَنَ، وأحْلى مِنَ العَسَلِ، يَسْقُطُ عَليهم مِنْ طُلوعِ الفَجْرِ إلى طُلوعِ الشَمْسِ، يأخُذُ الرَجُلُ قَدْرَ ما يَكْفيهِ يَومَهُ ذلكَ، فإنْ تَعَدَّى ذَلكَ فَسَدَ ما يَبْقى حتّى إذا كانَ يَوْمُ سادِسِه يَوْمَ جُمْعَتِهِ أَخَذَ ما يَكْفيهِ لِيَوْمِ سادِسِهِ ويومِ سابِعِهِ لأنَّهُ كانَ يومَ عِيدٍ لا يَشْخَصُ فيهِ لأمْرِ مَعِيشَتِهِ ولا يَطْلُبُه شيْءٌ وهذا كلُّهُ في البرِّيَّةِ. وأَخْرَجَ عَنْ سَعيد بْنِ زَيْد بْنِ عَمرو بْنِ نُفَيْلٍ أنَّ النَبيَّ ـ صَلى اللهُ عليهِ وسَلَّم ـ قالَ: الكَمأَةُ مِنَ المَنِّ الذي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلى بَني إسرائيلَ وماؤها شِفاءٌ للعين. وأَخْرَجَ عَنْ عِكْرِمَةَ أيضاً أنَّه قالَ: المَنُّ شَيْءٌ أَنْزَلَهُ اللهُ عليهم مِثلُ الطَلِّ شِبْهَ الرَبِّ الغَليظِ.
وأخرجَ أيضاَ بسنده عنِ السُدِّيِّ أنَّه قال: قالوا يا موسى: فكيفَ لنا بماءٍ ها هُنا، أيْنَ الطَعامُ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعالى عليهِمُ المَنَّ، فكانَ يَسْقُطُ على شجرِ الزَنجبيل.
وأخرجَ عنِ الرَبيعِ بْنِ أنَسٍ قال: كانَ المَنُّ شَراباً كانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِم مِثلَ العَسَلِ فَيَمْزِجونَهُ بالماءِ ثمَّ يَشْرَبونَه. وأَخرجَ كذلك عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قال: السلوى هو السماني.
وبِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ مُنَبِّهٍ، أخرجَ ابْنُ أبي حاتمٍ أيضاً أنَّه قال: سَأَلَتْ بَنُو إسرائيلَ مُوسى اللَّحْمَ فقال اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ: لأطْعمَنَّهم مِنْ أقلِّ لحمٍ يُعْلَمُ في الأَرْضِ، فأرْسَلَ عَليهِمْ ريحاً، فأدْرَتْ عندَ مَساكِنِهم السَلْوى، وهوَ السماني مِيلٌ في مِيلٍ قيدَ رُمْح في السَماءِ، فخَبَّئوا للغَدِ فَنَتَنَ اللَّحْمُ. وروى عن مجاهد والشعبي، والضحَّاك، والربيعِ بْنِ أَنَسٍ نحوَ ما رُوِي، عَنِ ابْنِ عَباسٍ.
قولُه: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} وكُلُّ رَسولٍ أُمِرَ في زَمَنِهِ بالأَكْلِ مِنَ الحَلالِ، والعَمَلِ الصّالح، وتَأْثيرُ الأَكْلِ مِنَ الحلالِ في الأَعْمالِ مَعروفٌ. أَخْرَجَ أَحمد ومسلم والترمذيّ وابْنُ المنذر وابْنُ أبي حاتم عن أبي هريرة ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه ـ قال: قال رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسَلَّم: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَقَالَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ قَالَ وَذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ)). مُسندُ الصَحابةِ في الكُتُبِ التِسْعةِ: (5/164). فَأخَذُوا يَأكُلُونَ مِنْ طِيِّبَاتِ رِزِْقِ اللهِ، وَيَشْرَبُونَ مِنَ المَاءِ، فَكَفَرُوا بِهذِهِ النِّعَمِ، وَخَالَفُوا أمرَ اللهِ، فَأَلَحَقُوا الضَّرَرَ بِأنْفُسِهِمْ.
قولُه: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} وَمَا ظَلَمُونَا: معطوفٌ على محذوفٍ، أَيْ فَعَصوا ولم يُقابِلوا النِّعَمَ بالشُكْرِ، فَظَلَمْوا أَنفسهم دونَ أَنْ يَنال اللهَ مِن ذلكَ شيءٌ، لأن الخلق جميعاً (لَن يَبْلُغوا ضَرّي فَيَضُرّوني، ولَنْ يَبْلُغوا نَفْعِي فَيَنْفَعوني). فإنَّ الآيةَ الكريمةَ قد أَشارتْ إلى جُحودِهم النِّعمةَ.
قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ} الظاهرُ أَنَّ "قطعناهم" متعدٍّ لواحدٍ لأنَّهُ لم يُضَمَّنْ معنى ما يَتَعدَّى لاثنين، فعلى هذا يكونُ "اثنتي" حالاً مِنْ مَفْعولِ "قطَّعناهم" وهو هاءُ الضمير المتصل بقطعنا، والعائد على قوم موسى، أي: فَرَّقْناهم مَعدودِين بهذا العَدَدِ. ويجوزُ أنْ يَكونَ "قَطَّعْنا" بمعنى صَيَّرنا فيكون الهاء ضمير المفعول به الأول و "اثنتي"
المفعولَ به الثاني.
وتمييزُ "اثنتي عشرة" محذوفٌ لِفَهم المَعنى تَقديرُهُ: اثنَتيْ عَشرَة فُرْقَةً، و "أسباطاً" بَدَلٌ مِنْ ذلك التَمييزِ. ولم نجعلْ "أَسْباطاً" هو المميِّز لِسببين، أَحَدُهما: أَنَّ المعدودَ مُذكَّرٌ لأنَ أَسباطاً جمعُ سِبْطٍ، فكان يكون التركيبُ اثني عشر. والثاني: أَنَّ تمييز العددِ المُركَّبِ، وهو مِنْ أَحَدَ عَشَرَ إلى تِسْعَةَ عَشَرَ مُفْرَدٌ مَنْصوبٌ، وهذا جمعٌ. وقدْ جعلَهُ الزَمخشَرِيُّ تَمييزاً لَهُ مُعتذِراً عنه فقال: فإن قلتَ: مميِّزُ ما عدا العَشَرةَ مُفْردٌ فما وَجْهُ مجيئِهِ جمعاً؟ وهلاَّ قيل: اثني عَشَرَ سِبْطاً. قلت: لو قيل ذلك لم يكن تحقيقاً لأنَّ المرادَ: وقطَّعْناهم اثنتي عشرة قبيلة، وكلُّ قبيلةٍ أَسْباطٌ لا سِبْطٌ، فوَضَعَ أَسْباطاً مَوْضِعَ قَبيلةٍ. ونظيرُه قولُ أبي النجم العجيلي يصف الإبِلَ:
تَبَقَّلَتْ فِي أوَّلِ التَّبَقُّلِ ..................... بينَ رِمَاحَي مَالِكٍ وَنَهْشَلِ
ابْتَقَل القَومُ: رَعَتْ ماشِيَتُهم البَقْلَ ك "أبْقَلُوا".
قال الشيخ أبو حيّان التوحيدي في الرَدِّ على الزمخشريِّ: وما ذَهَبَ إليْهِ مِنْ أَنَّ كلَّ قبيلةٍ أَسباطٌ خلافُ ما ذَكَرَهُ الناسُ: ذكروا أَنَّ الأَسْباطَ في بَني إسرائيلَ كالقَبائلِ في العَرَبِ، وقالوا: الأسباطُ جمعُ سِبْطٍ، وهُمُ الفِرَقُ، والأسباطُ في وَلَدِ إسْحاقَ كالقبائلِ في وَلَدِ إسماعيلَ، ويَكونُ على زَعمِهِ قولُهُ تَعالى: {وَمَا أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباطِ} معناهُ: والقبيلةِ. وقولُهُ وهو نظيرُ قولِهِ: "بين رماحَيْ مالك ونهشل" ليس بِنَظيرِهِ، لأنَّ هذا مِنْ بابِ تَثْنِيَةِ الجَمْعِ، وهو لا يجوزُ إلاَّ في ضَرورة، وكأنَّه يُشيرُ إلى أَنَّه لو لم يُلْحَظْ في الجمعِ، كونُه أُريدَ بِهِ نَوعٌ مِنَ الرِماحِ لم تَصِحَّ التثنيةُ، كذلك هُنا لُحِظَ في الأَسْباطِ وإنْ كانَ جمعاً مَعنى القَبيلةِ فَمُيِّزَ بِهِ كما يُمَيَّزُ بالمُفَرَدِ.
وقال الحوفيُّ: يجوزُ أَنْ يَكونَ على الحَذْفِ، والتقديرُ: اثنَتيْ عَشرةَ فِرْقَةً أَسْباطاً، ويَكونُ "أَسْباطاً" نَعْتاً لِفِرْقةٍ، ثمَّ حُذِفَ الموصوفُ وأُقيمتِ الصِفَةُ مُقامَه. وأُمَمٌ نَعْتٌ لأسْباطٍ، وأنَّثَ العددَ وهو واقعٌ على الأَسباطِ وهوَ مُذَكَّرٌ، وهوَ بمعنى فِرْقَةٍ أَوْ أُمَّةٍ كما قالَ الحطيئة:
ثَلاثَةَ أَنْفُسٍ وَثَلاَثُ ذَوْدٍ .................. لَقَدْ جَارَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِي
يعني ب "ثلاثة أنفسٍ" رَجلاً. وقال النواحُ الكِلابيُّ:
وإنَّ كِلاَباً هذه عَشْرُ أبْطُنٍ ............ وأنْتَ بَرِيءٌ مِنْ قِبَائِلِهَا العَشْرِ
لم يُلْحِق التَّاء في عدد أَبْطُنٍ، وهي مُذَكَّرة؛ لأنَّها عِبَارة عن مُؤنَّث، وهي القبائل، فكأنَّه قيل: وإن كِلاَباً هذه عَشْر قَبَائِل؛ ومثلُهُ قولُ عُمَرَ بْنِ أَبي رَبيعةَ، مِنَ الطويلِ:
وَكَانَ مِجَنِّي دُونَ مَنْ كُنْتُ أتَّقِي ..... ثلاثُ شُخُوصٍ كاعِبَانِ ومُعْصِرُ
بالنظر إلى القبيلة، ولم تَلْحَقِ التاءُ في عدد "شخوص" وهي مُذَكَّرة؛ لمَّا كانت عِبَارة عن النِّسْوة. ونظيرُ وصفِ التمييز المفرد بالجمع مراعاةً للمعنى قول عنترة:
فيها اثنتان وأربعون حَلوبةً ............ سُوداً كخافيةِ الغراب الأَسْحَمِ
فوصف "حلوبة" وهي مفردةٌ لفظاً ب "سُوْداً" وهو جمع مراعاةً
لمعناها، إذِ المُرادُ الجمعُ.
وقال الفراءُ: إنما قالَ "اثنتي عَشْرَةَ" والسِّبطُ مُذكَّرٌ لأنَّ ما بعدَهُ أُمَمٌ فذَهَبَ التأنيثُ إلى الأُمَمِ، ولو كان اثني عشر لِتَذكيرِ السَبْطِ لَكانَ جائزاً. واحتجَّ النَّحْويّونَ على هذا ببيتِ النواح الكلابي المتقدّم:
وإنَّ كلاباً هذه عشرُ أبطنٍ ............ وأنت بريءٌ من قبائلها العشرِ
فذهبً بالبَطْنِ إلى القبيلةِ والفَصيلةِ، لذلك أنَّثَ والبَطْنُ ذَكَرٌ.
وقال الزجاج: المعنى: وقَطَّعناهم اثنتيْ عَشْرَةَ فِرقةً أَسْباطاً، مِنْ نعتِ فِرقةٍ، كأنَّهُ قال: جَعَلناهم أَسْباطاً وفَرَّقْناهم أَسْباطاً. وجوَّزَ أيْضاً أنْ يَكون "أسباطاً" بَدَلاً من "اثنتيْ عَشْرَةَ" وتَبِعَهُ الفارِسِيُّ في ذلك.
وقالَ بعضُهم: تقديرُ الكلامِ: وقطَّعْناهم فِرَقاً اثْنَتيْ عَشْرَةَ، فَلا يُحتاج حينئذٍ إلى غيره. وقالَ آخرون: جَعَل كلَّ واحدٍ مِنَ الاثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً، كما تَقولُ: لِزَيْدٍ دراهمُ، ولِفُلانَ دراهمُ ولِفلانَ دراهمَ، فهذه عشرون دراهم ، يعني أن المعنى على عشرينات من الدراهم. ولو قلت: لِفلان ولِفلان ولِفلان عِشرون دِرْهماً بإفرادِ "درهم" لأدَّى إلى اشتراك الكل في عشرين واحدة والمعنى على خلافه. وقال جماعة منهم البغوي: وفي الكلامِ تقديمٌ وتَأْخيرٌ تقديرُه: وقطعناهم أَسباطاً أُمماً اثْنَتَيْ عَشْرَةَ.
وقولُه: {أُمَماً} إمَّا نَعْتٌ ل "أَسْباطاً"، وإمَّا بَدلٌ منها بَعْدَ بَدَلٍ على قولِنا: إنَّ أَسْباطاً بَدَلٌ مِنْ ذَلِكَ التَمييزِِ المُقَدَّرِ. وجَعَلَهُ الزمخشريُّ أَنَّهُ بَدَلٌ مِنِ اثْنَتِيْ عَشْرَةَ، قال: بمعنى: وقَطَّعناهم أُمماً لأنَّ كلَّ أَسْباطٍ كانَتْ أُمَّةً عَظيمةً وجماعةً كَثيفَةَ العَدَدِ، وكُلُّ واحدَةٍ تَؤُمُّ خلافَ ما تَؤُمُّه الأُخرى لا تَكادُ تَأْتَلِفُ. وقد تقدَّمَ القولُ في الأَسْباطِ.
قولُهُ: {أَنِ اضرب} يجوزُ في "أَنْ" أنْ تَكونَ المُفَسِّرَةَ للإِيحاءِ، وأَنْ تَكونَ المَصْدَرِيَّةَ.
قولُه: {فانبجسَتْ} كقولِهِ في سورة البقرة: {فانفجرت} الآية: 80. إِعْراباً وتَقديراً ومعنىً، وقدْ تَقَدَّمَ جميعُ ذَلكَ هناك.
قوله: {كُلُّ أُنَاسٍ} الأناسُ: اسْمُ جمعٍ ليس على التكسير نحو: رُخال وتُناءُ وتُؤام وأَخواتٍ لها. ويجوزُ أَنْ يُقالَ: إنَّ الأَصْلَ الكَسْرُ والتَكْسيرُ، والضَّمَّةُ فيه بَدَلٌ مِنَ الكَسْرَةِ كَما أُبْدِلَتْ في نحوِ سُكارَى وغُيارَى مِنَ الفَتْحةِ. وقال أبو حيّانَ: لا يجوزُ هذا لأنَّهُ لم يُنْطَقْ ب "إناس" بكسر الهمزة، فَيَكونُ جمعَ تَكسيرٍ حتى تَكونَ الضَمَّةُ بَدَلاً مِنَ الكَسْرَةِ بخِلافِ سُكارى وغيارى فإنَّ القياسَ فيهما "فَعالى" بِفَتْحِ فاءِ الكَلِمَةِ، وهُوَ مَسْموعٌ فيهِما. ولأنَّ سُكارى وغُيارى وعُجالى وما وَرَد مِنْ نحوِها لَيْسَتِ الضَمَّةُ فيهِ بَدَلاً مِنَ الفَتْحَةِ، بَلْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ في "الكتاب" على أَنَّهُ جمعُ تَكْسيرٍ أَصْلٌ، كما أَنَّ "فَعالى" جمعُ تَكسيرٍ أَصْلٌ، وإنْ كانَ لا يَنْقاسُ الضَمُّ كَما يَنْقاسُ الفَتْحُ. قال سِيبَوَيْهِ في حَدِّ تَكْسيرِ الصِفاتِ: وقدْ يُكَسِّرون بَعْضَ هذا على "فُعالى" وذَلكَ قولُ بعضِهم "عُجالى وسُكارى". وقال أيضاً في الأَبْنِيَةِ: ويكونُ "فُعالى" في الاسْمِ نحوَ: حُبارَى وسُمانى ولُبادى، ولا يَكونُ وَصْفاً إلاَّ أَنْ يُكَسَّرَ عَلَيْهِ الواحِدُ للجَمْعِ نحو: سُكارى وعُجالى. فهذان نَصَّان مِنْ سِيبَويْهِ على أَنَّهُ جمعُ تَكسيرٍ، وإذا كان جمعَ تَكسيرٍ أَصْلاً لم يَسُغْ أَنْ يُدَّعى أَنَّ أَصلَهُ "فَعالَى" وأَنَّه أُبْدِلَتِ الحَرَكَةُ فيه. وذَهَبَ المُبَرِّدُ إلى أَنَّهُ اسْمُ جمعٍ، أَعني "فُعالى" بِضَمِّ الفاءِ وليسَ بِجَمْعِ تَكْسيرٍ.
قولُهُ: {كُلُواْ مِنْ طَيِّبَاتِ} تقدَّمَ كذلك الكلامُ على هذه الجملةِ وما قبلَها، وما بعدَها في سورة البقرةِ.
قرأَ العامَّةُ: {وقطّعناهم} بالتشديد للتكثيرِ، وقرأَ أَبانُ بْنُ تَغْلِبَ، عن عاصمٍ: "وَقَطَعْناهم" بتخفيفِ العين، والشهيرةُ أَحْسَنُ لأنَّ المقامَ للتَكْثيرِ، وهذهِ تحتَمِلُهُ أَيْضاً.
قرأ العامةُ: {عَشْرَةَ} هنا وفي البقرة، وهي لغةُ أهلِ الحجاز، وقرأَ الأَعْمشُ وابْنُ وثّابَ وطلحةُ ابْنُ سُلَيْمانَ: {عَشِرة} بِكَسْرِ الشين، وقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ فَتْحُها أَيْضاً، ووافقَهم على الكَسْرِ فقَطْ أَبو حَيَوَةَ وطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّف. وقدْ تقدَّم تحقيقُ ذلكَ في سورةِ البَقَرَةِ، وأَنَّ الكَسْرَ لُغَةُ تميمٍ والسُكونَ لُغةُ الحِجازِ.