قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
(158)
قولُهُ ـ تعالى وجَلَّ: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} قُلْ يَا مُحَمَّدُ للنَّاسِ جَمِيعاً: إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَى جَمِيعِ البَشَرِ، وهذا أَمْرٌ مِنَ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ لِنَبِيِّهِ بإشْهارِ الدَّعْوَةِ والحَضِّ على الدُخولِ في الدين الحنيفِ، وذلك أَنَّه لمّا ذكرَ في الآيةِ السابقةِ الأُمَّةَ المُتَّبِعَةَ للنَبيِّ الأُمِيِّ التي كَتَبَ لها رَحمتَهُ، وحكى ما في الكتابين السابقين مِنْ نُعوتِ رَسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ـ وشَرَفِ مَنْ يَتَّبِعُهُ مِنْ أَهْلِهِما ونَيْلِهم لِسَعادةِ الداريْنِ، أُمِرَ ـ عَليهِ الصلاةُ والسّلامُ ـ بِبَيانِ أَنَّ تِلكَ السعادةَ غيرُ مُخْتَصَّةٍ بهم بَلْ هي شَاملةٌ لِكُلِّ مَنْ يَتَّبِعُه كائناً مَنْ كانَ، وأُمرَ بِبيانِ عُمومِ رِسالَتِه وأَنَّها للثَقَلينِ، علماً أَنَّ رسالاتِ سائرِ المرسلينَ من قبلُ كانت لأقوامِهم خاصَّةً، فإرسالُ مُوسى ـ عليه السَّلامُ ـ إلى فِرْعونَ ومَلَئِهِ بالآياتِ التِسْعِ إنَّما كانَ لأَمْرِهم بِعبادَةِ رَبِّ العالمين ـ عَزَّ سُلْطانُهُ ـ وتَرْكِ ما كان يَدَّعيه الطَاغِيَةُ من ربوبيَّةٍ، وكان يَقْبَلُها مِنْهُ فِئَتُهُ الباغِيَةُ، وما كانوا يَفعلونَه بَبني إِسرائيلَ مِنْ أَسْرٍ واستعبادٍ وقَسْرِ، وأَمَّا العُمَلُ بِأَحْكامِ التَوراةِ فقد كانَ مخْتَصّاً بِبَني إسْرائيلَ، فأعْقَبَ ذلك ـ سبحانَه ـ بِدَعْوةِ الناسِ إلى الاتِّباعِ الذي تُحَصَّلُ معه تِلكَ المَنازِلُ، وهذِه الدعوةُ خاصَّةٌ لمحمدٍ مِنْ بَين الرُسُلِ جميعاً، فإنّه ـ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ـ بُعِثَ إلى الناسِ كافَّةً وإلى الجِنِّ، قالَهُ الحَسَنُ، وبيَّنتْهُ الأَحاديثُ الشريفةُ، من ذلك ما أخرجه البُخاريُّ عنْ جابِرٍ بْنِ عبدِ اللهِ ـ رضي الله عنه ـ أنَّ رَسولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسَلَّمَ قال: ((أُعْطيتُ خمساً لم يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبلي: نُصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسيرَةَ شَهْرٍ، وجُعِلَتْ لي الأَرْضُ مَسْجِداً وطَهوراً، فأَيما رَجُلٍ مِنْ أُمَّتي أَدْرَكَتْهُ الصَلاةُ فَلْيُصَلِّ، وأُحِلَّتْ لي الغنائمُ ولم تَحِلَّ لأَحَدٍ قبلي، وأُعْطيتُ الشَفاعَةَ، وكان النبيُّ يُبْعَثُ إلى قومِهِ خاصَّةً، وبُعِثْتُ إلى الناسِ عامَّةً". وفي صحيحِ مُسلِمٍ عَنْ أَبي موسى الأَشْعَرِيِّ ـ رَضيَ اللهُ عنه ـ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهَ ـ صلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ: ((والذي نفسي بيَدِهِ لا يَسْمَعُ بي رَجُلٌ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ يَهوديٌّ ولا نَصْرانيٌّ ثمَّ لا يُؤمنُ بي إلاَّ دَخَلَ النارَ)).
ولقد كانت هذه الآيةُ أَوَّلَ نِداءٍ نادى بِهِ في مَكَّةَ، وكانَ مِنْ قَبْلُ يَدْعو واحداً واحداً. فلَمّا نَزَلَتْ هذِه الآيَةُ المباركةُ، أَظْهَرَ دعوتَه ونَادى في الناسِ: "يا أيُّها الناسُ إني رَسُولُ اللهِ إليْكُم جميعاً". فإنَّ مِنَ اليَهودِ فَريقاً كانوا يُقرّونَ لمحمدٍ ـ صلى اللهُ عليْه وسَلَّم بالنبوَّة والرسالةِ، ولكنَّهم يَزْعُمونَ أَنَّهُ نَبيٌّ للعربِ خاصَّةً، ولِذلِكَ لما قالَ رَسُولُ اللهِ لابْنِ صَيّادَ اليهودِيِّ: أَتَشْهَدُ أَنّي رَسولُ اللهِ، قالَ ابْنُ صَيّاد: أشْهَدُ أنَّكَ رَسُولُ الأُمِّيين. وقدْ ثَبَتَ مِنْ مَذاهِبِ اليَهودِ مَذْهَبُ فريقٍ مِنْ يَهودِ أَصْفانَ يُدْعَوْنَ بالعِيسَوِيَّةِ، وهمْ أتْباعُ أَبي عِيسى الأَصْفهانيِّ اليَهوديِّ القائلِ بِأنَّ محمّداً رَسُولُ اللهِ إلى العَرَبِ خاصَّةً لا إلى بَني إسرائيلَ، لأنَّ اليَهودَ فَريقان: فَريقٌ يَزعمونَ أَنَ شَريعةَ مْوسى لا تُنْسَخُ بغيرِها. وفريقٌ يَزْعمونَ أَنَّها لا تُنْسَخْ عَنْ بَني إسرائيلَ، ويجوزُ أَنْ يُبْعَثَ رسولٌ لِغَيرِ بني إسْرائيلَ.
قولُهُ: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} لمّا أَعْلَنَ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ بالرِسالةِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، أَرْدَفَ بِصِفَةِ اللهِ التي تَقْتَضِي الإذْعانَ لَهُ وهيَ أَنَّهُ مَلِكُ السَمواتِ والأَرْضِ وما فيهنَّ يَتَصَرَّفُ فيهِما كيفما شاءَ، فذَكَرَ انْفرادَهُ بالأُلوهيَّةِ في العالمين العُلْوِيِّ والسُفْلِيِّ، فهُوَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَالِكُهُمَا، وَهُوَ مُدَبِّرُهُمَا وَمُصَرِّفُهُما حَسْبَ مَا تَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ ، فَهُوَ المَعْبُودُ وَحْدَهُ لاَ إِلهَ إلاَّ هُوَ.
قولُه: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} ثمَّ ثنّى بالصفة الثانيةِ لهذا الإله العظيم التي توجب له العبادة فهوَ الذِي يَخْلُقُ الكَائِنَاتِ، وهو الذي يُمِدُّها بالحياةِ في كلِّ لحظةٍ بِتَجَلِّيهِ عَلَيْها باسْمِهِ الحيّ، وَهُوَ الذِي يَقْضِي بِموتها، فينهي هذه الحياةَ ويسلبها ممن يشاء من تلك المخلوقات، بيدِهِ، أو بِيَدِ ملكِ الموتِ ـ عليه السلامُ ـ حين يؤمَرُ بذلك. وما دَامَ إلهاً مستوجباً للعبادَةِ فَلا بُدَّ أَنْ يُطاعَ، ولا يُطاعُ إلاَّ بِمِنْهَجٍ، ولا مِنْهَجَ إلاَّ ب "افعل" و "لا تفعل". وأَوَّلُ المِنْهَجِ القُمَةُ العَقَديَّةُ، إنَّهُ هُو التَوحيدُ. وجَعَلَ اللهُ للتَوحيدِ حَيْثِيَّةً مِنْ وَاقِعِ الحَياةِ فقال: "يُحْيِي وَيُمِيتُ". فاللهَُ هُو الذيَ لَهُ مُلْكُ السَمواتِ والأَرْضِ، وهو الذي يحيي ويُميتُ، وهما أَمْرانِ لم يَدَّعِهِما أَحَدٌ أَبَداً.
قولُهُ: {فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ} فَآمِنُوا يَا أَيُّهَا النَّاسُ جَمِيعاً بِاللهِ الذِي له ملكُ السموات والأرض والذي يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الذِي أَرْسَلَهُ إلى النَّاسِ كَافَّةً، وَهَذا الرَّسُولُ يُؤْمِنُ بِتَوْحِيدِ اللهِ، وَيُؤْمِنُ بِكَلِمَاتِهِ التِي أَنْزَلَهَا عَلَى رُسُلِهِ لِهِدَايَةِ خَلْقِهِ. وَاتَّبِعُوا يَا أَيُّهَا النَّاسُ طَرِيقَ الرَّسُولِ الأُمِّيِّ، وَاقْتَفُوا أَثَرَهُ، فِي كُلِّ مَا يَأْتِي وَمَا يَذَرُ.
قولُهُ: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إلَى مَا فِيهِ سَعَادَتُكُمْ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ. إلى طريقِ الحقِّ والرُشْدِ، وغايةُ الاهْتِداءِ غيرُ مُتَناهِيَةٍ، لأنَّ أدبَ العُبوديَّةِ مَقرونٌ مَعَ عَظَمَةِ الرُبوبِيَّةِ، فكَما أَنَّ التَرقّي في مشاهدةِ الرُبوبِيَّةِ لا نهايةَ لَهُ، كذلك أَدَبُ العُبودِيَّةِ لا نهايةَ لَهُ، ولا يُعرَفُ إلاَّ باتباعِهِ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ ولَوْ عَرَفَ المرءُ ما عَرَفَ، وبَلَغَ ما بَلَغَ.
قولُهُ تعالى: {إِلَيْكُمْ جميعاً} الجارُّ مُتَعلقٌ بِ "رَسول"، و "جميعاً" حالٌ مِنْه.
قولهُ: {الذي لَهُ مُلْكُ} يجوزُ في هذا الموصول "الذي" الرَّفْعُ والنَصْبُ والجَرُّ، فالرفعُ والنصبُ على القَطْعِ وقد مرَّ غيرَ مرة فالرفعُ على مبتدأٍ، والنصبُ على المدح أو الاختصاص. والجرُّ إمَّا نعتاً للجلالة، وإمَّا بدلاً منها.
قولُهُ: {لا إله إِلاَّ هُوَ} هذه الجملةِ بدلٌ من الصلةِ قَبلَها فلا محلَّ لها من الإعراب، وفيها بيانٌ لها، لأنَّ مَنْ مَلَكَ العالَم كان هو الإِلهَ على الحقيقة.
قولُهُ: {يحيي ويميت} هذه الجملةُ هي بيانٌ لقولِهِ "لا إله إِلاَّ هُوَ" سِيْقَتْ لبيانِ اخْتِصاصِهِ بالإِلهيَّة لأنَّه لا يَقْدِرُ على الإِحياءِ والإِماتةِ غيرُهُ، أو هي في محلِّ نصبٍ على الحال.
قوله: {فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} عَدَلَ عنِ المُضْمَر إلى الاسْمِ الظَاهِرِ فلم يقلْ "فآمنوا بالله وبي" لِتَجْرِيَ عَلَيْهِ الصِفاتُ التي أُجْرِيَتْ عَلَيْهِ، سابقاً، ولِما في الالْتِفاتِ مِنَ البَلاغَةِ، ولِيُعْلِم أَنَّ الذي يجِبُ الإِيمانُ بِهِ واتِّباعُهُ هُو هَذا الشَخْصُ المُسْتَقِلُّ بأنَّهُ النَبيُّ الأُميُّ الذي يُؤمِنُ بالله وكلِماتِهِ كائناً مَنْ كانَ أَنَا أوْ غَيري، وذلك إظُهاراً للنَّصَفَةِ وتَفادِياً مِنَ العَصَبِيَّةِ لِنَفْسِهِ.
قولُهُ: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} نَعْتٌ لاسْمِ الجَلالَةِ، دالٌّ على الثَناءِ. وتقديمُ المجرورِ للقَصْرِ، أَيْ: لا لِغَيرِهِ ممّا يَعْبُدُهُ المُشْرِكونَ، فهوَ قَصْرٌ إضافيٌّ للرَدِّ على المشركين.
وقولُه: {لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} هذه الجملةُ حالٌ مِنِ اسْمِ الجَلالَةِ في قُوَّةِ مُتَفَرِّداً بالإلهيَّةِ، وهذا قَصْرٌ حَقيقِيٌّ لِتَحقيقِ صِفَةِ الوَحْدانِيَّةِ، لا لِقَصْدِ الرَدِّ على المشركين.
قرأ العامّةُ: {وكلمات} بالجمعِ، وقَرأَ مجاهد وعيسى: "وكلمة" بالإفرادِ، والمرادُ بها الجِنْسُ كَقَولِهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قالَها شاعِرٌ كَلِمَةُ لَبيدٍ)). يريدُ قولَه:
أَلاَ كلُّ شيءٍ ما خَلا اللهَ باطلُ .............. وكُلُّ نَعيمٍ لا مَحالَةَ زائلُ
وَيُسَمُّون القَصيدَةَ كُلَّها كَلِمَةً، كما يقالُ ألقى فلانٌ كلِمتَه، أي ألقى خطبةً وقد تكون مطوّلةً.