فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ
(135)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّهُ: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ} أي لما كَشَفَ اللهُ تَعَالَى عَنْ فرعونَ وقومه البَلاَء والعذابَ بأَلوانِه التي سَبَقَ ذِكرُها في الآية السابقة، والتي كان آخرَها الطاعونُ، بِدُعَاءِ مُوسَى ـ عليه السلامُ ـ، بعد أنْ رَجا فِرْعَوْنُ مِنْه ذلك، ووعَدَهُ عَلَيْه أَنْ يَسْمَحَ لَهُ ولِقَوْمِهِ مِنْ بَني إسرائيلَ بالخروجِ مِنْ تحت ملكه وسطوته بمصرَ إلى أيِّ أرضٍ يَشاؤون لِيَعبُدوا ربهم فيها، وبذلك يَتَحرَّرونَ مِنْ خِدْمَةِ فِرْعَوْنَ وقومِهِ القِبْط. وقد دعا لهم موسى اللهَ رَبَّه بذلك، فاسْتَجابَ اللهُ رجاءَ رسولِهِ موسى ـ عليه السلامُ ـ ودعاءَهُ وكَشفَ عن فرعونَ وقومه ما كانَ حَلَّ بهم مِنْ عَذابٍ.
قولُه: {إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ} أي إلى حَدٍّّ مِنَ الزَمَنِ وإلى موعد آخر هم مدركوهُ لا مَحالةَ حيث سيهلكهُمْ فيه، كما سَنَرى لأنّهم ما تابوا إلى بارئهم ولن يتوبوا، ولَنْ يَرْعَوُوا عَنْ غَيِّهم حتى يهلكهمُ اللهُ، حيث لن ينفعَهم ما تَقَدَّمَ مِنَ الإمْهالِ لهم، وكَْشفِ العذابِ عنهم إلى الوقْتِ المعلومِ. الذي حدَّده الحكيمُ العليمُ وهو وقتُ غرقهم في اليمِّ كما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ تَعالى عَنْهُما، أوِ الموتُ كما رُويَ عنِ الحَسَنِ البصريِّ ـ رضي اللهُ عنه، والمرادُ أَنجيناهم مِنَ العذابِ إلى ذلك الوقت، وروى ابنُ أبي حاتمٍ في تفسيره عَنْ مُجَاهِدٍ، قال: "إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ" أيْ: عَدَد مُسَمًّى مَعَهُمْ مِنْ أَيَّامِهِمْ". وروى الطبريُّ في تفسيره عن أبي جعفر قال: لِيَسْتَوفوا عَذابَ أَيَّامِهمُ التي جَعَلَها اللهُ لهم مِنَ الحياةِ أَجَلاً إلى وَقْتِ هَلاكهم.
قولُهُ: {إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} أي عَائدُون إلى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ، نَاكَثُون بِوَعْدِهِمْ لموسى. وكان لهم مَعَ كلِّ آيةٍ نقضٌ للعهدِ، وأَصلُ النَكْثِ فَكُّ طاقاتِ الصُوفِ المَغزولِ لِيُغْزَلَ ثانيةً، ثمَّ اسْتُعيرَ لِنَقْضِ العَهْدِ بَعْدَ إبْرامِهِ. كما اسْتُعيرَ الحَبْلُ للعَهْدِ في قولِه تَعالى في سورة آل عمران: {إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} الآية: 112. وهي
استعارة تَبَعِيَّةٌ حَسَنَةٌ.
وذلك أَنَّ فِرْعونَ بعد أنْ أَذْنَ لِبَني إسرائيلَ بالخُروجِ من مصرَ وخَرجوا مِنْها لَيْلاً، قالَ لَهُ بَعْضُ خاصَّتِه: ماذا فَعَلْنا وكَيْفَ أَطْلَقْنا إسرائيلَ مِنْ خِدْمَتِنا؟ فَنَدِمَ فِرعونُ، وجَهَّزَ جَيْشاً عظيماً للَّحاقِ بهم ليردَّهم إلى مَنازِلهم، كما جاء في الإصحاحِ الرابعَ عَشَرَ مِنْ سِفرِ الخُروج.
قولُهُ تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ} الرِّجْزُ بِكَسْرِ الرّاءِ، والرُّجْزُ، بِضَمِّها سَواءٌ وقرئَ بهما ومعناه: القَذَرُ، والعذابُ. والرَجَزُ بالتَحريك: ضَرْبٌ مِنَ الشِعْرِ وزْنُهُ: مُسْتَفْعِلُنْ سِتَّ مَرَّاتٍ، سمِّيَ بذلك، لِتَقارُبِ أَجزائهِ وقلَّةِ حُروفِه. وزَعَمَ الخَليلُ أنَّهُ لَيْسَ بِشِعْرٍ، وإنَّما هو أَنْصافُ أَبْياتٍ وأَثْلاثٌ. والرُجْزُ أيضاً: داءٌ يُصيبُ الإبِلَ في أعْجازِهَا، وتَرَجَّزَ الرَّعْدُ وارتجز: صاتَ، والسَّحابُ: تَحَرَّكَ بَطيئاً لكَثْرَةِ مائِهِ، والحادي: حَدا بِرَجَزِهِ. وتَراجَزُوا: تَنَازَعُوا الرَّجَزَ بينهم. والمقصودُ به هنا: ما حلَّ بفرعون وقومه من عذاب.
قولُه: {إلى أَجَلٍ} جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ ب "كَشَفْنا"، وهوَ المشهورُ عندَ المُعْرِبين. واسْتَشْكَلَ عَلَيْهِ الشيخ أبو حيّان، أنَّ ما دَخَلَتْ عليه "لمَّا" يترتَّبُ جَوابُهُ على ابتداءِ وُقوعِهِ، والغايةُ تُنافي التَعليقَ على ابْتِداءِ الوُقُوعِ، فلا بدَّ مِنْ تعَلُّقِ الابْتِداءِ والاستمرارُ حتى تَتَحَقَّقَ الغايةُ، ولذلكَ لا تَقَعَ الغايةُ في الفِعْلِ غيرِ المُتَطاوِلِ، لا يُقالُ: لَمَّا قَتَلْتَ زَيْداً إلى يَومِ الخميس جَرَى كذا، ولا يقالُ: لَمَّا وثبتُ إلى يومِ الجُمُعَةِ اتَّفَقَ كذا. وهذا كلامٌ حسنٌ. وقد يُجابُ عَنْهُ بأنَّ المُرادَ بالأجَلِ هُنا وَقتُ إيمانهم، وإرسالِهم بني إسرائيل معَهُ، ويَكونُ المرادُ بالكَشْفِ اسْتِمْرارَ رَفْعِ الرُجْزِ، كأنَّهُ قيلَ: فلمَّا تمادَى كشَفْنا عَنْهم إلى أجَلْ. وأَمَّا مَنْ فسَّرَ الأَجَلَ بالموتِ أوْ بالغَرَقِ فيَحتاجُ إلى حَذْفِ مُضافٍ تقديرُه: فلمّا كَشَفْنا عنهم الرِجْزَ إلى قُرْبِ أَجَلٍ هُمْ بالِغوهُ. وإنَّما احتاجَ إلى ذلك لأنَّ بَينَ موتِهمْ أَوْ غَرَقِهم حَصَلَ مِنْهم نُكْثٌ فكيفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكونَ النُكْثُ مِنهم بعدَ موتِهم أوْ غَرَقِهم.
ويمكن أن يُعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنَ "الرِّجْزِ" أي: فلمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ كائناً إلى أَجَلٍ. والمعنى أَنَّ العذابَ كان مُؤَجَّلاً. ويقوِّي هذا التأويلَ كونُ جوابِ "لمَّا" جاءَ بِ "إذا" الفُجائيَّةِ، أيْ: فلمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ العَذابَ المُقرَّرَ عَلَيْهِم إلى أَجَلٍ فاجَؤُوا بالنُكْثِ، وعلى مَعْنى تَغْيِيَتِهِ الكَشْفَ بالأَجْلِ المُبلوغِ لا تَتَأَتَّى المُفاجَأَةُ إلاَّ على تَأْويلِ الكَشْفِ بالاسْتِمْرارِ المُغَيَّا فَيُمْكِنُ المفاجأةُ إذْ ذاك بالنُكثِ.
قوله: {هُم بَالِغُوهُ} هذه الجملة في محلِّ جَرٍّ صِفَةً لأَجَلٍ. والوَصْفُ بهذِهِ الجُملةِ أَبْلغُ مِنْ وَصْفِهِ بالمُفْرَدِ لِتَكَرُّرِ الضَميرِ المؤذنِ بالتَفْخيم.
وقوله: {إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} إذا: هي الفُجائِيَّةُ، و "هم" مُبْتَدَأٌ و "ينكثون" خبرُهُ، و "إذا" جَوابُ "لَمَّا" كما تَقَدَّمَ بالتَأْويلِ المَذْكورِ، يَعْني فلمَّا كَشَفْنا عَنْهم العَذابَ فاجؤوا النُكْثَ وبادروه، ولم يؤخِّروه، ولكن لَمَّا كَشَفَ عنهم نكثوا. قال الشيخ: لا ولا يمكن التَّغْيية مع ظاهرِ هذا التقدير. يَعني فلا بُدَّ مِنْ تَأويلِ الكَشْفِ بالاسْتِمرارِ كَما تَقَدَّمَ حتّى يَصِحَّ ذلك. وهذه الآيةُ تَرُدُّ مَذْهَبَ مَنْ يدَّعي في "لَمَّا" أنها ظرفٌ، إذْ لا بُدَّ لها حينئذٍ مِنْ عاملٍ. وما بعد "إذا" لا يَعمَلُ فيما قبلَها.
قرأَ الجمهورُ: "ينكُثون" بضمِّ الكاف، وقرأ أبو حَيَوَةَ وأَبو هاشِمٍ بكسرِ الكافِ، وهما لُغَتانِ في المُضارِعِ.