أعيد نشر (بسم الله الرحمن الرحيم) تلبية لرغبة بعض الإخوة الكرام، لكنني سأنشرها على مراحل لتسهل مطالعتها
فيض العليم .... بسم الله الرحمن الرحيم
(3)...
وَقَدْ ذَهَبَ جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى الإِسْرَارِ بِهَا مَعَ الْفَاتِحَةِ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ، وَرُوي ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَمَّارٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَكَمِ وَحَمَّادٍ، وبِه قال أحمدُ ابنُ حَنْبَلٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَرُوِيَ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ مَثْلُ ذَلِكَ، حَكَاهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي (الاسْتِذْكَارِ). وَاحْتَجُّوا مِنَ الأَثَرِ فِي ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ مَنْصُورُ بْنُ زَاذَانَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَلَمْ يُسْمِعْنَا قِرَاءَةَ "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" وَمَا رَوَاهُ عَمَّارُ بن زريق عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أنسٍ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وخلفَ أبي بكرٍ وعُمَرَ، فلمْ أَسْمعْ أحداً منهم يَجهرُ بـ "بسم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" وهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، وَعَلَيْهِ تَتَّفِقُ الآثَارُ عَنْ أَنَسٍ وَلا تَتَضَادُّ وَيُخْرَجُ بِهِ مِنَ الْخِلافِ فِي قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَحْضُرُونَ بِالْمَسْجِدِ، فَإِذَا قَرَأَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" قَالُوا: هَذَا مُحَمَّدٌ يَذْكُرُ رَحْمَانَ اليمامَةِ يَعنون مُسَيْلَمَةَ فأُمِرَ أنْ يُخافِتَ بـ "بسم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، وَنَزَلَ: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها}. قَالَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ: فَبَقِيَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا على ذَلِكَ الرَّسْمِ وَإِنْ زَالَتِ الْعِلَّةُ، كَمَا بَقِيَ الرَّمَلُ فِي الطَّوَافِ وَإِنْ زَالَتِ الْعِلَّةُ، وَبَقِيَتِ الْمُخَافَتَةُ فِي صَلاةِ النَّهَارِ وَإِنْ زَالَتِ الْعِلَّةُ.
واتَّفَقَتِ الأُمَّةُ عَلَى جَوَازِ كَتْبِهَا فِي أَوَّلِ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الْعِلْمِ وَالرَّسَائِلِ، فَإِنْ كَانَ الكتابُ ديوانَ شِعْرٍ فروى مُجَالِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: أَجْمَعُوا أَلاَّ يَكْتُبُوا أَمَامَ الشِّعْرِ "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَلا يَكْتُبُوا فِي الشِّعْرِ "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" وَذَهَبَ إِلَى رَسْمِ التَّسْمِيَةِ فِي أَوَّلِ كُتُبِ الشِّعْرِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ. قَالَ أبو بكرٍ الخطيبُ: هو الَّذِي نَخْتَارُهُ وَنَسْتَحِبُّهُ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَيُقَالُ لِمَنْ قَالَ بِسْمِ اللهِ: مُبَسْمِلٌ، وَهِيَ لُغَةٌ مُوَلَّدَةٌ، وَقَدْ جَاءَتْ فِي الشِّعْرِ، قَالَ عُمَرُ بن أبي ربيعة:
لقد بَسْمَلَتْ ليلى غَداةَ لَقِيتُها ........ فيَا حَبَّذا ذاكَ الْحَبِيبُ الْمُبَسْمِلُ
والْمَشْهُورُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ بَسْمَلَ. قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ السِّكِّيتِ وَالْمُطَرِّزُ وَالثَّعَالِبِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: بَسْمَلَ الرَّجُلُ، إِذَا قَالَ: بِسْمِ اللهِ. ويُقَالُ: قَدْ أَكْثَرْتَ مِنَ الْبَسْمَلَةِ، أَيْ مِنْ قَوْلِ بِسْمِ اللهِ. وَمِثْلُهُ حَوْقَلَ الرَّجُلُ، إِذَا قَالَ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ. وَهَلَّلَ، إِذَا قَالَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. وَسَبْحَلَ، إِذَا قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ. وَحَمْدَلَ، إِذَا قَالَ: الْحَمْدُ للهِ. وَحَيْصَلَ، إِذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ. وَحَيْفَلَ، إِذَا قَالَ:: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ. وَجَعْفَلَ إِذَا قَالَ: جُعِلْتُ فِدَاكَ. وَطَبْقَلَ، إِذَا قَالَ: أَطَالَ اللهُ بَقَاءَكَ. وَدَمْعَزَ، إِذَا قَالَ: أَدَامَ اللهُ عِزَّكَ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُطَرِّزُ: الْحَيْصَلَةَ، إِذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ. وَجَعْفَلَ، إِذَا قَالَ: جُعِلْتُ فِدَاكَ. وَطَبْقَلَ، إِذَا قَالَ: أَطَالَ اللهُ بَقَاءَكَ. وَدَمْعَزَ، إِذَا قَالَ أَدَامَ اللهُ عِزَّكَ.
وقد نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَى ذِكْرِ الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَّلِ كُلِّ فِعْلٍ، كَالأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنَّحْرِ، وَالْجِمَاعِ وَالطَّهَارَةِ وَرُكُوبِ البحرِ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَفْعَالِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ} سورة الأنعام، الآية: 118. وَ {قالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} سورة هود، الآية: 41. وعَنْ جَابِرٍ بنِ عبد الله ـ رضي اللهُ عنه ـ عَنْ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قال: ((أَغْلِقْ بَابَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لا يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا وَأَطْفِ مِصْبَاحَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللهِ وَخَمِّرْ إِنَاءَكَ وَلَوْ بِعُودٍ تَعْرِضُهُ عَلَيْهِ وَاذْكُرْ اسْمَ اللهِ وَأَوْكِ سِقَاءَكَ وَاذْكُرْ اسْمَ اللهِ)). مسند الصحابة في الكتب التسعة (24 / 13) وقال شعيب الأرنؤوط هو صحيح على شرط الشيخين. وعندَ البخاري من حديث ابنِ عبّاسٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ أنَّ النَبِيَّ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم ـ قال: ((لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ قَالَ: بِاسْمِ اللهِ، اللهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا)). (367). وَقَالَ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ: موسوعة الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - (1 / 241). وروى البُخاري ومُسلمٌ عَنْ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ يَقُولُ: ((كُنْتُ غُلامًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلَّم: ((يَا غُلامُ سَمِّ اللهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ)). وقال: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ الذي لم يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ)) صحيح مسلم: /1653/. ورواه أيضاً الإمامُ أحمد، وأبو داوود، والنسائي، عن حذيفة. وَقَالَ: ((مَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللهِ)). صحيح البخاري برقم (985) وصحيح مسلم برقم (1960). وَشَكَا إِلَيْهِ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ضَعْ يَدَك عَلَى الَّذِي تَأْلَمُ مِنْ جَسَدِكَ وَقُلْ بِسْمِ اللهِ ثَلاثًا وقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرٍّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ)). رواه مسلم برقم (2202). فهَذَا كُلُّهُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ((سِتْرُ مَا بَيْنَ الْجِنِّ وَعَوْرَاتِ بَنِي آدَمَ إِذَا دَخَلَ الْكَنِيفَ أَنْ يَقُولَ بِسْمِ اللهِ)). صحيح ابن ماجة. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ السيدة عَائِشَةَ أُمِّ المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ أنّها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إذا مَسَّ طَهُورَهُ سَمَّى اللهَ تَعَالَى، ثُمَّ يُفْرِغُ الْمَاءَ عَلَى يَدَيْهِ.
وَفِي هذه الأحاديثِ رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَقُولُ: إِنَّ أَفْعَالَهُمْ مَقْدُورَةٌ لَهُمْ. وَمَوْضِعُ الاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ ـ سُبْحَانَهُ ـ أَمَرَنَا عِنْدَ الابْتِدَاءِ بِكُلِّ فِعْلٍ أَنْ نَفْتَتِحَ بِذَلِكَ، كَمَا ذَكَرْنَا. فَمَعْنَى "بِسْمِ اللهِ"، أَيْ بِاللهِ. وَمَعْنَى "بِاللهِ" أَيْ بِخَلْقِهِ وَتَقْدِيرِهِ يُوصَلُ إِلَى مَا يُوصَلُ إِلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى قَوْلِهِ: "بِسْمِ اللهِ" يَعْنِي بَدَأْتُ بِعَوْنِ اللهِ وَتَوْفِيقِهِ وَبَرَكَتِهِ، وَهَذَا تَعْلِيمٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى عِبَادَهُ، لِيَذْكُرُوا اسْمَهُ عِنْدَ افْتِتَاحِ الْقِرَاءَةِ وَغَيْرِهَا، حَتَّى يَكُونَ الافْتِتَاحُ بِبَرَكَةِ اللهِ ـ جَلَّ وَعَزَّ. وذَهَبَ أبو عُبَيْدٍ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى إِلَى أَنَّ "اسْمَ" صِلَةٌ زَائِدَةٌ وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ لَبِيدٍ:
إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلامِ عَلَيْكُمَا...وَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كَامِلاً فقد اعتذَرْ
فَذَكَرَ "اسْمَ" زِيَادَةً، وَإِنَّمَا أَرَادَ: ثُمَّ السَّلامُ عَلَيْكُمَا. وَقَدِ اسْتَدَلَّ العُلَمَاءُ بِقَوْلِ لَبِيَدٍ هَذَا عَلَى أَنَّ الاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى.
واخْتُلِفَ فِي مَعْنَى زِيَادَةِ "اسْمِ" فَقَالَ قُطْرُبٌ: زِيدَتْ لإِجْلالِ ذِكْرِهِ تَعَالَى وَتَعْظِيمِهِ. وَقَالَ الأَخْفَشُ: زِيدَتْ لِيَخْرُجَ بِذِكْرِهَا مِنْ حُكْمِ الْقَسَمِ إِلَى قَصْدِ التَّبَرُّكِ، لأَنَّ أَصْلَ الْكَلامِ: بِاللهِ. واخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي مَعْنَى دُخُولِ الْبَاءِ عَلَيْهِ، هَلْ دَخَلَتْ عَلَى مَعْنَى الأَمْرِ؟ وَالتَّقْدِيرُ: ابْدَأْ "بِسْمِ اللهِ" أَوْ عَلَى مَعْنَى الْخَبَرِ؟ وَالتَّقْدِيرُ: ابتدأتُ "بسم الله"، قولان: الأوَّلُ للفَرّاءِ، والثاني للزَجَّاجِ. ف "بِسْمِ اللهِ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى التَّأْوِيلَيْنِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى ابْتِدَائِي "بِسْمِ اللهِ"، فَ "بِسْمِ اللهِ" فِي مَوْضِعِ رَفْعِ خَبَرِ الابْتِدَاءِ. وَقِيلَ: الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَيِ ابْتِدَائِي مُسْتَقِرٌّ أَوْ ثَابِتٌ "بِسْمِ اللهِ"، فَإِذَا أَظْهَرْتَهُ كَانَ "بِسْمِ اللهِ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِثَابِتٍ أَوْ مُسْتَقِرٍّ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ: زَيْدٌ فِي الدَّارِ. وَفِي التَّنْزِيلِ: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} فَ "عِنْدَهُ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، رُوِيَ هَذَا عَنْ نُحَاةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ. وَقِيلَ التَّقْدِيرُ ابْتِدَائِي بِبِسْمِ اللهِ مَوْجُودٌ أَوْ ثَابِتٌ، فَ "بِاسْمِ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ ابْتِدَائِي.
و"بِسْمِ اللهِ"، تُكْتَبُ بِغَيْرِ أَلِفٍ اسْتِغْنَاءً عَنْهَا بِبَاءِ الإِلْصَاقِ فِي اللَّفْظِ وَالْخَطِّ لِكَثْرَةِ الاسْتِعْمَالِ، بخلاف قوله: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ" فإنها لا تحذف لقلَّةِ الاسْتِعمالِ. واختلفوا فِي حَذْفِهَا مَعَ الرَّحْمَنِ وَالْقَاهِرِ، فَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَسَعِيدٌ الأَخْفَشُ: تُحْذَفُ الأَلِفُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ: لا تُحْذَفُ إِلاَّ مَعَ "بِسْمِ اللهِ" فَقَطْ، لأَنَّ الاسْتِعْمَالَ إِنَّمَا كَثُرَ فِيهِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَخْصِيصِ بَاءِ الْجَرِّ بِالْكَسْرِ عَلَى ثَلاثَةِ مَعَانٍ، فَقِيلَ: لِيُنَاسِبَ لَفْظُهَا عَمَلَهَا. وَقِيلَ لَمَّا كَانَتِ الْبَاءُ لا تَدْخُلُ إِلاَّ عَلَى الأَسْمَاءِ خُصَّتْ بِالْخَفْضِ. الَّذِي لا يَكُونُ إِلاَّ فِي الأَسْمَاءِ. الثَّالِثُ: لِيُفَرَّقَ بينَها وَبَيْنَ مَا قَدْ يَكُونُ مِنَ الْحُرُوفِ اسْمًا، نَحْوَ الْكَافِ فِي قَوْلِ امْرِئِ القيس:
وَرُحْنَا بِـ كَابْنِ الْمَاءِ يُجْنَبُ وَسْطَنَا....تَصَوَّبُ فِيهِ العَيْنُ طَوْراً وَتَرْتَقِي
أَيْ بِمِثْلِ ابْنِ الْمَاءِ أو ما كان مثله. فالباءُ فيها زائدةٌ لأنَّها أَتَتْ للخَفْضِ، وهي تُسَمَّى باءَ التَضْمينِ أو باءَ الإلْصاقِ كقولِكَ: كَتَبْتُ بالقَلَمِ، فالكِتابةُ لاصِقَةٌ بالقَلَمِ. وهي مَكسورةٌ أبداً، وخافضةٌ لِما بَعدَها فلذلك كَسَرْتَ ميمَ "اسمِ" وفي إعرابها نقول، الباءُ: حرفُ جرٍّ زائد. وكلمةُ "بِسْمِ": جارٌّ ومجرورٌ، وجعل الشيخُ الأكبرُ ـ قُدِّسَ سِرُّهُ ـ هذا الجارَّ خبرَ مبتدأٍ مُضْمَرٍ هو ابتداءُ العالَمِ وظُهورُهُ، لأنَّ سببَ وجودِهِ الأسماءُ الإلهيَّةُ، وهي المُسَلَّطَةُ عليه، كجَعْلِهِ متعَلِّقاً بما بعدَه، إذْ لا يُحْمَدُ اللهُ تعالى إلاَّ بأسمائه مِن بابِ الإشارةِ، فلا يُنظَرُ فيه إلى الظاهِرِ، ولا يُتَقَيَّدُ بالقواعدِ، ولا أَرى الاعتِراضَ عليه مِن الإنصاف. وقد ذهب الكثيرُ إلى أنَّ تقديرَ المُتعلِّقِ هنا مؤخَّراً أَحْرى لأنَّ اسْمَ اللهِ تعالى مُقَدَّمٌ على الفعلِ ذاتاً، فلْيُقَدّمْ على الفعلِ ذِكراً. وتَحنيكُ طِفْلِ الذِّهْنِ بِحلاوَةِ هذا الاسْم يُعِينُ على فِطامِهِ عن رَضْعِ ضَرْعِ السِوى بدون وضعِ مَرارةِ الحُدوثِ، على أنَّ بَرَكةَ التَبَرُّكِ طافحةٌ بالأهميَّةِ، وإنْ قُلْنا بأنَّ في التقديم قطعَ عِرْقِ الشِرْكَةِ رَدًّا على مَنْ يَدَّعيها ناسَبَ مَقامَ الرِّسالةِ وظَهَرَ سِرُّ تقديمِ الفعلِ في أوَّلِ آيةٍ نَزَلَتْ إذِ المَقامُ إذْ ذَّاك مَقامُ نبوَّةٍ ولا رَدَّ ولا تبليغَ فيها، ولكلِّ مَقامٍ مقالٌ، والبلاغةُ مُطابَقةُ الكلامِ لمُقتضى الحال، وقد اعتركت الأفهامُ هنا في توجيه القَصْرِ لظنِّه من ذِكْرِ الاختصاصِ حتَّى ادَّعاهُ بعضُهم بأنواعِهِ الثلاثةِ وأَفْرَدَ بَعْضُهم بَعْضَه مُقتصِرٌ على قَصْرِ الإفرادِ، وقائلٌ به وبالقلب، وفي القلبِ مِنْ كلِّ شيءٍ وعندي هنا يُقدَّر مقدَّماً، وبه قال الأكثرون وإنَّ تقديرَه مؤخَّراً مؤخَّرٌ عن ساحةِ التحقيقِ لأنَّه إمَّا أنْ يُقدَّرَ بعد الباء أو بعد اسمِ أو بعد اسمِ اللهِ، أو بعدَ البَعْدِ، أمَّا تقديرُه بعد الباءِ فلا يقولُه مَنْ عَرَفَ الباء.
وأَمَّا بعدَ الاسْمِ فَلاسْتِلْزامِه الفصلَ ولو تَعَقُّلاً، حيثُ أَوْجَبوا الحَذْفَ هنا بيْن المُتضايفيْنِ، وأَمَّا بعدَ اسْمِ اللهِ فَلاسْتِلْزامِهِ الفصلَ كذلك بين الصِفَةِ والموصوفِ، وأمَّا بيْن الصِفَتَيْنِ فيَتَّسِعُ الخَرْقُ، وأمَّا بعد التمامِ فيَظهرُ نقصٌ دَقيقٌ لأَنَّ في الجُملَةِ تعليقَ الحُكْمِ بما يُشعِرُ بالعِلِّيَةِ، فكان "الرحمنُ الرحيمُ" علَّةً للقراءةِ المُقيَّدةِ باسمِ اللهِ، فإذا تأخَّرَ العاملُ المُقيِّدُ المَعْلولُ وتَقَدَّمتْ علَّتُه أَشْعَرَ بالانحصارِ، ولا يَظهَرُ وجهُه وإذا قدّرنا العاملَ مقدَّماً ـ كما هو الأصل ـ أمِنّا مِن المَحذورِ ويَحصل اختصاصٌ أيضاً، إذ كأنّه قِيلَ مثلاً: اقرأْ مُستعيناً أو متبرِّكاً "بسم الله الرحمن الرحيم"، لأنّه الرحمنُ الرحيمُ. وانتفاءُ العِلَّةِ يَستلزِمُ انتفاءَ المعلولِ في المَقامِ الخِطابيِّ إذا لم تظهرْ علَّةٌ أُخرى فيُفيدُ الاختصاصُ لا سيّما عند القائلِ بمفهومِ الصفةِ، فيُشعِرُ بأنّ مَنْ لم يَتَّصفْ بذلك خارجٌ عن الدائرة.
والاقتصارُ هنا ليس كالاقتصارِ هناك والتخلُّصُ بتقديرِ التركيبِ: مستعيناً باسمِ الله لأنّه الرحمنُ الرحيمُ اقرأْ، فيه ما لا يَخفى على الطبعِ السليمِ.
وإنَّ في تقديمِ الحادثِ تعقُّلاً، وحذفِه ذِكْراً، وعدمِ وُجودِ شيءٍ في الظاهرِ مستقلاًّ سوى الاسمِ القديمِ، رمزٌ خفِيٌّ إلى تقديمِ الأعيانِ الثابتةِ في العِلْمِ وإنْ لم يكن على وجودِ اللهِ تعالى، إذْ له جَلَّ شأنُه التقدُّمُ المُطْلَقُ، وعدمُ ظهورِ شيءٍ سواه، وكلُّ شيءٍ هالكٌ إلاَّ وجهَه. والتبرُّكُ كالوُجوبِ يَقتضي التقدُّمَ بالذِكرِ مَكْسوراً لا مَضمُومًا. وها هو كما ترى. ومن الأكابر مَن قال: ما رأيتُ شيئاً إلاَّ ورأيتُ اللهَ تعالى فيه، ولا حُلولَ، وقد عُدَّ أكملَ من الأوّلِ ـ أي ما رأيت شيئًا إلاَّ ورأيتُ اللهَ قبلَه ـ والمراتبُ أَرْبعٌ، وتحنيكُ الرحمةِ يُغني عَنْ كلِّ دَرٍّ ويَفْطِمُ طفلَ الذِهْنِ عنْ سُدَى جَواري الفِكَرِ، وكأنَّ مَنْ قَدَّرَ العاملَ مُؤخَّراً رَأى قولَه تعالى: {بسمِ الله مجراها} سورة هود، الآية: 41. و قولَه ـ عليه الصلاةُ والسلامُ: ((.. باسمِكَ ربّي وضعتُ جَنبي وبك أرفعه ..)). متّفقٌ عليه عن أبي هريرة ـ رضي اللهُ عنه، وأَمثالَهما. فجَرى مُجْراها. والفرقُ ظاهرٌ للناظِرِ، وهذا من نسائِمِ الأسحارِ فتيقظْ لهُ ونَمْ عن غيرِه.
والظَرْفُ مُسْتَقِرٌّ عندَ بعضٍ ولَغْوٌ عندَ آخرين، وقد اختُلِفَ في تفسيرِهما، فقيلَ اللغْوُ ما يكون عاملُهُ مَذْكوراً، والمُسْتَقِرُّ ما يَكونُ عاملُه محذوفاً مُطْلَقاً. وقيلَ المستقِرُّ ما يكون عاملُه عامًّا كالحُصولِ والاستقرارِ، وهو مُقَدَّرٌ واللغوُ بخلافِه. وقيل اللغوُ ما يكونُ عاملُه خارجاً عن الظَرْفِ غيرَ مفهومٍ منه سواءً ذُكِرَ أوْ لم يُذكَر، والمُستقرُّ ما فُهِم منه معنى عاملِه المُقدَّر الذي هو مِنَ الأفعالِ العامَّةِ، وكُلُّ ذلك اصطلاحٌ. وحيث لا مُشَاحةَ ـ مُضايَقَةً أو مُنازَعَةً ـ فيه اختارَ الأوَّلَ فيكونُ الظَرْفُ هنا مستقرًّا كيفما قُدِّرَ العاملُ، وإنَّما كُسِرت الباءُ، وحَقُّ الحروفِ المُفردةِ أن تُفتَحَ لأنَّها مَبْنِيَّةٌ والأصلُ في البِناءِ ـ لِثِقَلِهِ وكونِه مقابلاً للإعرابِ الوُجوديِّ ـ السكونُ لخِفَّتِهِ وكونِه عَدَميًّا، إلاَّ أنَّها ـ مِنْ حيثُ كونِها كَلِماتٍ برأسِها ـ مَظَنّةٌ للابتداءِ ـ وهو بالساكن ـ متعذِّرٌ أو مُتَعَسِرٌ كان حقَّها الفتحُ إذ هو أخو السكونِ في الخِفَّةِ المَطلوبةِ في كثيرِ الدوران على الألسنةِ لامتِيازها من بين الحروف بلزوم الحرفيَّة والجَرِّ وكلٌّ منهما يُناسب الكسرَ، أمَّا الحَرْفيَّةُ فلأنَّها تقتضي عدمَ الحركةِ، والكَسْرُ لِقلَّتِه ـ إذ لا يوجدُ في الفعلِ ولا في غيرِ المُنْصَرِفِ ولا في الحروف إلاَّ نادِراً ـ يُناسِبُ العدَمَ.
وأمّا الجَرُّ فلِمُوافَقةِ حركةِ الباءِ أَثرُها، ولا نَقْضَ بواوِ العطفِ اللازمةِ للحرفيَّةِ، ولا بِكافِ التَشبيهِ اللازمةِ للجرِّ لأنَّ المَجموعَ سببُ الامتيازِ، ولم يُوجدْ في كُلٍّ لكنْ يَبقى النَّقْضُ واوَ القَسَمِ وتاءَه ويُجابُ بأنَّ عملَها بالنيابةِ عن الباءِ التي هي الأصلُ في حروفِه، فكأنَّ الجرَّ ليس أَثَراً لهما، وهذه عِلَلٌ نَحْوِيَّةٌ مُسْتَخْرَجَةٌ بعد الوقوعِ لإبداءِ مناسبَةٍ فلا تَتَحَمَّلُ مناقشةً لضَعفِها كما قيل:
عهد الذي أهوى وميثاقه ................... أضعفُ مِن حُجَّة نَحْوِي
فلا نُسْهِرُ جَفْنَ الفِكْرِ فيما لها وعليها.