أعيد نشر (بسم الله الرحمن الرحيم) تلبية لرغبة بعض الإخوة الكرام، لكنني سأنشرها على مراحل لتسهل مطالعتها
فيض العليم .... بسم الله الرحمن الرحيم
(2)
...
الحُجَّةُ الرابعةَ عَشْرَةَ: إنَّه لا شكَّ في أنَّها مِنَ القُرآنِ في سُورَةِ النَّمْلِ ثمَّ إنَّا نَراهُ مُكرَّراً بِخَطِّ القُرآنِ فوَجَبَ أنْ يكونَ مِن القرآن، كما أنَّا لمَّا رأيْنا قولَه تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ} سورة المُرْسَلات، الآية: 15. و{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} سورة الرحمن، الآية: 13. مكرَّراً كذلك قُلْنا: إنَّ الكُلَّ منه.
الحُجَّةُ الخامسةَ عَشْرَةَ: رُويَ أنَّه ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ كان يكتُبُ: "باسْمِكَ اللَّهُمَّ" الحديث وهو يَدُلُّ على أنَّ أَجزاءَ هذه الكلمةِ كلَّها من القرآن، مجموعُها منه، وهو مُثْبَتٌ فيه. فوَجَبَ الجَزْمُ بأنّه من القرآن إذْ لو جاز إخراجُه مع هذه المُوجباتِ والشُهْرةِ لَكان جوازُ إخراجِ سائرِ الآياتِ أَوْلى، وذلك يُوجِبُ الطعنَ في القرآن العظيم.
بينما لم يَعُدَّها الإمامُ مالكٌ كذلك، لأنَّ القرآنَ لا يَثبُتُ بأخبارِ الآحادِ وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ التَّوَاتُرُ الْقَطْعِيُّ الَّذِي لَا يُخْتَلَفُ فيه. ويكفيك أنَّها لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ اخْتِلافُ النَّاسِ فِيهَا، وَالْقُرْآنُ لا يُخْتَلَفُ فِيهِ. وَالأَخْبَارُ الصِّحَاحُ الَّتِي لا مَطْعَنَ فِيهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنَ الْفَاتِحَةِ وَلا غَيْرِهَا إِلاَّ فِي النَّمْلِ وَحْدَهَا. رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: ((قَالَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي ما سألَ فإذا قال: "الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعالَمِينَ". قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمَدَني عبدي. وإذا قال العبدُ: "الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ". قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عبدي. وإذا قال العبد: "مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ". قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَقَالَ مرة فوّض إِلَي عَبْدِي. فَإِذَا قَالَ: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ". قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. فَإِذَا قَالَ: "اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ)). فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: "قَسَمْتُ الصَّلَاةَ" يُرِيدُ الْفَاتِحَةَ، وَسَمَّاهَا صَلاةً لأَنَّ الصَّلاةَ لا تَصِحُّ إِلاَّ بِهَا، فَجَعَلَ الثَّلاثَ الآيَاتِ الأُوَلَ لِنَفْسِهِ، وَاخْتَصَّ بِهَا تَبَارَكَ اسْمُهُ، وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْمُسْلِمُونَ فِيهَا، ثُمَّ الآيَةَ الرَّابِعَةَ جَعَلَهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِهِ، لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ تَذَلُّلَ الْعَبْدِ وَطَلَبَ الاسْتِعَانَةِ مِنْهُ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَ اللهِ تَعَالَى، ثُمَّ ثَلاثَ آيات تَتِمَّةَ سَبْعِ آيات. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا ثَلاثٌ قَوْلُهُ: "هَؤُلاءِ لِعَبْدِي" أَخْرَجَهُ مَالِكٌ، وَلَمْ يَقُلْ: هَاتَانِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ "أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ" آيَةٌ. قَالَ مَالِكٌ: "أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ" آيَةٌ، ثُمَّ الآيَةُ السَّابِعَةُ إِلَى آخِرِهَا. فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ الَّتِي قَسَّمَهَا اللهُ تَعَالَى وَبِقَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلامُ ـ لِأُبَيٍّ: ((كَيْفَ تَقْرَأُ إِذَا افْتَتَحْتَ الصَّلاةَ؟)) قَالَ: فَقَرَأْتُ "الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعالَمِينَ" حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى آخِرِهَا. فدَلَّ على أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْهَا، وَكَذَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الشَّامِ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ، وَأَكْثَرُ الْقُرَّاءِ عَدُّوا "أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ" آيَةً، وَكَذَا رَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: الآيَةُ السَّادِسَةُ "أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ". وَأَمَّا أَهْلُ الْكُوفَةِ مِنَ الْقُرَّاءِ وَالْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُمْ عَدُّوا فِيهَا "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" وَلَمْ يَعْدُّوا "أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ". فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّهَا ثَبَتَتْ فِي الْمُصْحَفِ وَهِيَ مَكْتُوبَةٌ بِخَطِّهِ وَنُقِلَتْ، كَمَا نُقِلَتْ فِي النَّمْلِ، وَذَلِكَ مُتَوَاتِرٌ عَنْهُمْ قلنا: مَا ذَكَرْتُمُوهُ صَحِيحٌ، وَلَكِنْ لِكَوْنِهَا قُرْآنًا، أَوْ لِكَوْنِهَا فَاصِلَةً بَيْنَ السُّوَرِ. كَمَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ: كُنَّا لَا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ السُّورَةِ حَتَّى تَنْزِلَ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
أَوْ تَبَرُّكًا بِهَا. كما قد اتفقت الأمَّةُ على كتابتها فِي أَوَائِلِ الْكُتُبِ وَالرَّسَائِلِ؟ كُلُّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ. وَقَدْ قَالَ الْجُرَيْرِيُّ: سُئِلَ الْحَسَنُ عَنْ "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" قَالَ: فِي صُدُورِ الرَّسَائِلِ. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: لَمْ تَنْزِلْ "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" في شيءٍ مِنَ الْقُرْآنِ إِلاَّ فِي (طس): {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}. وَالْفَيْصَلُ أَنَّ الْقُرْآنَ لا يُثْبَتُ بِالنَّظَرِ وَالاسْتِدْلَالِ، وَإِنَّمَا يُثْبَتُ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ الْقَطْعِيِّ. ثُمَّ قَدِ اضْطَرَبَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهَا كما سَبَقَ أنْ بَيَّنا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْ كُلِّ سورةٍ. فإنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى جَمَاعَةٌ قُرْآنِيَّتَهَا، وَقَدْ تَوَلَّى الدَّارَقُطْنِيُّ جَمْعَ ذَلِكَ فِي جُزْءٍ صَحَّحَهُ. أُجيبَ: لَسْنَا نُنْكِرُ الرِّوَايَةَ بِذَلِكَ وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهَا، وَلَنَا أَخْبَارٌ ثَابِتَةٌ فِي مُقَابَلَتِهَا، رَوَاهَا الأَئِمَّةُ الثِّقَاتُ وَالْفُقَهَاءُ الأَثْبَاتُ. من ذلك ما رَوَتْ أمُّ المؤمنين عَائِشَةُ ـ رضي اللهُ عنها ـ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَستفتِحُ الصلاة بالتكبير، والقراءةِ بالحمد للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الْحَدِيثَ. وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فكانوا يستفتحون بـ {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}، لا يَذْكُرُونَ "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" لا في أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلا فِي آخِرِهَا. وَكذَلِكَ فإنَّ مَسْجِدَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِالْمَدِينَةِ انْقَضَتْ عَلَيْهِ الْعُصُورُ، وَمَرَّتْ عَلَيْهِ الأَزْمِنَةُ وَالدُّهُورُ، مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى زَمَانِ مَالِكٍ، وَلَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ فِيهِ قَطُّ "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" وذلك اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ. بَيْدَ أَنَّهم اسْتَحَبُّوا قِرَاءَتَهَا فِي النَّفْلِ، وَعَلَيْهِ تُحْمَلُ الآثارُ الواردةُ في قراءتِها أوَّلاً عَلَى السَّعَةِ فِي ذَلِكَ. قَالَ مَالِكٌ: وَلا بَأْسَ أَنْ يَقْرَأَ بِهَا فِي النَّافِلَةِ، وَمَنْ يَعْرِضُ القرآنَ عَرْضًا.
واتَّفقَ العُلَماءُ على أنَّها بعضُ آيةٍ من سورَةِ النملِ، وهي عند عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُبَارَكِ آيةٌ مُستقلَّةٌ في أوَّلِ كلِّ سورةٍ، ما عَدا سورةِ التوبة (براءة) ذلك لأنَّ بدايتَها تَبرُّؤُ اللهِ ـ تباركت أسماؤه ـ من المشركين والمنافقين وتقريعٌ لهم ووعيدٌ، وهو أمرٌ فيه من اسْمِهِ الجَبَّار واسمِه المُنتقِمِ واسْمِه الشديدِ، وليس فيه مِنْ اسْمِه الرحمنِ الرحيم. وحُجَّةُ ابنِ المُبارَكِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا، فَقُلْنَا: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((نَزَلَتْ عَلِيَّ آنِفًا سُورَةٌ فَقَرَأَ: {بسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ}. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَجُمْلَةُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ: أَنَّهَا لَيْسَتْ عِنْدَهُمْ آيَةٌ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَلا غَيْرِهَا، وَلا يَقْرَأُ بِهَا الْمُصَلِّي فِي الْمَكْتُوبَةِ وَلا فِي غَيْرِهَا سِرًّا وَلا جَهْرًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْرَأَهَا فِي النَّوَافِلِ. هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهَا تُقْرَأُ أوَّلَ السُّوَرِ فِي النَّوَافِلِ، وَلا تُقْرَأُ أَوَّلَ أُمِّ الْقُرْآنِ.
وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ لابُدَ فِيهَا مَنْ "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" مِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ شِهَابٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَسْأَلَةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ لا قَطْعِيَّةٌ.