أعيد نشر (بسم الله الرحمن الرحيم) تلبية لرغبة بعض الإخوة الكرام، لكنني سأنشرها على مراحل لتسهل مطالعتها
فيض العليم .... بسم الله الرحمن الرحيم
(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
قال بعضُ العلماءِ: هو قَسَمٌ مِن ربِّنا ـ تَبارَك وتعالى ـ أَنزلَه أَوَّلَ كُلِّ سورةٍ، ليُقْسِمَ لِعبادِه بأنَّ هذا الذي وضعتُ لكم في هذه السورةِ حَقٌّ، وإنِّي أَفِي لَكمْ بِجميعِ ما ضَمِنْتُ في هذه السُورةِ مِن وعْدي ولُطفي وبِرِّي. وقال آخرون: إنَّها تَضَمَّنَتْ جميعَ الشَّرْعِ، لأنَّها تَدُلُّ على الذّاتِ العَلِيَّةِ وعلى الصِّفاتِ السَنيَّةِ.
قال الشيخُ محمد متولي الشعراوي ـ رحمه الله تعالى وأكرم مثواه: إذا اعتدتَ على قولِ: (بسم الله الرحمن الرحيم) عند شُروعِكَ بكلِّ عَمَلٍ تقوم به، فغداً أيضاً يوم القيامة، وعندما تُعطى صحيفةَ أعمالِك بيدِك فستقول قبلَ قراءتها: (بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ) جَرياً على ما اعتدت عليه في الدنيا، فإذا بذنوبِك قدِ امَّحتْ، فتقول: ماذا حدث؟ فيأتي النداءُ، يا عبدي: لقد دعوتَني بالرحمن الرحيم، فعاملتُكَ وِفْقَ هذهِ الرَحمة.
و (بسم الله الرحمن الرحيم) عند الشافعيِّ هي الآيةُ الأُولى من سورة الفاتحة. وَتَرَدَّدَ قَوْلُهُ فِي سَائِرِ السُّوَرِ، فَمَرَّةً قَالَ: هِيَ آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ، وَمَرَّةً قَالَ: لَيْسَتْ بِآيَةٍ إِلاَّ فِي الْفَاتِحَةِ وَحْدَهَا. وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الْحَنَفِيِّ بسَنَدِه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ: ((إِذَا قَرَأْتُمُ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فَاقْرَؤوا "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" إِنَّهَا أُمُّ الْقُرْآنِ وَأُمُّ الْكِتَابِ والسبعُ المَثاني، و "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" إحدى آياتِها)).
ونُجمِلُ أدِلَّةَ السادةِ الشافعيّةِ ـ رضيَ اللهُ عنهم ـ على أنّ "بسم الله الرحمن الرحيم" آيةٌ مِنْ سورةِ الفاتحة بالآتي:
ـ روى الشافعيُّ ـ رضيَ الله عنه ـ عن ابْنِ جُريْجٍ عنْ أَبي مُلَيْكَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ـ رضيَ اللهُ عنها ـ أنَّها قالت: (قرأ رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاتحةَ الكِتابِ فعدَّ "بسم الله الرحمن الرحيم" آيةً. و "الحمدُ للهِ رَبِّ العالمين" آيةَ. و "الرحمنِ الرحيم" آية. "مالك يَوْمِ الدين" آية. و "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ". و "اهدنا الصراط المستقيم" آية. و "صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ وَلاَ الضالين". آية. وهذا نص صريح.
ـ الحجة الثانية: روى سعيدٌ المقبريُّ عن أبيه عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه: أنّ رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ((فاتحةُ الكتابِ سبعُ آياتٍ أُولاهُنَّ بسم الله الرحمن الرحيم)).
ـ الحجَّةُ الثالثة: روى الثعلبيُّ بإسنادِهِ عن أَبي بُردةَ، عن أبيه، قال، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبرك بآية لم تنزل على أحد بعد سليمان بن داوودَ غيري؟)). فقلتُ بلى. قال: ((بأي شيءٍ تَستفتحُ القرآنَ إذا افتتحتَ الصلاةَ؟)). فقلتُ: "بسم الله الرحمن الرحيم" قال: ((هيَ هي)).
ـ الحُجَّةُ الرابعةُ: روى الثعلبيُّ أيضًا بإسنادِهِ عن جعفر بنِ محمَّدٍ،
عن أبيه، عن جابرٍ بنِ عبدِ الله، أَنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ قالَ لَه: ((كيف تقول إذا قمتَ إلى الصلاة؟)). قال أَقولُ: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، قال: ((قلْ: "بسم الله الرحمن الرحيم". وروى أيضًا بإسنادِهِ عنْ أُمِّ سَلَمَةَ ـ رضي اللهُ عنه: أنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ كان يقرأ: "بسم الله الرحمن الرحيم". الحمدُ للهِ رَبِّ العالمين ..". وروى أيضًا بإسناده عن عليٍّ ـ كرّمَ اللهُ وجهَه: "أنَّه كان إذا افتتح السورةَ في الصلاةِ يقرأ: "بسم الله الرحمن الرحيم" وكان يقول: (من تركَ قراءتها فقد نقص). وروى أيضًا بإسنادِه عن سعيدٍ بنِ جُبيْرٍ، عن ابنِ عباسٍ ـ رضي اللهُ عنهما ـ في قولِه تعالى: {وَلَقَدْ آتيناك سَبْعًا مِّنَ المثاني والقرآنَ العظيم}. سورة الحُجر، الآية: 78. قال: فاتحة الكتاب فقيل لابن عباس فأين السابعة فقال: "بِسْمِ اللهِ الرحمن الرحيم". وبإسنادِهِ عنْ أَبي هُريرةَ عنِ النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ قال: ((إذا قرأتم أُمَّ القرآن فلا تَدَعوا "بسم الله الرحمن الرحيم" فإنَّها إحدى آياتها)). وبإسنادِه أيضًا عن أبي هريرةَ ـ رضي اللهُ عنه ـ عن النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ قال: ((يقولُ اللهُ ـ عزَّ وجلَّ ـ قسمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال: "بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم". قال الله تعالى: مَجَّدني عبدي. وإذا قال: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين. قال الله: حَمَدني عَبدي. وإذا قال: الرحمن الرحيم قال: أثنى عليَّ عبدي. فإذا قال: مالِكِ يومِ الدين. قال الله تعالى: فوَّضَ إليَّ عبدي. وإذا قال: إيَّاك نعبُد وإيّاك نستعين. قال الله تعالى: هذا بيني وبين عبدي. وإذا قال: اهدِنا الصراطَ المستقيم. قال الله تعالى: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل)). وبإسنادِهِ أيضًا عن أبي هريرة قال: كنتُ مع النبيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسلّم ـ في المسجد والنَبيُّ يحدِّثُ أصحابَه، إذا دَخَلَ رجلٌ يُصلّي فافْتَتَحَ الصلاةَ وتَعَوَّذَ ثم قال: الحمد لله رب العالمين، فسَمِعَ النَبيُّ ـ صلى الله عليه وسلّم ـ ذلك فقال له: ((يا رجلُ قطعتَ على نفسِكَ الصلاةَ أما عَلِمْتَ أنَّ "بسم الله الرحمن الرحيم" من "الحمدُ"، فمَنْ ترَكَها فقد ترك آيةً منها، ومن ترك آيةً منها فقد قطع عليه صلاتَه فإنّه لا صلاةَ إلّا بها، فمن ترك آيةً منها فقد بَطلت صلاتُه)). وبإسنادِه عن طلحةَ بنِ عُبيدِ اللهِ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: ((مَن ترك "بسم الله الرحمن الرحيم" فقد ترك آية من كتاب الله)).
الحجة الخامسة: قراءةُ "بسم الله الرحمن الرحيم" واجبةٌ في أوّل الفاتحةِ وإذا كان كذلك وَجَبَ أنْ تكونَ آيةً منها. بيان الأول: {اقرأ باسم رَبّكَ الذي خلق}. سورة العلق، الآية: 1. ولا يجوز أن يُقالَ الباءُ صِلَةٌ لأنَّ الأصلَ أنْ تكونَ لكلِّ حرفٍ من كلامِ اللهِ تعالى فائدةٌ، وإذا كان الحرفُ مفيداً كان التقديرُ: اقرأْ مُفْتَتِحًا باسمِ ربِّك، وظاهرُ الأمرِ الوُجوبُ ولمْ يَثْبتْ في غيرِ القراءةِ للصلاةِ، فوَجَبَ إثباتُه في القراءة فيها صوناً للنصِّ عن التعطيل.
الحجة السادسة: التَسْمِيَةُ مكتوبةٌ بخطِّ القرآنِ وكلُّ ما ليس من القرآن فإنّه غيرُ مكتوبٍ بخطِّ القرآنِ، ألا ترى أنّهم منعوا كتابةَ أسامي السورِ في المُصحف ومنعوا من العلامات على الأعْشارِ والأَخْماسِ؟ والغرضُ من ذلك كلِّه أنْ يَمنَعوا أنْ يَختلِطَ بالقرآنِ ما ليس بقرآن، فلو لم تكن التَسْمِيَةُ من القرآن لما كتبوها بخطِّ القرآن.
الحجة السابعة: أَجْمَعَ المسلمون على أنَّ ما بين الدُّفتين كَلامُ اللهِ تعالى والبَسْمَلَةُ مَوجودةٌ بينَهما فوَجَبَ جعلُها منه.
الحجة الثامنة: أَطْبَقَ الأكثرون على أنَّ الفاتحةَ سَبْعُ آياتٍ إلاَّ أَنَّ الشافعيَّ قال: "بِسْمِ اللهِ الرحمن الرحيم" آيةٌ وأبو حنيفةَ قال: إنّها ليْست آيةً، لَكِن {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} آية، وسَنُبَيِّن أنَّ قولَه مَرْجُوحٌ ضعيفٌ. فحينئذٍ يَبقى أنَّ الآياتِ لا تكون سبعاً إلاَّ بِجعْلِ البَسْمَلَةِ آيةً تامَّةً منها.
الحُجَّةُ التاسعة: أنْ نقولَ قراءةُ التسميةِ قبلَ الفاتحةِ واجبةٌ فوَجَبَ كونُها آيةً منها، بيانُ الأوّلِ أنَّ أبا حنيفةَ ـ رضي الله عنه ـ يُسَلِّمُ أنَّ قراءتَها أفضلُ، وإذا كان كذلك فالظاهرُ أنَّه ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ قرأها، فوَجَبَ أنْ يَجِبَ علينا قراءتُها لقوله تعالى: {واتبعوه} سورة الأعراف، الآية: 158. وإذا ثَبَتَ الوُجوبُ ثَبَتَ أنَّها مِن السورةِ لأنَّه لا قائلَ بالفرقِ، وقولُه ـ عليه الصلاةُ والسلامُ: ((كلُّ أمرٍ ذي بالٍ لا يُبْدَأُ فيه بِسمِ اللهِ فهو أَبْتَرُ)). وأعظمُ الأعمالِ بعدَ الإيمانِ الصلاةُ فقراءةُ الفاتحةِ بدون قراءتِها تُوجِبُ كونَ الصلاةِ عملاً أَبْتَرَ ولفظُه يَدُلُّ على غايةِ النُقصانِ والخَلَلِ، بدليلِ أنَّه ذَكرَ ذَمًّا للكافرِ الشانئِ فوَجَبَ أنْ يُقالَ للصلاةِ الخاليةِ عنها في غاية النُقصانِ والخَلَلِ، وكُلُّ مَنْ أَقَرَّ
بذلك قال بالفَسادِ وهو يَدُلُّ على أنَّها من الفاتحة.
الحُجَّةُ العاشرةُ: ما رُويَ أنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلّمَ ـ قال لأُبَيٍّ بنِ كعبٍ: ((ما أعظمُ آيةٍ في القرآن؟)) قال: "بسم الله الرحمن الرحيم" فصدَّقَه النبيُّ في قولِهِ. ووجْهُ الاسْتِدلالِ أنَّ هذا يدُلُّ على أنَّ هذا المِقدارَ آيةٌ تامَّةٌ، ومعلومٌ أنَّها ليست بتامّةٍ في سورةِ النملِ، فلا بُدَّ أنْ تكونَ في غيرِها وليس إلَّا الفاتحة.
الحجَّةُ الحاديةَ عَشْرَةَ: عن أنسٍ أنَّ معاويةَ بنَ أبي سفيان ـ رضي اللهُ عنهما ـ قَدِمَ المَدينةَ فصلَّى بالنَّاسِ صَلاةً جَهْرِيَّةً فقرأ أمَّ القرآنِ ولم يقرأْ البَسْمَلَةَ، فلَمَّا قَضى صَلاتَه ناداه المُهاجرون والأنصارُ مِن كُلِّ ناحيةٍ أَنَسِيتَ؟ أيْنَ "بسم الله الرحمن الرحيم" حين استفتحتَ القرآن؟ فأَعادَ مُعاويةُ الصلاةَ وجَهَرَ بها.
الحجَّة الثانيةَ عَشْرةَ: أنَّ سائرَ الأنبياءِ كانوا عند الشُّروعِ في أعمالِ الخيرِ يَبْتَدِئون باسمِ اللهِ، فقد قال نوح ـ عليه السلام: {بِسْمِ الله مَجْرَاهَا}. سورة هود، الآية: 14. وقال سليمان ـ عليه السلام: "بِسْمِ اللهِ الرحمن الرحيم" {أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ} سورة النمل، الآية: 30 و 31. فوَجَبَ أنْ يَجِبَ على رسولِنا ذلك لِقولِه تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ اقتَدِهْ} سورة الأنعام، الآية: 90. وإذا ثَبَتَ ذلك في حقِّهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ ثَبَتَ أَيْضاً في حَقِّنا لِقولِهِ تعالى: {واتَّبعوهُ} سورة الأعراف، الآية: 158. وإذا ثَبَتَ في حَقِّنا ثَبَتَ أنَّها آيةٌ مِن سُورَةِ الفاتحة.
الحُجَّةُ الثالثةَ عَشْرَةَ: أنَّه تعالى قديمٌ وغَيْرُه مُحْدَثٌ فوَجَبَ بِحُكْمِ
المُناسَبَةِ العَقْلِيَّةِ أنْ يَكون ذِكرُه سابقاً على ذِكرِ غيرِه، والسَبْقُ في الذِكْرِ لا يَحْصُلُ إلَّا إذا كانت قراءةُ البَسْمَلَةِ سابقةً، وإذا ثَبَتَ أنَّ القولَ بوُجُوبِ هذا التقديمِ، فما رآه المؤمنون حَسَنًا فهو عند اللهِ حَسَنٌ وإذا ثَبَتَ وُجوبُ القراءةِ ثَبَتَ أنَّها آيةٌ مِن الفاتحةِ لأنَّه لا قائلَ بالفرق.