فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ
(91)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} الرَّجفةُ: الزَّلزَلَةُ الشديدةُ، العنيفةُ التي تهزُّ الإِنسانَ دونما إرادةٍ منه، وترجُّه رجًّا، كما أَرْجَفوا شُعيبًا وأصحابَه، وتوعَّدوهم بالجَلاء، وتهكَّموا بِنَبيِّ اللهِ شُعيب فجاءتهمُ الصَيْحةُ فأَسْكَتَتْهم، وفي سورة هود: {وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} الآية: 94. أيْ صيْحةُ جبريل ـ عليه السلام ـ ولعلَّها كانت من مَبادي الرَّجْفَةِ، فأَسْنَدَ إهْلاكَهم إلى السببِ القَريبِ تارةً وإلى البعيدِ أُخرى. وذلك أنَّ جبريلَ نَزَلَ فوقَفَ عليهم، فصاحَ صيحةً رَجَفت منها الجبالُ والأرضُ، واهْتَزَّتْ بِهِمُ بِفِعْلِ زَلْزَلَةٍ شَدِيدَةْ، فخرجت أرواحُهم من أبدانهم، فَأَصْبَحُوا هَالِكِينَ فِي دِيَارِهِمْ لاَ حَرَاكَ بِهِمْ، وَهُمْ مُكِبُّونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ.
أخرج ابنُ إسحق وابنُ عساكر عن عِكرمةَ والسُّدِّيِّ قالا: ما بعث الله نبياً مرتين إلا شعيباً. مرة إلى مدين فأخذهم الله بالصيحة، ومرة أخرى إلى أصحابِ الأَيْكَةِ فأَخَذَهُمُ اللهُ بعذابِ يَومِ الظُلَّةِ، فإنَّ القِصَّةَ غيرُ واحدةٍ.
قال قَتادة: بعثَ اللهُ شعيباً إلى أصحابِ الأيكة وأصحابِ مَدْيَنَ، فأمّا أصحابُ الأَيكةِ فأُهْلِكوا بالظُلَّةِ، وأمّا أصْحابُ مَدينَ فأَخَذَتهم الصيحةُ، صاحَ بهم جبريلُ – عليه السلامُ – صيحةً فهَلَكوا جميعاً. وقال ابنُ عباس ـ رضي اللهُ عنهما ـ وغيرُه: فتَحَ اللهُ عليهم باباً مِنْ جهنَّمَ، فأَرْسلَ عليهم حرّاً شديداً، فأخذَ بأنفاسِهم، ولم يَنْفَعُهم ظِلٌّ ولا ماءٌ، فكانوا يَدْخُلون الأَسرابَ لِيَبرُدُوا فيها، فيَجدوها أَشَدَّ حَرّاً مِنَ الظاهرِ، فخرجوا هَرباً إلى البريَّةِ، فبَعَث اللهُ سحابةً فيها رِيح طَيِّبَةٌ فأظَلَّتْهم، فنادى بعضُهم بعضاً حتى اجْتَمعوا تحتَ السَّحابةِ رِجالاً ونساءً وصِبياناً، فأَلهَبَها اللهُ عليهم ناراً، ورَجَفَتِ الأرض بهم فاحترقوا كما يحترقُ الجرادُ المَقْلِيُّ وصاروا رَماداً.
ورُويَ أَنَّ اللهَ حَبَسَ عَنْهُمُ الرّيحَ سبعةَ أَيّامٍ ثمَّ سَلَّطَ عليهِمُ الحرَّ، ثمَّ رَفع لهم جبلاً مِنْ بعيدٍ، فأتاهُ رَجُلٌ، فإذا تحتَه أنهارٌ وعُيونٌ، فاجْتَمَعوا تحتَه كُلُّهم، فوَقَعَ ذلك الجبلُ عليهم، فذلك قولُه: {عذاب يومِ الظُلَّةِ}.
قال أبو عبد الله البَجِلِيُّ: كان أبْجَدْ وهَوَّز وحُطِّي وكَلَمُنْ وسَعْفَصُ وقَرَشَتْ ملوكَ مَدْيَنَ، وكان ملكُهُمْ في زمنِ شُعيب، فلما هلك كَلَمُنْ، قالتِ ابْنَتُه تَبْكيه: (من الرمل)
كَلَمُنْ هَدَّمَ رُكْني ………………………….. هُلكُهُ وَسْطَ المَحِلَّهْ
سَيِّدُ القَوْمِ أتَاهُ الـ ……………………….. ـحَتْفُ نَارٌ تَحْتَ ظُلَّهْ
جُعِلَتْ نَاراً عَلَيْهِم …………………………. دَارُهُمْ كالمُضْمَحِلَّهْ
ويُشْكِلُ قولُ البجليِّ هذا، لأنهم قدْ هَلَكوا جميعاً، رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، اللَّهُمَّ إلاَّ أَنْ يُقالَ: إنها كانت مُؤْمِنَةً فَنَجَتْ.
قولُهُ: {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جاثمين} في دارهم: أي في مدينتِهم، أو في مساكنهم، و “جاثمين” أي هالكين مَيّتين، خامدين ساكنين بلا حياةٍ، لازمين لأَماكِنِهم لا بَراحَ لهم منها. باركين على الركبِ، في هيئة الذُلِّ. وهذا يَدُلُّ على أنَّ كلاًّ منهم ساعةَ أُخِذَ تذكَّرَ كلَّ ما فَعَلَهُ مِن كُفرٍ وعِصيانٍ، وأَرادَ اسْتِدْراكَ ما فاتَ مِنْ مخالفاتٍ للرسولِ، فأخذ يوبِّخ نفسَه نادماً على ما قدَّم، بعد أن كانت تأخذُه الأبهةُ والاستكبارُ، لأنَّ منْ ظَلَمَ وطَغى وهَضَمَ الحقوقَ، ينادي ـ عندما يأتيه الموتُ ـ على كلِّ مَنْ بَغى عليه، أو ظلمه، لِيُعطيه حقَّهُ، لكنَّه لا يجدُه. تلك اللحظةُ التي يؤمنُ فيها الفاجرُ، ولكنْ لا ينفعُه إيمانُه.