قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ.
(135)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شأنُه: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ} الْمَكَانَةُ الطَّرِيقَةُ في الحياةِ والخُطَّةُ في العيشِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: "مَكانَتِكُمْ" تَمَكُّنُكُمْ فِي الدُّنْيَا. وقال ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ ـ رضي اللهُ عنهم: عَلَى نَاحِيَتِكُمْ. وقال الْقُتَبِيُّ: عَلَى مَوْضِعِكُمْ. أيْ قُلْ يا مُحَمَّدُ لِهؤلاءِ الكُفَّارِ اعملوا على غايَةِ تَمَكُّنِكم واسْتِطاعَتِكم، وهو أَمْرٌ منه ـ تعالى ـ لِنبيِّه ورسولِه ـ صلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ ـ أَنْ يُواجِهَ الكُفَّارَ بتَشديدِ التَهْديدِ وتَكْريرِ الوَعيدِ، وأن يُظْهِرَ لَهم ما هوَ عَلَيْه مِنْ التَمسُّك بالدينِ، والوُثوقِ بأَمْرِهِ وما يَدْعو إليه من توحيدِ الخَلاّقِ والتخلُّقِ بمَكارِمِ الأَخْلاقِ، وعدمِ مُبالاتِهِ بِهم أَصْلاً، وذلك إثْر ما بَيَّنَ لهم مِنْ فَسادِ حالِهم وسوءِ مآلِهم، أيْ فاثْبُتُوا عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ فَأَنَا عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ ثابتٌ. فَإِنْ قِيلَ: وأَمْرُهم هنا ـ وَهُمْ كُفَّارٌ ـ بِالثَّبَاتِ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ. هو مِنْ باب التَهْدِيدٌ والوعيدِ، كَمَا قَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ في سورة التوبة: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً} الآية: 82. وَدَلَّ عَلَيْهِ قولُهُ بعد ذلك مباشرةً: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ} أَيِ فسوف تعلمون مَنْ تكونُ لَهُ الْعَاقِبَةُ الْمَحْمُودَةُ الَّتِي يُحْمَدُ صَاحِبُهَا عَلَيْهَا، أَيْ مَنْ لَهُ النَّصْرُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَمَنْ لَهُ وِرَاثَةُ الْأَرْضِ، وَمَنْ لَهُ الدَّارُ الْآخِرَةُ، أَيِ الْجَنَّةُ.
قولُه: {إنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} أي إنَّ الشأنَ أو الواقِعَ أن الظالمينَ أنفسهم بإبعادها عن الطريق المستقيم، طريقِ الهداية والفَلاحِ في الدنيا والآخرة، والظالمين غيرَهم بالتَعدِّي عليهم والافتئاتِ والحيلولةِ بَيْنَهم وبيْنَ طَريقِ الحَقِّ والخيرِ، أوْ هَضْمِ حُقوقِهم، إنَّ أُولئك الظالمون لا يَظفرون بمَطلوبِهم وسيحول اللهُ بينَهم وبينَ ما يريدون. وإنَّما وُضِعَ الظُلْمُ مَوْضِعَ الكُفْرِ لأنَّهُ أَعَمُّ مِنْهُ وهوَ أَكْثَرُ فائدةً لأنَّه إذا لَمْ يُفْلِحِ الظالِمُ فكَيْفَ يفلحُ الكافِرُ المُتَّصِفُ بما هو أَعْظمُ الظُلْمِ.
قولُه تعالى: {على مَكَانَتِكُمْ} قَرَأَ عامَّةُ القُرّاءِ هُنا وفي جميعِ القَرآنِ بالإِفرادِ، وقرأ أبو بكرٍ عنْ عاصِم: "مكاناتكم" بالجَمْعِ في الجميعِ، فَمَنْ أَفْرَدَ فلإِرادةِ الجِنْسِ، ومَنْ جَمَعَ فَلِيُطابِقَ ما بعدَها فإنَّ المُخاطَبينَ جَماعةٌ وقد أَضيفتْ إليهم، وقد عُلِمَ أَنَّ لِكُلِّ واحدٍ مَكانَه. واخْتُلِفَ في مِيمِ "مَكان ومكانة" فقِيل: هي أَصلِيَّةٌ وهُما مِنْ مَكُنَ يَمْكُنُ، وقيلَ: هُما مِنَ الكونِ فالمِيمُ زائدةٌ، فيكونُ المَعنى على الأوَّلِ: اعْمَلوا على تَمَكُّنِكم مِنْ أَمْرِكم وأَقْصى اسْتِطاعَتِكم وإمْكانِكم، وعلى القولِ الثاني يكونُ المَعنى: اعْمَلوا على جِهَتِكم وحالِكمُ التي أَنْتُم عَليها.
وقولُه: {إِنِّي عامِلٌ} هناك محذوف، أيْ: إنّي عَلَى مَكَانَتِي، فَحُذِفَ الجارُّ والمجرورُ لِدَلالَةِ الحَالِ عليه.
وقولُه: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ} تعلمون: هُنا من "عَلِمَ" بمعنى العِرْفان فتَتعدَّى لِواحِدٍ، و"مَنْ" الظاهرُ أنَّها مَوْصولةً، فتَكون في محلِّ نَصْبٍ مَفعولاً بِه، أوْ هِيَ اسْتِفهامِيَّةٌ فتَكونُ في مَحَلِّ رَفْعٍ بالابْتِداءِ، وجُملةُ "تَكُونُ" واسْمُها وخبرُها في مَحَلِّ رَفْعٍ خَبَراً لـ "مَنْ"، وجملةُ "مَنْ" في مَحَلِّ نَصْبٍ: إمَّا لِسَدِّها مَسَدَّ مَفعولٍ واحدٍ إنْ كانت "علم" عِرْفانِيَّةً، وإمَّا لِسَدِّها مَسَدَّ اثْنَيْنِ إنْ كانتْ "عَلِمَ" يقينيَّةً.
وقرأَ الأخوان (حمزة والكسائيّ): {يَكُونَ} بالتَحْتِيَّةِ لأنَّ تأنيثَ العاقِبَةِ غَيْرُ حَقيقِيٍّ.