قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ. (47)
قولُهُ جَلَّ وعَلا: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً} تَبكيتٌ آخرُ وإلجاءٌ لهم إلى الاعْترافِ باختصاصِ العذاب بهم، قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ المُكَذِّبِينَ: أَخْبِرُونِي عَنْ حَالِكُمْ "إنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ"، العاجلُ الخاصُّ بِكمْ كما أَتى أَضْرابَكم مِنَ الأُمَمِ السابقةِ قبلَكم، والذِي قَضَتْ بِهِ سُنَّتُهُ فِي الأَوَّلِينَ أَنْ يُنْزِلَهُ بِالكُفَّارِ وَالمُكَذِّبِينَ، "بَغْتَةً" أي مُبَاغِتًا، وَمُفَاجِئًا لَكُمْ، فَأَخَذَكُمْ عَلَى غِرَّةٍ مِنْكُمْ، وَلَمْ تَسْبِقْهُ مُقَدِّمَاتٌ، وَلاَ أَمَارَاتٌ تُشْعِرُكُمْ بِقُرْبِ نُزُولِهِ بِكُمْ، دونَ شُعورٍ منكم بدُنوِّهِ، أَوْ أَتَاكُمْ وَأَنْتُمْ تُعَايِنُونَهُ وَتَنْظُرونَ إلَيْهِ، ولِتَضَمُّنِها بهذا الاعتبارِ ما في الخِفْيَةِ مِنْ عدَمِ الشُعورِ صَحَّ مُقابَلَتُها بقولِه سبحانَه: "أَوْ جَهْرَةً" وبَدَأَ بـ "بغتةً" لأَنَّها أَرْدَعُ مِنَ الجَهْرَةِ. وإنَّما لم يَقُلْ: خِفْيَةً لأنَّ الإخْفاءَ لا يُناسِبُ شأنَه تعالى. وقال الحَسَنُ إنَّ البَغْتَةَ أنْ يأتيَهم لَيْلاً والجَهْرَةَ أنْ يَأتيهم نهارًا.
قولُهُ: {هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} فَهَلْ يُهْلِكُ اللهُ إلاَّ القَوْمَ الظَّالِمِينَ الذِينَ أَصَرُّوا عَلَى الشِّرْكِ وَالجُحُودِ؟ أيْ إلاَّ أَنتم، ووَضَعَ الظاهرَ مَوْضِع ضَميرهم تسجيلاً عليهم بالظلم وإيذاناً بأن مناط إهلاكهم ظلمهم ووضعهم الكفر موضع الإيمان والإعراض موضع الإقبال وهذا كما قال الجماعة متعلق الاستخبار والاستفهام للتقرير أي قل تقريراً لهم باختصاص الهلاك بهم أخبروني إن أتاكم عذابه جل شأنه حسبما تستحقونه هل يهلك بذلك العذاب إلا أنتم أي هل يهلك غيركم ممن لا يستحقه ، وقيل : المراد بالقوم الظالمين الجنس وهم داخلون فيه دخولاً أولياً . واعترض بأنه يأباه تخصيص الإتيان بهم ، وقيل : الاستفهام بمعنى النفي لأن الاستثناء مفرغ والأصل فيه النفي ، ومتعلق الاستخبار حينئذ محذوف كأنه قيل : أخبروني إن أتاكم عذابه عز وجل بغتة أو جهرة ماذا يكون الحال . ثم قيل: بياناً لذلك ما يهلك إلا القوم الظالمون أي ما يهلك بذلك العذاب الخاص بكم ألا أنتم .
وَلَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُهُ تَعَالَى، فِي مِثْلِ هَذَا العَذَابِ، أَنْ يُنْجِيَ مِنْهُ رُسُلَهُ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ.
قولُه تعالى: {هَلْ يُهْلَكُ} استفهامٌ بمعنى النَفيِ لذلك دَخَلَتْ "إلاَّ" عليه، وهوَ اسْتِثناءٌ مُفرَّغٌ، والتَقديرُ: ما يُهْلَكُ إلاَّ القومُ الظالمون. وهذهِ الجُمْلَةُ الاسْتِفهاميَّةُ في مَوضِعِ المَفعولِ الثاني لـ "أرأيتكم" والأوَّلُ محذوفٌ. وقَرَأَ ابْنُ محيْصِنٍ: "هل يَهْلَكُ" مبنيًّا للفاعِلِ. وتَقَدَّمَ الكلامُ أيضًا على "بَغْتةً" اشْتِقاقًا وإعْرابًا.
وقُرِئَ {بَغَتَةً أَوْ جَهَرَةً} بفتحِ الغينِ والهاءِ على أنهما مَصدَرانِ كالغَلَبَةِ أيْ أَتيانا بَغْتَةً أوْ أَتيانا جَهْرةً. وفي "المحتسِبِ" لابْنِ جِنّي أَنَّ مَذهَبََ أَصحابِنا في كُلِّ حَرْفِ حَلْقٍ ساكِنٍ بعدَ فتْحٍ لا يُحَرَّكُ إلاَّ على أَنَّهُ لُغَةٌ فيهِ كالنَهْرِ والنَهَرِ والشَعْرِ والشَعَرِ والحَلْبِ والحَلَبِ والطَرْدِ والطَرَدِ. ومَذْهَبُ الكُوفِيّين أَنَّهُ يجوزُ تحريكُ الثاني لكونِهِ حَرْفاً حَلْقيًّا قِياسًا مُطَّرِدًا كالبَحْرِ والبَحْرِ، وما أَرى الحَقَّ إلاَّ مَعَهم. وكذا سمعتُ مِنْ عامَّةِ عَقيلٍ. وسمعتُ الشَجَرِيَّ يَقولُ: محَمومٌ بفتْحِ الحاءِ. وليسَ في كلامِ العَرَبِ مَفَعولٌ بفتحِ الفاءِ. وقالوا: اللَّحَمُ يُريدُ اللَّحْمَ. وسمعتُه يَقولُ تَغَدو بمعنى تَغْدوا. ولَيس في كلامِهم مَفَعَل بفتحِ الفاءِ وقالوا: سارَ نَحَوَهُ بفتحِ الحاءِ ولو كانتْ الحَرَكَةُ أَصْلِيَّةً ما صَحَّتْ اللاّمُ أَصْلاً انتهى.
وهي كما قال الشِهابُ فائدةٌ يَنبَغي حِفظُها. وقرِئَ "بَغوتَةً" بالواوِ الواصلةِ.