وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ
فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ
(30)
قولُه تبارك وتعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} تمثيلٌ لِحَبْسِهم للسؤالِ والتَوبيخِ، أوْ كناية عنْه، والخطابُ لِرسولِ اللهِ مُحَمَّدٍ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ أوْ لِكُلِّ مَنْ يَصلُحُ لهذا الخِطابِ: وَلَوْ تَرَى هؤُلاءِ المُكَذِّبِينَ، حِينَ تَقِفُهُمُ المَلائِكَةُ فِي مَوْقِفِ الحِسَابِ، بَيْنَ يَدَيِ اللهِ تَعَالَى، لَهَالَكَ أَمْرُهُمْ، وَلاَسْتَبْشَعْتَ مَنْظَرَهُمْ وَلَرَأَيْتَ مَا لاَ يُحِيطُ بِهِ وَصْفٌ فَيَسْأَلُهُمُ اللهُ تَعَالَى قَائِلًا: أَلَيْسَ هُوَ بِبَاطِلٍ كَمَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ؟ فَيَرُدُّونَ مُقْسِمِينَ بِأَنَّهُ حَقٌّ لاَ شَكَّ فِيهِ. فَيَقُولُ تَعَالَى لَهُمْ: مَا دَامَ الأَمْرُ كَمَا اعْتَرَفْتُمْ فَذُوقُوا العَذَابَ الأَلِيمَ، الذِي كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِأَنَّهُ سَيَكُونُ جَزَاءً لِلْكَافِرِينَ المُكَذِّبِينَ رُسُلَ رَبِّهِمْ.
واسْتَدَلَّ بعضُ الظاهِرِيَّةِ بهذه الآية الكريمةِ على أنَّ أَهلَ القِيامةِ يَقفون بالقُرْبِ مِنَ اللهِ تَعالى في مَوقِفِ الحِسابِ، ولا يَخفى ما فيه من معاني التجسيم والجُرميَّةِ والتَحَيُّزِ، وهي كلها من صفات المخلوقات، وهذا الاعتقادُ خلافُ ما عليه أهلُ السُنَّةِ والجَماعَةِ من اعتقاد التنزيه للذات العليَّةِ عن مماثلةِ المَخلوقاتِ ومشاكلتِها.
قولُه تعالى: {على رَبِّهِمْ} أيْ: على سؤالِ ربِّهم أوْ مُلْكِ ربِّهم أوْ جَزاءِ ربِّهم، أو قضائه، فهو مِنْ بابِ مِن بابِ المَجازِ، لأنَّهُ كِنايَةٌ عَنِ الحَبْسِ للتوبيخِ، كما يُوقَفُ العبدُ بيْن يَدَيْ سَيِّدِهِ لِيُحاسِبَه أو لِيُعاتِبَه أو ليعاقبَهُ، وقيل هو مِنْ بابِ الحَذْفِ. والمَجازُ أَرْجَحُ عندنَا مِنَ الحَذْفِ وقيلَ العَكْسُ، وقيلَ هُما سواءٌ.
قوله: {قَالَ أَلَيْسَ} جملةٌ اسْتِفْهاميَّةٌ، أي: جوابُ سؤالٍ مُقَدَّرٍ، أي ماذا قال لهم ربُّهم إذْ وُقِفوا عليه؟ فقيل: قال لهم: أَليْسَ هذا بالحقِّ؟. أو هي جملةٌ حاليَّةٌ، وصاحبُ الحالِ "ربُّهم" كأنَّه قيل: وُقِفوا عليْه قائلًا: أَليسَ هذا بالحقِّ؟. والمشارُ إليه قيل: هو ما كانوا يكذِّبون به مِنَ البَعْثِ. وقيل: هو العذابُ، يَدُلُّ عَليْه قولُه: "فَذُوقُواْ العذاب".
وقوله : {بِمَا كُنتُمْ} يجوز أن تكونَ "ما" موصولةً اسْمِيَّةً والتَقديرُ: تَكفرونَه، والأصلُ: تكفرون بِه، فاتَّصلَ الضميرُ بالفِعلِ بعدَ حَذْفِ الواسِطَةِ، وغير جائزٍ أنْ يُحْذَفَ وهو مَجْرورٌ بِحالِهِ، وإنْ كان مَجْرورًا بحرفٍ جُرَّ بمثلِه المَوصولُ لاخْتِلافِ المُتَعَلَّقِ، والأَوْلَى أنْ تُجْعَلَ "ما" مصدريَّةً ويَكونَ مُتَعَلَّقُ الكُفْرِ مَحذوفًا، والتقديرُ: بما كنتم تكفرونَ بالبعثِ أوْ بالعذابِ، أيْ بمُلاقاتِه أيْ بِكُفرِكم بِذلك.