وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ مَا شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ
(128)
قولُه ـ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} أيْ اذْكُرْ يا مُحَمَّدُ يومَ نَحْشُرُ جميعَ الخلقِ بما في ذلك هؤلاءِ المُعادلينَ باللهِ الأَصنامَ معَ أَوْليائهِم مِنَ الشياطينِ، يَعني المُشركين والشياطينَ جميعاً واليومُ المُرادُ هو يومُ القيامَةِ.
وقولهُ: {يا معشرَ الجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ} المَعشَرُ الجَماعةُ أَمرُهم واحدٌ، وقِيلَ الجماعةُ التامَّةُ مِنَ القومِ التي تَشتَمِلَ على أَصنْافِ الطوائفِ ومِنْهُ العَشَرَةُ لأنَّها تَمامُ العقد. والمَعشرُ الجَماعَةُ قال:
وأُبغِضُ مَنْ وَضَعْتُ إليَّ فيه ................... لِساني مَعْشرٌ عَنْهم أَذودُ
والجمعُ: مَعاشِرٌ، كقولِهِ ـ عليْه الصلاةُ والسلام: ((نحنُ مَعاشِرَ
الأنبياءِ لا نُوَرِّثُ)) وقالَ الأوديّ:
فينا معاشرُ لن يَبْنوا لقومِهمُ ............ وإن بَنى قومُهمْ ما أفسدوا عادوا
والمُرادُ هنا بِمَعْشَرِهم الشياطين، وذكروا أنَّ الجِنَّ يُقالُ للروحانيين المُسْتَتِرينَ عَنِ الحَواسِ كُلِّها، فيَدْخُلُ فيهمُ المَلائكةُ والشياطينُ، أو يقالُ للروحانيين مِمَّا عَدا المَلائكةِ. وقالَ آخَرون: إنَّ الرُوحانِيينَ ثَلاثَةٌ: أَخْيارٌ وهُمُ المَلائكةُ، وأَشْرارٌ وهمُ الشياطين، وأَوْساطٌ فيهمْ أَخْيارٌ وأَشْرارٌ. والمُرادُ مِنَ الجِنِّ هنا الشياطينُ الذين يُغوونَ الناسَ. "قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ" يَعني استكثرتم منْ إضلالِهم وإغْوائهم، وقال ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما: مَعناهُ أَضللتُم كَثيراً مِنَ الإنسِ، وهذا التَفسيرُ لا بُدَّ لَهُ مِنْ تأويلٍ آخَر، لأنَّ الجِنَّ لا يَقدِرون على إضلالِ الإنْسِ وإغْوائهم بأنْفُسِهم، لأنَّهُ لا يَقْدِرُ على الإجْبارِ أَحَدٌ إلاَّ اللهُ الجبَّارُ، لأنَّه هو المُتَصَرِّفُ في خلقِهِ بما شاءَ، فوَجَبَ أَنْ يَكونَ المَعنى: قَدِ اسْتَكْثَرْتم مِنَ الدُعاء إلى الإضْلالِ مَعَ اتفاقِ القَبولِ مِنَ الإنْسِ.
قولُهُ: {وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ} يَعني اسْتَمْتَعَ الجِنُّ بالإنْسِ والإنْسُ بالجٍنِّ، فأمَّا اسْتِمْتاعُ الإنْسِ بالجِنِّ، فقالَ الكَلْبِيُّ: كان الرجلُ في الجاهليَّةِ إذا سافرَ فَنَزَلَ بأرضٍ قَفْراءَ وخافَ على نَفْسِهِ مِنَ الجِنِّ قال: أَعوذُ بِسَيِّدِ هذا الوادي مِنْ شَرِّ سُفهاءِ قَوْمِهِ، فَيَبيتُ في جِوارِهِم. وأَمَّا اسْتِمْتاعُ الجِنِّ بالإنْسِ، فهو أَنَّهم قالوا: سُدْنا الإنْسَ مَعَ الجِنِّ حتَّى عاذوا بِنا فيَزدادون بذلك شَرَفاً في قومِهم، وعِظَماً في أَنفُسِهم. وقيلَ: اسْتِمتاعُ الإنْسِ بالجِنِّ هو ما كانوا يُلقون إليهم مِنَ الأَراجيفِ والسِحْرِ والكَهانَةِ وتَزيينِهمُ الأُمورَ التي كانوا يَهْوَوْنَها، وتَسهيلُ سُبُلِها عليهم، واسْتِمتاعُ الجِنِّ بالإنْسِ، طاعةُ الإنْسِ للجِنِّ، فيما يُزَيِّنون لهم مِنَ الضلالَةِ والمَعاصي. وقيلَ: اسْتِمْتاعُ الإنْسِ بالجِنِّ فيما كانوا يَدُلّونَهم على أَنْواعِ الشَهواتِ وأَصْنافِ الطَيِّباتِ ويُسَهِّلونَها عليهم، واسْتِمْتاعُ الجِنِّ بالإنْسِ هي طاعةُ الإنْسِ للجِنِّ، فيما يَأمُرونَهم بِه ويَنْقادون لِحُكْمِهم، فصاروا كالرُّؤساءِ للإنسِ والإنسُ كالأَتْباعِ. وقيلَ: إنَّ قولَه: "ربَّنا استمتع بعضنا ببعض" هو مِنْ كلامِ الإنْسِ خاصَّةً، لأنَّ اسْتِمْتاعَ الجِنِّ بالإنْسِ وبالعَكسِ أَمْرٌ نادِرٌ لا يَكادُ يَظْهَرُ، أَمَّا اسْتِمْتاعُ الإنْسِ بَعضُهم بِبَعْضٍ، فهو ظاهرٌ فَوَجَبَ حَمْلُ الكلامِ عليْهِ،
قولُهُ: {وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا} يعني أنَّ ذلك الاسْتِمْتاعَ كانَ إلى أَجَلٍ مُعَيَّنٍ، ووقتٍ مَحْدودٍ، ثمَّ ذَهَبَ وبَقيتِ الحَسْرَةُ والنَّدامةُ. قال الحَسَنُ والسُّدِّيُّ: لأجلِ الموتِ. وقيلَ: هو وَقْتُ البَعثِ للحِسابِ في يومِ القيامَةِ، يَعني قالَ اللهُ لِهؤلاءِ الذين اسْتَمْتَعَ بَعْضُهم بِبَعْضٍ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ النَّارُ مَثْواكُمْ يَعني أَنَّ النارَ مَقامُكم ومَقَرُّكم فيها ومصيرُكم إليها خالِدِينَ فِيها يَعْني مُقيمين في نارِ جَهَنَّمَ أَبَداً إِلَّا ما شاءَ اللهُ.
واختلَفوا في معنى هذا الاسْتِثناءِ، فقيلَ: معناه خالدين فيها إلاَّ قَدْرَ مُدَّةِ بعثِهم ووُقوفِهم للحِسابِ إلى حينِ دُخولِهم إلى النَّارِ فإنَّ هذا الوقتَ لَيْسوا بِخالدينَ فيهِ في النّارِ، وقيلَ: المُرادُ مِنَ الاسْتِثْناءِ هوَ أَوْقاتُ نَقْلَتِهم مِنْ عذابٍ إلى عَذابٍ آخَرَ، وذلك أَنَّهم يَسْتَغيثون مِنَ النارِ فَيُنْقَلون إلى الزَمهريرِ، ثمَّ يَستغيثون مِنْهُ فيُنْقَلونَ إلى النّارِ، فكانتْ مُدَّةُ نَقْلَتِهم هيَ المُرادُ مِنْ هذا الاسْتِثناءِ. ونَقلَ جمهورُ المُفسِّرينَ عنِ ابْنِ عبَّاسٍ أَنَّهُ قالَ: إنَّ هذا الاسْتِثْناءَ يَرْجِعُ إلى قومٍ سَبَقَ فيهم عِلْمُ اللهِ أَنَّهم يُسْلِمونَ ويُصَدِّقونَ النبيَّ ـ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ـ فيَخرُجون مِنَ النَّارِ، قالوا فعلى هذا التَأويلِ يَكونُ ما في قولِهِ إلاَّ ما شاءَ اللهُ بمَعنى مِن. ونَقَلَ الطَبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّه كانَ يَتَأَوَّلُ هذا الاسْتِثْناءَ بأنَّ اللهَ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ جَعَلَ أَمْرَ هؤلاءِ القومِ في مَبْلَغِ عَذابِهم إلى مَشيئَتِهِ، وقالَ في هذِهِ الآيةِ: إنَّه لا يَنْبَغي لأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ على اللهِ في خَلْقِهِ أَنْ لا يُنْزِلَهُم جَنَّةً ولا ناراً. والقولُ الأوَّلُ أَوْلى لأنَّ مَعنى الاسْتِثْناءِ إنَّما هو مِنْ يَومِ القيامةِ لأنَّ قولَه: "وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً" هو يَوْمُ القِيامَةِ، ثمَّ قالَ خالِدِينَ فِيها مُنْذُ يُبْعَثونَ إِلَّا ما شاءَ اللهُ مِنْ مِقدارِ حَشْرِهم مِنْ قُبورِهم، ومِقدارُ مُدَّةِ مُحاسَبَتِهم.
قولُهُ: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ} يَعني في تدبيرِ خلقِهِ وتَصريفِهِ إيَّاهم في مشيئتِه مِنْ حالٍ إلى حالٍ وغيرِ ذلكَ مِنْ أَفعالِه ـ سبحانَه وتعالى. وقيلَ: "حكيم" فيما يَفعَلُهُ مِنْ ثوابِ الطائعِ وعِقابِ العاصي، وفي سائرِ وُجوهِ المُجازاةِ، عَلِيمٌ يَعني بِعواقِبِ أُمورِ خلقِهِ وما هم إليهِ صائرون، كأنَّه قالَ إنَّما حَكَمْتُ لِهؤلاءِ الكُفّارِ بالخُلودِ في النارِ، لِعِلْمي بأنَّهم يَسْتَحِقونَ ذلك.
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ} نَصْبٌ على الظَرْفيَّةِ والعاملُ فيه
مُقَدَّرٌ، أيْ اذْكرْ يومَ، ويجوزُ أنْ يَنْتَصِبَ بِفِعْلٍ مُقدَّرٍ بـ "اذكر" أو بالقولِ المَحذوفِ العامِلِ في جُمْلَةِ النِّداءِ مِنْ قولِهِ "يا مَعْشَر" أيْ: ويَقولُ: يا معشرَ يَوم نَحشُرُهم، وقَدِّرَ أيضاً بيوم يَحشرهم وقلنا كان ما لا يُوصَفُ لِفَظاعَتِهِ. وكونُهُ منصوباً بـ "يقول" المَحْكِيُّ بِه جُملةُ النِداءِ أوْلى، لاسْتِلْزامِهِ حَذفَ جُمْلتيْنِ، إحداهُما جُملةُ "وقلنا" والأُخْرى العاملةُ في الظَرْفِ. وقَدَّرَهُ الزَجَّاجُ بفعلِ قولٍ مَبْنِيٍّ للمَفعولِ: يُقالُ لَهم يا مَعشَرَ يوم نَحْشُرُهم، كأنَّه نَظَرَ إلى مَعنى قولِهِ: {ولا يُكَلِّمهم ولا يزكِّيهم} فبَناهً للمَفعولِ. ويَجوزُ أنْ يَنْتَصِبَ "يومَ" بقوله: "وليُّهم" لِما فيهِ مِنْ مَعْنى الفِعْلِ، أيْ: وهو يتولاَّهم بما كانوا يَعْمَلون، ويَتولاَّهم يَومَ يَحشُرُهم. و"جميعاً" حالٌ أوْ تَوكيدٌ. وقرأَ حفص "يحشرهم" بياءِ الغَيْبَةِ رَدَّاً على قولِهِ: "ربَّهم" أيْ: ويَوْمَ يَحْشُرُهم ربُّهم.
قوله: {يَا مَعْشَرَ} في مَحَلِّ نَصْبٍ بِذلكَ القولِ المُضْمَرِ، أيْ: يَقولُ أو قلنا، وعلى تقديرِ الزَجَّاجِ يَكونُ في مَحَلِّ رَفْعٍ لِقيامِهِ مَقامَ الفاعِلِ المَنوبِ عنه.
وقولُهُ: {مِنَ الإنْسِ} في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحالِ، أي: أَوْلياءهم حالَ كونِهم مِنَ الإِنْسِ، ويَجوزُ أَنْ تَكونَ "مِنْ" لِبيانِ الجِنْسِ؛ لأنَّ أَوْلياءهم كانوا إنْساً وجِنَّاً والتقديرُ: أَولياؤهم الذين هُمُ الإِنْسُ. وربَّنا حُذِفَ مِنْهُ حرفُ النِّداءِ. والجمهورُ على "أَجَلَنا" بالإِفرادِ لِقولِهِ "الذي". وقُرِئَ: "آجالنا" بالجمعِ على أَفعال، و"الذي" بالإِفرادِ والتذكير، وهو نَعْتٌ للجَمْعِ، فقال أبو علي: هو جِنْسٌ أَوْقَعَ "الذي" مَوْقِعَ "التي". قال الشيخ: وإعرابُه بدلٌ كأنَّه قيلَ: الوقتُ الذي، وحينئذٍ يكونُ جِنْساً ولا يَكونُ إعْرابُه نعتاً لِعَدَمِ المُطابَقةِ بَيْنَهُما.
قولُهُ: {خَالِدِينَ} منصوبٌ على الحالِ وهيَ حالٌ مُقَدَّرةٌ. والعامِلُ فيها "مثواكم" لأنَّه هُنا اسْمُ مَصْدَرٍ لا اسْمُ مَكانٍ، والمَعنى: النارُ ذاتُ ثُوائكمْ، أيْ إقامَتِكم في هذِهِ الحالِ، ولِذلكَ رَدَّ الفارسِيُّ على الزَجّاجِ حيثُ قال: المَثوى المَقامُ أيْ: النارُ مَكانُ ثُوائكم أيْ إقامَتِكم. قال الفارسي: المَثْوى عِنْدي في الآيَةِ اسْمُ المَصْدَرِ دون المَكانِ لِحُصولِ الحالِ مُعمَلاً فيها، واسْمُ المَكانِ لا يَعْمَلُ عملَ الفِعْلِ لأنَّه لا مَعنى للفِعْلِ فيهِ، وإذا لم يَكنْ مَكاناً ثَبَتَ أنَّه مَصْدَرٌ، والمَعنى: النَّارُ ذاتُ إقامَتِكم فيها خالدين، فالكافُ والمِيمُ في المَعنى فاعلون وإنْ كان في اللفظ خَفْضاً بالإِضافَةِ، ومثلُ هذا قولُ الشاعر حميد بن ثور:
وما هي إلاَّ في إزارٍ وعِلْقَةٍ ............... مُغَارَ ابْنِ هَمَّامٍ على حَيِّ خَثْعَما
وهذا يَدُلُّ على حَذْفِ المُضافِ، والمعنى: وما هي إلاَّ إزارٌ وعِلْقَةٌ وقتَ إغارَةِ ابْنِ هُمام، ولذلك عدَّاهُ بـ "على"، ولو كان مكاناً لَمَا عدَّاه فثبتَ أنَّه اسْمُ مَصدرٍ لا مَكانٌ، فهو كقولِك: آتيك خفوقَ النَّجْمِ ومَقدَمَ الحاجِّ. ثمَّ قال: وإنَّما حَسُنَ ذلك في المَصادِرِ لِمُطابَقَتِها الزَّمانَ، ألاَ تَرى أنَّه مُتَقَضٍّ غيرُ باقٍ كما أنَّ الزَمانَ كذلك. أو أنَّ العاملَ في نصبِ "خالدين" على الحال فعلٌ محذوفٌ، أي: يَثْوُون فيها خالدين، ويدلُّ على هذا الفعلِ المُقدَّرِ "مثواكم" ويُرادُ بِمَثواكم مَكانُ الثُواءِ. وهذا جوابٌ عَنْ قولِ الفارسيِّ المُعْتَرِضِ بِه على الزَجّاجِ. وقال أبو البقاءِ بأنَّ العامِلَ معنى الإِضافة، ومعنى الإِضافةِ لا يَصلُحُ أنْ يَكونَ عاملاً البَتّةَ فليسَ بشيءٍ.