وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ.
(116)
قَوْلُهُ تَعَالَى شأنُه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} أَيِ إن تُطِعِ الْكُفَّارَ يضلوك عَنِ الطَّرِيقِ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَى ثَوَابِ اللهِ. والمُخاطَبُ هنا رسولُ الله ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ والمرادُ غيرُه. والمُرادُ بمِنْ في الأرضِ الناسُ والمُرادُ بأكثرِهِمُ الكُفَّارُ، وقيل المُرادُ بـ "أكثر" ما يَعُمُّ الكفارَ وغيرَهم مِنَ الجُهَّالِ واتْباعِ الهَوى. وقيلَ: المرادُ بـ "أكثر" أهلُ مَكَّةَ، والمرادُ بـ "الأرض" أرضُها، فإنَّ أَكثرَ أَهْلِها كانوا حِينَئِذٍ كُفّاراً. وقيلَ المقصودُ مِنَ الآيةِ النهيُ عن مُتابَعةِ غيرِ الأنبياءِ ـ عليهِمُ الصَلاةُ والسَّلامُ، إذْ هُمُ والكِرامُ قَليلُ أَقَلِّ النّاسِ عَدَداً. وقد قال ـ سبحانَه: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} الأنعام: 90. والمعنى إنْ تُطِعْ أَحَداً مِنَ الكُفَّارِ بِمُخالَفَةِ ما شَرَعَ لكَ اللهُ تعالى وأَوْدَعَهُ كلِماتِه المُنَزَّلَةِ إليكَ مِنْ عِنْدِه. يُضِلّوكَ عنِ الحَقِّ.
قولُه: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} أيْ ما يَتَّبِعون فيما هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِرْكِ والضَلالِ "إِلاَّ الظنَّ" والحدسَ والتَوَهُّمَ وإنَّ الظَنَّ فيما يَتَعَلَّقُ باللهِ تعالى لا يُغْني مِنَ الحَقِّ شيئاً، حيث لا يَكفي فيه إلاّ العِلْمُ.
قالَ غيرُ واحدٍ من العلماءِ المُفسِّرين، المُرادُ: أنّ الكفارَ ما يَتَّبِعونَ إلاَّ ظَنَّهم أَنَّ آباءَهم كانوا على الحَقِّ بجهالاتِهم وآرائهم الباطِلَةِ، ويُرادُ مِنَ الظَنِّ ما يُقابِلُ العِلْمَ، أيْ الجَهْلَ فليْسَ في الآيةِ دَليلٌ على عَدَمِ جَوازِ العَمَلِ بالظَنِّ مُطْلَقاً فَلا مُتَمَسُّكٌ لِنُفاةِ القياسِ بها.
قال العِزُّ بْنُ عَبْدِ السَلامِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ في (القواعد الكبرى) لَهً: إنَّ الظانَّ مُجَوِّزٌ لِخِلافِ مَظْنونِهِ، فإذا ظَنَّ صِفَةً مِنْ صِفاتِ الإلهِ ـ عَزَّ شأنُه ـ فإنَّهُ يَجوزُ نَقيضُها وهو نَقْصٌ ولا يَجوزُ (تَجويزُ) النَّقْصِ عليْه ـ سبحانَه وتعالى ـ لأنَّ الظَنَّ لا يَمْنَعُ مِنْ تَجويزِ نَقيضِ المَظْنونِ) بخِلافِ الأَحْكامِ فإنَّه لو ظَنَّ الحَلالَ حَراماً أَوْ الحرامَ حَلالاً لَمْ يَكُنْ في ذلِكَ تَجويزُ نَقْصٍ على الرَبِّ ـ جلَّ جلاله ـ لأنَّه سُبحانَه لوْ أَحَلَّ الحرامَ وهو يظنُّه حلالاً أو حَرَّمَ الحَلالَ حراماً لم يَكُنْ ذَلك نَقْصاً عليْهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ فدارَ تَجويزُه بيْنَ أَمْريْنِ كلُّ واحدٍ مِنْهُما كَمالٌ بخِلافِ الصِفاتِ.
قولُه: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} أَيْ يَحْدِسُونَ وَيُقَدِّرُونَ، وأَصْلُ الخَرْصِ القولُ بالظَنِّ، والمُرادُ أّنَّ شأنَ هؤلاءِ الكَذِبُ واستمرارهم في تجدده منهم مع ما هم عليه مِنِ اتِّباعِ الظَنِّ في شأنِ خالِقِهم ـ عَزَّ شأنُه ـ وأنَّ هؤلاءِ الكُفَّارَ الذين يُنازعونَكَ في دينِك غيرُ متيقنينَ من صِحَّةِ مَذاهِبِهم، بَلْ لا يَتَّبِعونَ إلاَّ الظَنَّ وهُمْ خَرّاصون كذّابون في ادِّعاء القَطْعِ بصحَّتِها. وقالَ غيرُ واحدٍ: المُرادُ أَنَّهم يَكْذِبونَ على الله تعالى فيما يَنْسبون إليْه ـ جَلَّ شأنُه ـ كاتِّخاذ الوَلَدِ وجَعْلِ عِبادَةِ الأَوْثانِ واسطةً إليْهِ ـ سبحانَه ـ وتحليلِ المَيْتَةِ و"تحريم" البحيرةِ وغير ذلك. ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ المُرادُ أَنَّ هؤلاءِ الكُفَّارَ يَتَّبِعون في أُمورِ دينِهم أَسْلافَهم.
وقوله تعالى: {إِن يَتَّبِعُونَ إلا الظنَّ وإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} "إنْ" نافية بمعنى ما وكذلك هي في قولِه: "وإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ".
والخَرْصُ: الحَزْرُ والحَدْسُ والتَخمينُ والتَوَهُّم، ويُعَبَّرُ بِهِ عنِ الكَذِبِ والافْتِراءِ، وأَصْلُه مِنَ التَظَنِّي وهو قَوْلُ المرءِ ما لمْ يَسْتَيْقِنُ ويَتَحَقَّقُ منه، ومن ذلك خَرْصُ النَّخْلِ، يُقالُ: خَرَصَ الخارِصُ النخلَ خَرْصاً فهي خِرْصٌ إِذَا حَزَرَهُ لِيَأْخُذَ الْخَرَاجَ مِنْهُ. فَالْخَارِصُ يَقْطَعُ بِمَا لَا يَجُوزُ الْقَطْعُ بِهِ، إِذْ لَا يَقِينَ مَعَهُ. فالمصدرُ مَفْتوحُ الخاءِ، ومكسورُ الخاءِ بمعنى مَفْعول، كالنَّقْضِ والنِّقْضِ والذَّبْحِ والذِّبْحِ. و"وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ" أَيْ يَحْدِسُونَ وَيُقَدِّرُونَ، وَمِنْهُ الْخَرْصُ، وَأَصْلُهُ الْقَطْعُ. قَالَ قيس بْنُ الخَطيمِ:
تَرَى قَصْدَ الْمِرَانِ فِينَا كَأَنَّهُ .............. تَذَرُّعُ خِرْصَانَ بِأَيْدِي الشَّوَاطِبِ
القِصْدُ ـ بِكَسْرِ القافِ وفَتْحِ الصادِ جَمْعُ قِصْدَة: القطعةُ مِمَّا يُكْسَرُ والمِرانُ: نَبَاتُ الرِّماحِ. أوِ الرِّماحُ الصَلْبَةُ اللَّدْنَةُ. والتَذَرُّعُ: تَقديرُ الشيءِ بِذِراعِ اليَدِ، والخِرصانُ: القُضْبانُ مِنَ الجَريدِ. والشَواطِبُ (جَمْعُ الشاطِبَةِ) وهي المَرأَةُ التي تَقْشُرُ العَسيبَ.