وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
قَوْلُهُ تبارك وتَعَالَى: {وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا} نَصَّ عَلَى أَنَّ الشِّرْكَ بِمَشِيئَتِهِ، وَهُوَ إِبْطَالٌ لِمَذْهَبِ القَدَرِيَّةِ. فإنَّ أَيَّ كافِرٍ لمْ يَكْفُرْ إلاّ بمشيئةِ اللهِ تعالى، وإنَّما كَفَرَ لأَنَّ مَنْ كفرَ بالاخْتِيارِ لأنَّ اللهَ خلقَهُ مُختاراً، ولِذلِكَ فالكافِرُ إنَّما يَفْعَلُ كلَّ ما يفعلُ بما آتاهُ اللهُ مِنَ الاخْتِيارِ شأنُه في ذلك شأنَ المؤمِنِ وطائع والعاصي، وهذه الميزةُ هي مناط التكليف وعليها سيكون الثوابُ والعقابُ وهي ممنوحةٌ للإنسان فقطْ مِنْ بَيْنِ جميعِ المَخلوقاتِ فإنَّ الكونَ الذي نَحيا فيهِ مقهورٌ بالأمْرِ، لا يُمْكِنُ لَهُ أَنْ يَختارَ إلاَّ ما أَرادَ اللهُ مِنْه، وكلُّ ما في الكونِ يَسيرُ إلى مُرادِ اللهِ. وقد قهَرَ ـ سبحانَهُ وتَعالى ـ كُلَّ الأَجْناسِ في الكَوْنِ؛ قَهَرَها بِتحديدِ عُمْرِها، وبأنَّها تُؤدِّي مُهِمَّتَها كَما أَرادَ اللهُ مِنها، قَهَرَ الشَمْسَ، وقَهَرَ القَمَرَ، وقَهَرَ النُّجومَ، وقَهَرَ الماءَ، وكلُّ ما في الكونِ مقهورٌ لهُ حتَّى المَلائكةِ خَلَقَهُم: {لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ ويفعلونَ ما يُؤمرون} التحريم: 6. فقد أَخَذَتْ صفةُ القَهْرِ مُتَعَلَّقَها كاملاً.
وحينَ اخْتَصَّ اللهُ الإنسانَ بالاخْتِيارِ وَضَعَ المِنهجَ الذي يُرَتِّبُ عليهِ الثوابَ والعِقابَ. ولذلك نَزَلَ التَكليفُ بـ "اِفْعَلْ" و"لا تَفْعَلْ". ويُريدُ اللهُ من بني آدمَ أَنْ يَكونوا فاعلينَ لِما يُحِبُّهُ، وإنْ كانوا مُختارين أَنْ يَفْعَلوا ما لا يُحِبُّهُ، وذلك لإثباتِ طَلاقَةِ القُدْرَةِ، ولا يُمْكِنُ لِمَخْلوقٍ أنْ يَشُذَّ عَنْ مُرادِ اللهِ مِنْهُ إلا بمشيئتِهِ تعالى. وبقي الاختيار في الإنسان لِيَدُلَّ على أنَّ أُناساً مِنْ خَلْقِه ـ سبحانَه وتعالى ـ يَذهبونَ إليْهِ وهُمْ قادِرونَ على ألاَّ يَذْهَبوا إليه، وبهذا تَثْبُتُ صِفَةُ المَحَبَّةِ. فحين يختارُ المرءُ الطاعةَ، وهوَ قادرٌ على ألاّ يُطيعُ، ويَخْتارُ الإيمانَ وهو قادرٌ على أَنْ يَكْفُرْ، فقدْ جاءَ إلى اللهِ مَحبةً لا قَهْراً، ولذلك يقول اللهُ لِرسولِه ـ صلى الله عليه وسلَّمَ: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} الشعراء: 3 ـ 4. أيْ أَشْفِقْ على نَفسِكَ أَنْ تَقْتُلْها حَسْرَةً وحُزْناً على عَدَمِ إيمانِ قَومِكَ بِما جِئْتَ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّكَ، أَتُريدُ أنْ أَقهَرَهم؟ أَتُريدُ أَعْناقاً أَمْ قُلوباً؟ إنَّك يا مُحَمَّدُ تَعلَمُ أَنَّ مِنْهَجَكَ النازِلَ إليْكَ مِنْ رَبِّكَ يُريدُ قُلوباً تأتي بالاخْتِيارِ، لا أعناقاً تأتي بالإجبار. فلو شِئْنا إيمانَهم لأَنْزَلْنا مُعْجِزَةً تَأْخُذُ بِقُلوبِهم فَيُؤْمِنونَ قَهْراً وإجباراً.
ولذلكَ إذا فُقِدَ أيُّ عُنْصُرٍ منْ عناصِرِ الاختيارِ يَزولُ التَكليفُ. فلا تَكليفَ مع فقدِ العَقلِ؛ لأنَّ آلةَ الاخْتِيارِ هيَ العَقْلُ. ولا تكليف كذلك لِمَنْ لَمْ يَنْضُجْ، بَلْ يَتْرُكُهُ الحَقُّ إلى أَنْ يَنْضُجَ ويكتملَ ويصيرَ قادراً على إنْجابِ مِثْلِهِ. ويَمْنَعُ عنهُ الإكْراهَ. فالتَكليفُ يَحتاجُ إلى أُمورَ ثلاثةٍ هي: وُجودُ عُقْلٍ، فلا تكليف لِمَجْنونٍ، وعَقْلٍ رشيدٍ ناضِجٍ، فلا تكليفَ قبلَ البُلوغِ.
قولُهُ: {وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} أَيْ لَا يُمْكِنُكَ حِفْظُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ، أو ممّا يؤدي إليه، كالكُفْرِ وارْتِكابِ المُخالَفاتِ والمُوبِقاتِ.
قولُه: {وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} أَيْ ما أنت يا رسولَ اللهِ بقَيِّمٍ عليهم، ولا على أُمُورِهِمْ فِي مَصَالِحِهِمْ لِدِينِهِمْ أو دُنْياهم، حتَّى تَلْطُفَ لَهُمْ فِي تَنَاوُلِ مَا يَجِبُ لَهُمْ، فَلَسْتَ بِحَفِيظٍ فِي ذَلِكَ وَلَا وَكِيلٍ فِي هَذَا، إِنَّمَا أَنْتَ مُبَلِّغٌ. وَقد كان هَذَا الحكمُ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ ـ صَلى اللهُ عليْه وسَلَّمَ ـ بالقِتالِ لتأسيسِ دولةِ الحقِّ، والهُدى والعَدلِ والمساواةِ، والرّحمَةِ بِعبادِ اللهِ، الدولَةِ التي تَحْكُمُ بِشَرْعِ اللهِ، بعيداً عن الأهواءِ والأطْماعِ والنَزَواتِ، واستغلالِ الإنسانِ لأِخيهِ الإنسان، وتَبْني المُجْتَمَعَ الإنْسانيَّ الفاضِلَ.
قولُهُ تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ} مَفْعولُ المَشيئَةِ مَحْذوفٌ، أيْ: لَو شاءَ اللهُ إيمانَهم، وقدْ تَقَدَّمَ أَنَّه لا يُذْكَرُ إلاَّ لِغَرابَتِهِ.
وقولُهُ: {وما جَعَلْناك عليهم حفيظاً} هي بِمَعْنى صَيَّرَ، فالكافُ مَفعولٌ أَوَّلُ و"حفيظاً" هو الثاني، و"عليهم" مُتَعَلِّقٌ بِهِ قُدِّم عليه للاهْتِمامِ به، أَوْ للفَواصِلِ. ومَفعولُ "حفيظاً" محذوفٌ تقديرُهُ: "أعمالهم" أَيْ: حَفيظاً عليْهم أَعمالَهم. قال أَبو البَقاء: وهذا يُؤَيِّدُ قولَ سِيبَوَيْهِ في إعمالِ "فَعيل". يَعْني أَنَّهُ مِثالُ مُبالَغَةٍ، وللنُّحاةِ في إعْمالِهِ وإعْمالِ "فَعِلَ" خلافٌ فقد أَثْبَتَهُ سِيبَوَيْهِ ونَفاهُ غَيرُه. وكيفَ يُؤَيِّدُهُ وليسَ شَيءٌ في اللفظِ يَشْهَدُ لَهُ؟
وقولُهُ: {وَمَا أَنتَ عليهم بوكيل} ما: إمَّا أَنْ تَكونَ الحِجازِيَّةَ، فيكونُ "أنت" اسْمُها و"بوكيلٍ" في مَحَلِّ نَصْبٍ خَبَرُها، وإمَّا أَنْ تَكونَ التَميمِيَّةَ فيكونُ "أنتَ" مُبْتَدأٌ و"بِوَكيلٍ" في مَحَلِّ رَفْعٍ خَبَرُهُ، والباءُ في الحاليْنِ زائدةٌ، و"عليهم" مُتَعَلِّقٌ بِـ "وَكيلٍ" وقد تقَدَّمَ عليهِ للاهتمامِ بِهِ. وهَذِهِ الجُملةُ هي في معنى الجُمْلَةِ التي قَبْلَها؛ لأنَّ مَعنى: ما أَنتَ وَكيلٌ عليهم،
هو بِمَعْنى ما جَعَلْناكَ حَفيظاً عَليهم أيْ: رقيباً.