اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ.(106)
قَوْلُهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} خطاب من اللهِ ـ تباركتْ أَسماؤهُ ـ إلى رسولِهِ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ والمقصودُ بهِ أنِ اتَّبِعِ الْقُرْآنَ الكريمَ، وداومْ على ما أَنْتَ عليْهِ مِنَ التَدَيُّنِ بِما أُوحِيَ إليكَ مِنَ الشَرائعِ والأَحْكامِ التي عُمْدَتُها التَوحيدُ. وفي التعرضِ لِعُنوانِ الرُبوبِيَّةِ مَعَ الإضافَةِ إلى ضَميرِهِ ـ صَلى اللهُ عليه وسَلَّمَ ـ مِنْ إظهارِ اللُّطْفِ بِهِ ما لا يَخْفى.
قولُه: {لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} فلا وجودَ لإلهٍ إلاَّ اللهُ ـ سبحانَه ـ ولا يُمْكِنُ أَنْ تُغَيِّرَ أَنْتَ بالمِنْهَجِ النازِلِ إليكَ مِنْهُ، فلَا تَشْغَلْ قَلْبَكَ وَخَاطِرَكَ بِهِمْ، بَلِ اشْتَغِلْ بِعِبَادَةِ اللهِ. وعليكَ أَنْ تُعْرِضَ عَنِ المُشْرِكين، فلا تُجالِسَهم، ولا تُخالِطَهم، ولا تُوِدَّهم، إعْراضَ الفِطْنَةِ والإرْشادِ والبَلاغِ. واحتملْ أَذاهم، حتَّى يَفْتَحَ اللهُ لكَ ويَنْصُرَكَ ويُظْفِرَكَ عليهم.
قال بعضُ العلماءِ: إنَّ هذا الأمَرَ بالإعراضِ مَنْسوخٌ بآية القتال، لأنَّ قولَه: "وأَعْرضْ" المُرادُ مِنْهُ الحالُ لا الدَوامُ، وقيلَ: المُرادُ تَرْكُ مَقالَتِهم، فعلى هذا يَكونُ الأَمْرُ بالإعْراضِ مَنسوخٌ لقولِ ابْنِ عَبّاسٍ في رِوايَةِ عَطاء: وما جعلناك عليهم حفيظا تَمنَعُهم مِنَّا، ومَعْناهُ إنَّكَ لَمْ تُبْعَثْ لِتَحْفَظَ المُشْرِكينَ مِنَ العَذابِ وإنَّما بُعِثْتَ مُبَلِّغاً، فلا تَهْتَمَّ بِشِرْكِهِم، فإنَّ ذلكَ بِمَشيئَةِ اللهِ تعالى. فعلى التَفْسيرِ الأوَّلِ تَكونُ الآيةُ مَنْسوخَةً بآيَةِ السَيْفِ، وعلى قوْلِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما: لا تَكونُ مَنْسُوخَةً.
قولُهُ تَعالى: {ما أُوحِيَ إليك مِنْ ربك} ما: يَجوزُ أنْ تكونَ اسْمِيَّةً، والعائدُ هو القائمُ مقامَ الفاعل. و"إليك" فَضْلَةٌ، ويجوزُ أَنْ تَكونَ مَصْدَرِيَّةً والقائمُ مقامَ الفاعِلِ هو الجارُّ والمَجرورُ، أيْ: الإِيحاءُ الذي جاءك مِنْ رَبِّكَ. و"مِنْ" لابْتِداءِ الغايَةِ مَجازاً فـ "مِنْ ربك" متعلِّقٌ بأُوْحِي. وقيل: بلْ هوَ حالٌ مِنْ "ما". وقيلَ: بَلْ هو حالٌ مِنَ الضَميرِ المُسْتَتِرِ في "أوحي" وهوَ بمَعنى ما قَبْلَهُ.
قولُهُ: {لا إلهَ إِلاَّ هُوَ} جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بيْنَ هاتَيْنِ الجُمْلَتَيْن الأَمْرِيَّتَيْنِ. وجَوَّزَ أَبو البَقاءِ أَنْ تَكونَ حالاً مِنْ :ربك" وهي حالٌ مُؤكَّدَةٌ تقديرُه: مِنْ رَبِّكَ مُنْفَرِداً.