وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ
(83)
قَوْلُهُ سبحانه تَعَالَى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ} وَتِلْكَ هِيَ حُجَّةُ اللهِ الدَّامِغَةُ عَلَى وُجُودِ اللهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ، أَرْشَدَ إِلَيْهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، لِيُوجِّهُهَا إلَى قَوْمِهِ، وَهُمْ يُجَادِلُونَهُ فِي رَبِّهِ، وَاللهُ يَرْفَعُ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، دَرَجَاتٍ فِي الدِّينِ وَالفَهْمِ وَالحُجَّةِ، وَإنَّ رَبَّكَ اللهَ الذِي رَبَّاكَ وَعَلَّمَكَ وَهَدَاكَ يَا مُحَمَّدُ، وَجَعَلَكَ خَاتَمَ الرُّسُلِ، حَكِيمٌ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، عَلِيمٌ بِمَنْ يَهْتَدِي بِمَا أَنْزَلَ اللهُ، وَبِمَنْ يَضِلُّ، وَبِمَنْ قَامَتِ الحُجَّةُ عَلَيْهِ. وكأنَّ الحَقَّ ـ سُبحانه وتعالى ـ يُريدُ منا حين نُحاجِجْ أنْ تَكونَ لَنا غايةٌ في الحِجاجِ. وكأنما يُريدُ ـ سبحانه ـ أنْ نَتَعلَّمَ مِنْ حِكمةِ سيِّدِنا إبراهيمَ، إنَّكَ إذا رَأَيْتَ خصمَك يَدْخُلُ فيما لا يُمكِنُ أنْ يَنْتَهي فيه الجِدلُ فانْقُلْهُ إلى المُستوى الذي لا يَسْتَطيعُ منه خَلاصاً ولا فِكاكاً، فلا يَغْلِبَكَ؛ فالنُّمْروذُ المَلِكُ حين قالَ لَهُ: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} البقرة: 258.كان باستطاعةِ سيِّدِنا إبْراهيمَ أنْ يَقولَ: أَنْتَ لا تُميتُ بَلْ تَقْتُلُ، والقَتْلُ غيرُ المَوْتِ؛ ويَرُدُّ النُمْروذُ وهكذا، لكنَّه لَمْ يُرِدْ أنْ يُطيلَ الجَدَلَ، وأَرادَ أنْ يَكونَ الجَدَلُ مُقْتَضَباً، ويُسْقِطَهُ على الحِجَّةِ ويُلْزِمَهُ بِها مِنْ أَقْصَرِ طَريقٍ، فقالَ اللهُ تعالى: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ} البقرة: 258. فماذا كانت نتيجةُ الجَدَلِ؟ يَقولُ اللهُ سُبْحانَه: {فَبُهِتَ الذي كَفَرَ} البقرة: 258. وكلُّ هذِه حُجَجٌ يُوَضِّحُها قولُ اللهِ تعالى: “وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ“. لقد أعطى اللهُ ـ سبحانَه ـ إبراهيمَ ـ عليه السلامُ ـ الحُجَّةَ على قومِهِ، أيْ كانتْ لَهُ عليهم درجاتٌ وسُمُوٌّ وارْتِفاعٌ؛ لأنَّ إقامَةَ الحُجَّةِ على الخَصْمِ انْتِصارٌ، والانْتِصارُ رَفْعٌ لِدَرَجَةِ مَوْضُوعِكَ، ورَفْعٌ أَيضاً لِموضوعِ عَمَلِكَ. و”تِلْكَ” إِشَارَةٌ للبعيدِ إِلَى جَمِيعِ احْتِجَاجَاتِهِ حَتَّى خَاصَمَهُمْ وَغَلَبَهُمْ بالحُجَّةِ. وتَبْتَدئُ مِنْ وقتِ أنْ جَنَّ الليلُ فرأى كَوكَباً. وقيلَ: مِنْ قولِهِ سبحانَه: {أَتُحَاجُّونّي} إلى {وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} الأنعام: 80 ـ 82. وأَضافَ ـ سبحانه ـ الحُجَّةَ إلى ذاته العليَّةِ مَعَ ذِكْرِ الضمير “نا” الدالِّ على العَظَمَةِ تنويها بشأنِ هذه الحُجَّةِ وتفخيماً لأمرِها، والمُرادُ بالحُجَّةِ جِنْسُها. أي: وتلك الحُجَّةُ التي لا يُمكِنُ نَقْضُها أو مُغالَبَتُها في إثباتِ الحَقِّ وتَزييفِ الباطِلِ أَعطيناها إبراهيمَ لِيَكونَ مُسْتَعْلِياً بها على قومِهِ، قاطعاً لألْسِنَتِهم عن المُجادَلَةِ والمُخاصَمَةِ. وقال مُجاهدٌ: “وتلك حُجَّتنا” هي قولُ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ}. وقال أبو جعفر: يَعني ـ تعالى ذِكْرُهُ بقوله: “وتلك حجتنا“، قولَ إبراهيم لمخاصميه من قومه المشركين: “أي الفريقين أحق بالأمن“، أَمّنْ يَعْبُدُ ربًّا واحدًا مخلصًا له الدينَ والعبادةَ، أَمْ مَنْ يَعْبُدُ أَرْبابًا كثيرةً؟ وإجابَتُهم إيَّاهُ بقولِهم: “بَلْ مَنْ يَعْبُدُ رَبًّا واحدًا أَحَقُّ بالأمْنِ”، وقَضاؤهم لَه على أَنْفُسِهم، فكان في ذلك قَطْعُ عُذْرِهِمْ وانْقطاعُ حُجَّتِهم، واسْتِعْلاءُ حُجَّةِ إبْراهيمَ عليهم. فهي الحجة. وَقِيلَ: حُجَّتُهُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا لَهُ: أَمَا تَخَافُ أَنْ تَخْبِلَكَ آلِهَتُنَا لِسَبِّكَ إِيَّاهَا؟ قَالَ لَهُمْ: أَفَلَا تَخَافُونَ أَنْتُمْ مِنْهَا إِذْ سَوَّيْتُمْ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فِي الْعِبَادَةِ وَالتَّعْظِيمِ، فَيَغْضَبُ الْكَبِيرُ فَيَخْبِلَكُمْ؟. وقيلَ أشار بـ “وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ” إلى ترقِّيه من شهود آياته إلى إثبات ذاته، وذلك ترتيبُ أهلُ السلوكِ في وُصولِهم إلى اللهِ، فالتَحقُّقُ بالآياتِ التي هي أفعالُه ومُراعاةُ ذلك وهي الأُولى؛ ثمَّ إثباتُ صِفاتِه وهي الثانيةُ، ثمَّ التَحقُّقُ بِوُجودِهِ وذاتِهِ عندَ التجلّي لأسرارِهم، وهوَ مبدأُ الوُصولِ، ولا غايةَ لَهُ، فبِرُسومِهِ يَعْرِفُ العبدُ نُعوتَهُ، وبِنُعوتِهِ يَعْرِفُ ثُبوتَه.
قولُهُ: {نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ} أي نَرْفَعُ مَنْ شِئْنا مِنْ عِبادِنا درجاتٍ عاليَةً مِنَ العِلْمِ والحكمة، بِالْعِلْمِ وَالْفَهْمِ وَالْإِمَامَةِ وَالْمُلْكِ. وتُطلقُ الدرجاتُ في الأصلِ على مراقي السُلَّمِ، والمُرادُ بها هُنا المراتِبُ المَعنويَّةُ في الخيرِ على سبيلِ التَمثيلِ، فقدْ شُبِّهتْ حالةُ المُفَضَّلِ على غيرِهِ بحالِ المُرْتقي في سلَّمٍ إذا ارْتَفعَ مِنْ دَرَجَةٍ إلى دَرَجَةٍ. و”من نشاء” أي: مَنْ نَشاءُ رفعَهُ على حَسَبِ ما تَقتَضيهِ حِكْمَتُنا. وقد دَلَّ قولُه: “مَن نَّشَاءُ” على أنَّ هذا التكريمَ لا يَكونُ لِكُلِّ أَحَدٍ لأنَّه لو كان حاصلاً لِكلِّ الناسِ لم يَحْصَلِ الرَّفُعُ ولا التَفْضيلُ، كما دلَّت أنه ليس بِكَسْبِ العبدِ ولا بعملِه وإنما هو بمحض المشيئة الإلهية العَلِيَّةِ وبسبق النعمة والفَضْلِ.
وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} تذييلٌ مُقَرِّرٌ لِمَضْمونِ ما قبلَه، أي: إنَّ ربَّك الذي خلَقَكَ فسوَّاك فعَدَلَك “حكيم عليم“، و”ربّ” في كلمةِ “ربَّك” فيها معنى الخلقُ والتربية والتَعَهُّدِ، بينما اختصَّت كلمةُ “إله” بالتَكليفُ ـ إنْ أمراً وإنْ نهياً ـ لأنَّ اللهَ هو المَعبودُ المُطاعُ. إذاً فمعنى الرُبوبيَّةِ شيءٌ، ومعنى الأُلوهيَّةِ شيءٌ آخَرُ، وعطاءُ الرُّبوبيَّةَ يأخُذُهُ المُؤمِنُ والكافرُ، والطائعُ والعاصي؛ لأنَّ اللهَ هو الذي اسْتَدْعاهم للوُجُودِ، وجعلَ الكونَ مُسَخَّراً لهم، لكنَّ عطاءَ الأُلوهيَّةِ يَتَمَثَّلُ في “افعل ولا تفعل”، وهذا يَدخُلُ في الاخْتيارِ. فالذي يَكْفُرُ باللهِ ويُحْسِنُ الأخذَ بالأَسْبابِ يأخُذُ نتائجَها، ومَنْ يؤمِنُ باللهِ ولا يُحْسِنُ الأَخْذَ بالأَسْبابِ لا يَأْخُذُ النتائجَ؛ لأنَّ الاسْتِنْباطَ في الكونِ مِنْ عطاءِ الرُبوبيَّةِ.
وهذه الآيةُ مِنْ أَدَلِّ الدَلائلِ على أنَّ كمالَ السعادةِ في الصِفاتِ الروحانِيَّةِ لا في الصفاتِ الجِسْمانِيَّةِ، والدليل على ذلك أن الله ـ تعالى ـ قال: “وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ” ثمَّ قالَ: “نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ” وذلكَ يَدُلُّ على أَنَّ المُوجِبَ لِحُصولِ هذهِ الرِّفْعَةِ هو إيتاءُ تلكَ الحُجَّةِ، وهذا يَقْتَضى أنَّ وُقوفَ النَّفسِ على حقيقةِ تلكَ الحُجَّةِ واطِّلاعُها على إشراقِها اقْتَضى ارْتِفاعَ الرُوحِ مِنْ حَضيضِ العالَمِ الجِسْمانيِّ إلى أعالي العالَمِ الرّوحانيِّ، وذلك يَدُلُّ على أنَّه لا رِفْعَةَ ولا سَعادةَ إلاّ في الروحانيات.
قولُه تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا} “تلك” إشارةٌ إلى الدّلائلِ المُتَقَدِّمةِ. وهو مبتدأٌ، و”حُجَّتُنا” خبرُ هذا المُبتدأِ، و”آتيناها” إمَّا في مَحَلِّ نصبٍ على الحالِ، والعاملُ فيها معنى الإِشارةِ، ويَدُلُّ على ذلك التصريحُ بوقوعِ الحالِ في نَظيراتِها كقولِه تعالى في سورةِ النملِ: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} الآيةُ: 52. وإمّا في مَحَلِّ رَفْعٍ على أنَّهُ خَبرٌ ثانٍ، فيكونُ قد أُخْبَرَ عن المبتدأِ بخبرين، أحَدُهُما مُفرَدٌ والثاني جُمْلَةٌ. ويُمْكِنُ أَنْ يَكون “حُجَّتنا” بَدَلاً أو بياناً لتلكَ، والخبرُ الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ “آتيناها“.
وقال الحوفي: إن الجملة مِنْ “آتَيْناها” في موضعِ النَّعتِ لـ “حُجَّتنا” على نِيَّةِ الانْفِصالِ، إذِ التَقديرُ: حُجَّةٌ لَنا، يَعني الانْفِصالَ مِنَ الإِضافةِ لِيَحصُلَ التَنْكيرُ المُسَوِّغُ لِوُقوعِ الجُمْلَةِ صِفَةً لِحُجَّتِنا، وهذا لا يَنْبَغي أنْ يُقالَ، وقالَ أَيْضاً: إنَّ “إبراهيم” مَفعولٌ ثانٍ لآتيْناها، والمَفْعولُ الأَوَّلُ هو “ها“، وقدْ تقَدَّمَ أنَّ هذا مَذْهَبُ السُهَيْلِيِّ وذلك في أَوائِلِ سورةِ البَقَرَةِ عند قولِهِ تعالى: {آتَيْنَا مُوسَى الكتاب} البقرة: 53. وأنَّ مَذْهَبَ الجُمهورِ أنْ تَجْعَلَ الأوَّلَ ما كان عاقِلاً والثاني غيرَه، ولا تُبالي بتَقْديمٍ ولا تَأْخيرٍ.
قولُه: {على قومِهِ} جارٌّ ومجرورٌ مُتَعلِّقانِ بِ “آتينا” أيْ: أَظْهَرْنا الحُجَّةَ لإِبراهيمَ على قومِهِ. أوْ هُما مُتَعَلِّقان بمَحْذوفٍ على أنَّه حالٌ، أيْ: آتَيْناها إبراهيمَ حُجَّةً على قومِهِ، أَوْ دَليلاً على قومِهِ، ويلزَمُ مِنْ هذا التَقديرِ أَنْ تَكونَ حالاً مُؤَكِّدَةً، إذِ التقديرُ: وتِلكَ حُجَّتُنا آتيناها لَهُ حُجَّةً. وقدَّرَها الشيخُ أبو حيّانَ على حَذْفِ مُضافٍ فقالَ: أيْ آتيْناها إبراهيمَ مُسْتَعْلِيَةً على حُجَجِ قومِهِ قاهرةً لَها، وهذا حَسَنٌ. ومَنعَ أبو البَقاءِ أَنْ يَكونَا متعلِّقانِ بحُجَّتِنا، قال: لأنَّها مَصْدَرٌ، وآتيناها خَبَرٌ أوْ حالٌ، وكِلاهُما لا يُفْصَلُ بِه بين المَوصولِ وصِلَتِهِ. ومنعَ الشيخُ ذلك أَيضاً، ولكنْ لِكَوْنِ الحُجَّةِ ليستْ مَصْدَراً قال: إنَّما هو الكلامُ المُؤَلَّفُ للاسْتِدْلالِ على الشيءِ. ثمَّ قالَ: ولو جَعلناها مَصْدَراً لَمْ يَجُزْ ذلك أيضاً، لأنه لا يُفصَلُ بالخَبَرِ ولا بِمِثْلِ هذِه الحالِ بيْن المَصْدَرِ ومَطْلوبِه. وفي مَنْعِهِ ومَنْعِ أَبي البَقاءِ ذلك نَظَرٌ، لأنَّ الحالَ وإنْ كانَتْ جُمْلةً لَيْسَتْ أَجْنَبِيَّةً حتى يُمْنَعَ الفصلُ بها لأنَّها مِنْ
جُمْلَةِ مَطلوباتِ المَصْدَرِ، وقدْ تَقَدَّمَ نظيرُ ذلك.
قولُهُ: {نرفع} الظاهرُ أنَّها جملةٌ مُستَأنَفةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ. أوْ أَنَّها في مَوْضِعِ الحالِ مِنْ “آتيناها” يَعني مِنْ فاعلِ “آتيناها“، أي: في حالِ كونِنا رافعين، ولا تَكونُ حالاً مِنَ المَفعولِ إذْ لا ضَميرَ فيها يَعودُ إليْه.
ويُقْرأُ “نَرفَعُ” بنونِ العَظَمَةِ و”يَرْفَعُ” بِياءِ الغَيْبَةِ، وكذلك “يَشاء“. وقَرَأَ أَهْلُ الكُوفَةِ “درجاتٍ” بالتنوين وكذلك التي في سورةِ يُوسُفَ، وقرأ الباقونَ بالإِضافة فيهما، فقراءةُ الكُوفِيينَ يُحتَملُ فيها نَصْبُ “درجات” مِنْ عِدَّةِ أَوْجُهٍ أَوَّلُها: أنَّها منصوبةٌ على الظرفِ و”مَنْ” مَفعولُ “نَرْفَعُ” أيْ: نَرْفَعُ مَنْ نَشاءُ مَراتِبَ ومَنازِلَ. وثانيها: أنْ تَنْتَصِبَ على أنَّهُا مفعولٌ ثانٍ قُدِّمَ على الأوَّلِ، وذلك يَحتاجُ إلى تَضمينِ “نرفع” مَعْنى فِعْلٍ يَتَعَدَّى لاثْنَيْنِ وهو “يُعْطي” مَثَلاً، أيْ: نُعْطي بالرَّفْعِ مَنْ نَشاءُ درجاتٍ أيْ: رُتَباً، والدَرَجاتُ هي المَرْفوعةُ كقولِهِ: {رَفِيعُ الدَرَجاتِ} غافر: 15. وفي الحديثِ: ((اللهُمَّ ارْفَعْ دَرَجَتَه في عِلِّييّن)) فإذا رُفعتِ الدَرَجةُ فقد رُفِعَ صاحبُها. وثالثُها: أنْ يَنْتَصِبَ على حذفِ حرفِ الجَرِّ، أيْ: إلى مَنازِلَ وإلى دَرَجاتٍ. ورابعُها: أنْ يَنْتَصِبَ على التَمييزِ، ويَكونَ مَنْقولاً مِنَ المَفعوليَّةِ، فيَؤولُ إلى قراءةِ الجَماعةِ إذِ الأَصْلُ: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ} بالإِضافةِ ثمَّ حُوِّلَ كَقَوْلِهِ: {وَفَجَّرْنَا الأرضَ عُيُوناً} القمر: 12. أيْ: عُيُونَ الأَرْضِ. وخامسُها: أنَّها مُنْتَصِبَةٌ على الحالِ، وذلك على حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: ذوي دَرَجاتٍ. ويَشْهَدُ لِهذه القراءةِ قولُه تَعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} الأنعام: 165. {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ} الزُخْرُف: 32 . وقولُه: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى} البَقَرَة: 253.
وأمَّا قراءةُ الجَماعةِ: ف “دَرَجات” مفعولُ “نَرْفَعُ“، والخِطابُ في “إنَّ ربّك” للرَسولِ مُحَمَّدٍ ـ عليْهِ الصَلاةُ والسَلامُ، وقيلَ: لإِبْراهيمَ الخليلِ ـ عليْهِ السَّلامُ، فعلى هذا يكونُ فيه الْتِفاتٌ مِنَ الغَيْبةِ إلى الخِطابِ مُنَبِّهاً بِذلكَ على تَشْريفِهِ لَهُ.