فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.
(96)
قَوْلُهُ ـ سبحانه وتَعَالَى: {فالِقُ الْإِصْباحِ} ها هو ـ تبارك وتعالى ـ يَنْقُلُنا إلى السماءِ ليُبَيِّنَ لَنا بَعْضاً مِنْ دَلائلِ قُدْرَتِهِ فيها، بعدَ أنْ بيَّنَ لَنا بَعْضاً مِنْ دَلائلِ قُدْرَتِهِ في الأَرْضِ، وهوَ نَوْعٌ آخَرُ مِنْ دَلائلِ وُجودِ اللهِ الصانِعِ العَظيم وعِلمِهِ وقُدْرَتِه وحِكْمَتِهِ ـ سبحانَه وتعالى ـ فالنَّوعُ المُتَقَدِّمُ ـ أي قولُه: {إِنَّ اللهَ فَالِقُ الحبِّ والنَّوى} مِنَ الآيةِ السابقةِ، كانَ مَأْخوذاً مِنْ دَلالَةِ أَحْوالِ النَباتَ والحَيَوانِ، والنَّوعُ المَذْكورُ في هذه الآيةِ مأخوذٌ مِنْ الأَحْوالِ الفَلَكِيَّةِ، وذلكَ لأنَّ فَلْقَ ظُلْمَةِ الليلِ بِنُورِ الصُبْحِ أَعْظَمُ في كَمالِ القُدْرَةِ مِنْ فَلْقِ الحَبِّ والنَّوى بالنَباتِ والشَجَرِ ولأنَّ مِنَ المَعلومِ بالضَرورةِ أَنَّ الأَحْوالَ الفَلَكِيَّةَ أَعْظَمُ في القلوبِ وأَكْثَرُ وَقْعاً مِنْ الأَحوالِ الأرْضِيَّةِ.
إنَّ فالِقَ الحَبِّ والنَّوى هو فالِقُ الإصْباحِ أَيْضاً، وهو الذي جَعَلَ اللّيلَ للسُكونِ، وجعلَ الشَّمْسَ والقَمَرَ مَحْسوبَةً حَرَكاتُهما، مُقَدَّرَةً دوراتُهُما، مُقَدَّراً ذلك كلُّه بِقُدْرَتِهِ تعالى التي تُهَيْمِنُ على كلِّ شيءٍ، وبِعِلْمِهِ الذي يُحيطُ بِكُلِّ شيءٍ.
وانْفِلاقُ الإصْبِاح مِنَ الظَلامِ حركةٌ تُشْبِهُ في شَكْلِها انْفِلاقَ الحَبَّةِ والنواةِ. وانْبثاقُ النُّورِ في تلكَ الحَرَكَةِ، كانْبِثاقِ البُرْعُمِ في هذه الحركةِ وبينَهُما مِنْ تشابُهِ الحَرَكَةِ والحَيويَّةِ والبَهاءِ والجَمالِ سِماتٌ مُشْتَرَكَةٌ، مَلْحوظَةٌ في التَعبيرِ عَنِ الحَقائقِ المُشْتَرَكَةِ في طَبيعَتِهِما وحَقيقَتِهِما كذلك. وبَيْنَ انْفِلاقِ الحَبِّ والنَّوى، وانْفِلاقِ الإصْباحِ وسُكونِ اللَّيْلِ صِلَةٌ أُخْرى. إنَّ الإصْباحَ والإمْساءَ، والحَرَكَةَ والسُكونَ، في هذا الكَوْنِ، أَوْ في هذِهِ الأَرْضِ، ذا علاقَةٍ مُباشرةٍ بالنَباتِ والحياةِ. وإنَّ كونَ الأَرْضِ تَدورُ دَوْرَتَها هذِهِ حَوْلَ نَفْسِها أَمامَ الشَمْسِ؛ وكَوْنَ القَمِرِ بِهذا الحَجْمِ وبِهذا البُعْدِ مِنَ الأَرْضِ؛ وكَوْنَ الشَمْسِ كذلكَ بهذا الحَجْمِ وهذا البُعْدِ وهذِهِ الدَرَجَةِ مِنَ الحَرارةِ. هي تقديراتٌ مِنَ "العزيز" ذِي القدرةِ والسُلْطانِ، "العليمِ" ذي العِلْمِ الشامِلِ. ولولا هذِهِ التَقديراتُ لما انْبَثَقَتِ الحياةُ في الأَرْضِ على هذا النَحْوِ، ولَما انْبَثَقَ النَباتُ والشَجَرُ، مِنَ الحَبِّ والنَّوى.
إنَّهُ كَوْنٌ مُقَدَّرٌ بِحِسابٍ دَقيقٍ. ومُقَدَّرٌ فيهِ حِسابُ الحياةِ، ودَرَجَةُ هذِهِ الحياةِ، ونَوعُ هذِه الحياة. ولا مَجالَ للمُصادَفَةِ فيه ـ كما سبق بيانُه ـ والذين يقولون: إنَّ هذِهِ الحياةَ فَلْتَةٌ عابِرَةٌ في الكَوْنِ. وأنَّ الكونَ لا يَحفل بها. بلْ يَبْدو أَنَّه يُعاديها. وأنَّ ضآلَةَ الكَوْكَبِ الذي قامَ عليْهِ هذا النوعُ مِنَ الحياةِ تُوحي بِهذا كُلِّهِ. بَلْ يَقولُ بَعضُهم: إنَّ هذه الضَآلةَ تُوحي بأنَّه لو كان للكونِ إلهٌ ما عنى نَفْسَه بهذه الحياة!
يَرُدُّ عليهم "فرانك أَللن" العالم الطبيعي الذي اقتطفنا فقرات من مقالِهِ في تفسيرِ الآيةِ السابِقَةِ عن نشأة الحياة، فيقول:
إنَّ مُلاءَمَةَ الأَرْضِ للحَياةِ تَتَّخِذُ صُوَراً عَديدَةً لا يُمْكِنُ تَفسيرُها على أَساسِ المُصادَفَةِ أوِ العَشْوائيَّةِ. فالأَرْضُ كُرَةٌ مُعَلَّقَةٌ في الفَضاءِ تَدورُ حولَ نَفْسِها، فَيَكونُ في ذلك تَتابُعُ اللَّيلِ والنَّهارِ، وهي تَسْبَحُ حولَ الشَمْسِ مَرَّةً في كلِّ عامٍ، فَيَكونُ في ذلك تَتابُعُ الفُصولِ، الذي يُؤدّي بِدَوْرِهِ إلى زِيادَةِ مِساحَةِ الجِزْءِ الصالِحِ للسُكْنى مِنْ سَطْحِ كَوْكَبِنا، ويَزيدُ مِنِ اخْتِلافِ الأَنْواعِ النَباتِيَّةِ أَكْثَرُ مِمَّا لَوْ كانتْ ساكِنَةً. ويُحيطُ بالأرضِ غِلافٌ غازِيٌّ يَشْتَمِلُ على الغازاتِ اللازِمَةِ للحَياةِ، ويَمْتَدُّ حَوْلَها إلى ارْتِفاعٍ كَبيرٍ (يَزيدُ على 500 ميل). ويَبْلُغُ هذا الغلافُ الغازيُّ مِنَ الكَثافَةِ دَرَجَةً تَحولُ دونَ وُصولِ مَلايينِ الشُهُبِ القاتِلَةِ يَومِيّاً إليْنا، مُنْقَضَّةً بِسُرْعَةِ ثلاثينَ مِيلاً في الثانيةِ. والغِلافُ الجَوِيُّ الذي يُحيطُ بالأَرْضِ يَحْفَظُ دَرَجَةَ حَرارَتِها في الحُدودِ المُناسِبَةِ للحياةِ، ويَحْمِلُ بُخارَ الماءِ مِنَ المُحيطاتِ إلى مِسافاتٍ بَعيدةٍ داخلَ القارَّاتِ، حيثُ يُمْكِنُ أَنْ يَتَكاثَفَ مَطَرٌ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوتِها. والمَطَرُ مَصْدَرُ الماءِ العَذْبِ، ولولاهُ لأَصْبَحَتِ الأَرْضُ صَحْراءَ جَرداءَ خالِيَةً مِنْ كُلِّ أَثَرٍ للحَياةِ. ومِنْ هُنا نَرى أَنَّ الجَوَّ والمُحيطاتِ المَوجودَةِ على سَطْحِ الأَرْضِ تُمَثِّلُ عَجَلَةَ التَوازُنِ في الطَبيعة.
إنَّ الأَدِلَّةَ "العِلْمِيَّةَ" تَتكاثَرُ في وُجوهِهِمْ وتَتَجَمَّعُ لِتُعْلِنَ عَجْزَ المُصادَفَةِ عَجْزاً كامِلاً عَنْ تَعليلِ نَشْأَةِ الحياةِ، بِما يَلْزَمُ لِهذِهِ النَّشْأَةِ ـ وللنُمُوِّ والبَقاءِ والتَنَوُّعِ بَعدَها ـ مِنْ مُوافَقاتٍ لا تُحْصى في تَصْميمِ الكونِ، منها هذه المُوافَقاتُ التي ذَكَرَها العالِمُ الطَبيعِيُّ السابِقُ، ووراءَها مِنْ نَوْعِها كَثيرٌ. فلا يَبْقى إلاَّ تَقديرُ العزيزِ العَليمِ الذي أَعطى كُلَّ شيءٍ خَلْقَهُ ثمَّ هَدى، والذي خَلَقَ كُلَّ شيءٍ فَقَدَّرَهُ تَقديراً.
و"فالقُ الإصباحِ" أَيْ أَنَّ اللهَ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ، يَشُقُّ غَبَشَ الصُبْحِ بِضوءِ النَهارِ، لِيَسْعى الأحياءُ إلى تَحصيلِ أَسْبابِ حياتِهم، وجَعَلَ اللَّيلَ راحةً للجِسْمِ والنَفسِ، وسَيَّرَ الشَمْسَ والقَمَرَ بِنِظامٍ دَقيقٍ ليَعرِفَ الناسُ به مَواقيتَ مُعاملاتِهم وعِباداتِهم من صَوْمٍ وصَلاةٍ وحَجٍّ وغير ذلك. وكلُّه في نظامٍ مُحْكَمٍ، من تَقديرِ "العزيز العليمِ" القادِرِ المُهيمِنِ على الكَوْنِ، وتَدبيرِ المُحيطِ بكلِّ شيءٍ عِلْماً. والذي جَعَلَ الشَمْسَ والقَمَرَ يَجْريان في الفَلَكِ بحِسابٍ مُقَدَّرٍ مَعلومٍ لا يَتَغَيَّرُ ولا يَضطَّربُ حتّى يَنْتَهي إلى أَقْصى مَنازِلِهِما بحيثُ تُتِمُّ الشَمْسُ دورَتَها في سَنَةٍ ويُتِمُّ القَمَرُ دورَتَهُ في شهرٍ، وبِذلك تَنْتَظِمُ المَصالِحُ المُتَعَلِّقَةُ بالفُصولِ الأَرْبَعَةِ وغَيرِها. وَالصُّبْحُ وَالصَّبَاحُ أَوَّلُ النهارِ، وكذلك الإصباحُ، أيْ فَالِقُ الصُّبْحِ كُلَّ يَوْمٍ، يُرِيدُ الْفَجْرَ. وَالْمَعْنَى: شَاقُّ الضِّيَاءِ عَنِ الظَّلَامِ وَكَاشِفُهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: فَالِقُ الْإِصْبَاحِ خَالِقُ النَّهَارِ. وَفِي الْمُوَطَّإِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَانَ يَدْعُو فَيَقُولُ: ((اللَّهُمَّ فَالِقَ الْإِصْبَاحِ وَجَاعِلَ اللَّيْلِ سَكَنًا وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ حُسْبَانًا اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَاغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ وَأَمْتِعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي وَقُوَّتِي فِي سَبِيلِكَ)). فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: ((وَأَمْتِعْنِي بِسَمْعِي وَبَصَرِي)) وَفِي كِتَابِ النَّسَائِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِمَا ((وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنِّي)) وَذَلِكَ يَفْنَى مَعَ الْبَدَنِ؟ قِيلَ لَهُ: فِي الْكَلَامِ تَجَوُّزٌ، وَالْمَعْنَى اللَّهُمَّ لَا تُعْدِمْهُ قَبْلِي. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ هُنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ، لِقَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ ـ فِيهِمَا: ((هُمَا السَّمْعُ
وَالْبَصَرُ)). وَهَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ، إِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِمَا الْجَارِحَتَانِ.
قَوْلُهُ: {وَجَعَلَ الليلَ سَكَناً} أيْ ساجِياً مُظلِماً لِتَسْكُنَ فِيهِ الْأَشْيَاءُ كَمَا قَالَ: {وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجى}، وَقَالَ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى}، وَقَالَ: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا}، قَالَ صُهَيْبٌ الرُّومِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ لِامْرَأَتِهِ وَقَدْ عَاتَبَتْهُ فِي كَثْرَةِ سَهَرِهِ: (إِنَّ اللهَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا، إِلَّا لِصُهَيْبٍ، إِنَّ صُهَيْبًا إِذَا ذَكَرَ الْجَنَّةَ طَالَ شَوْقُهُ، وَإِذَا ذَكَرَ
النَّارَ طَارَ نَوْمُهُ) (رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ).
قَوْلُهُ: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً} أَيْ يَجْرِيَانِ بِحِسَابٍ مُقَنَّنٍ مُقَدَّرٍ لَا يَتَغَيَّرُ، ولا يَضطَّرِبُ، بَلْ لِكُلِّ مِنْهُما مَنَازِلُ يَسْلُكُهَا فِي الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ، فَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ طُولًا وَقِصَرًا كَمَا قَالَ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} يونس، الآية: 5. وَكَمَا قَالَ في سورةِ يس: {لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}، الآية: 40. وقال في سورةِ الأعراف: {والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} الآية: 54، وَقال في سورة الأنعام: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} الآية: 96. أَيِ الْجَمِيعُ جَارٍ بِتَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الَّذِي لَا يُمَانَعُ وَلَا يُخَالَفُ، الْعَلِيمِ بِكُلِّ شَيْءٍ فَلَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ، وَكَثِيرًا مَا إِذَا ذُكِرَ اللهُ تَعَالَى خَلَقَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ يَخْتِمُ الْكَلَامَ بِالْعِزَّةِ وَالْعِلْمِ كَمَا ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَكَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم}يس، الآية: 37 والآية: 38. ومَعنَى "حُسْباناً" أَيْ بِحِسَابٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصَالِحُ الْعِبَادِ. وَقَالَ ابْنُ عبَّاسٍ في قولِهِ ـ جَلَّ وَعَزَّ: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً} أَيْ بِحِسَابٍ. وقال الْأَخْفَشُ: حُسْبَانٌ جَمْعُ حِسَابٍ، مِثْلَ شِهَابٍ وَشُهْبَانٍ. وَقَالَ يَعْقُوبُ: حُسْبَانٌ مَصْدَرُ حَسَبْتُ الشَّيْءَ أَحْسُبُهُ حُسْبَانًا وَحِسَابًا وَحِسْبَةً، وَالْحِسَابُ الِاسْمُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: جَعَلَ اللهُ تَعَالَى سَيْرَ الشَّمْسِ. وَالْقَمَرِ بِحِسَابٍ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، فَدَلَّهُمُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ بِذَلِكَ عَلَى قُدْرَتِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ. وَقِيلَ: "حُسْباناً" أَيْ ضِيَاءً. وَالْحُسْبَانُ: النَّارُ فِي لُغَةٍ، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ}. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ناراً. والحُسْبانَةُ: الوِسَادَةُ الصَغيرَةُ أَيْضاً.
قولُه: {ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} قال: "العزيز" إشارةً إلى كمالِ قُدْرَتِه، و"العليم" إشارةً إلى كَمالِ عِلْمِهِ، فإنَّ تَقديرَ الأفْلاكِ بصِفاتِها المخصوصَةِ، وهَيئاتِها المَحدودَةِ، وحَركاتِها المُقدَّرَةِ بالمَقاديرِ المَخْصوصةِ في السرعةِ والبُطءِ وغيرِ ذلك، لا يُمكنُ حصولُهُ إلاَّ بِقُدْرَةٍ كامِلَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بجَميعِ المُمْكِناتِ، وعِلْمٍ نافذٍ في جَميعِ المَعلوماتِ مِنَ الكُلِّيَّاتِ والجُزْئيَّاتِ، وهو تصريحٌ بأنَّ حُصولَ هذهِ الأَحْوالِ والصِفاتِ ليس بالطَبْعِ والخاصيَّةِ، وإنَّما بِتَخْصيصِ الفاعِلِ القادرِ المُخْتارِ ـ جَلَّ وعَلا وعَزَّ.
قولُهُ تعالى: {فَالِقُ الإصباح} هو المصدرُ والجُمهورُ على كسرِ الهمزةِ، وهو من: أصبح يُصبِحُ إصْباحاً، وقال الليثُ والزَجَّاجُ والفَرَّاءُ: إنَّ الصُبْحَ والإصَباحَ والصَباحَ واحدٌ، وهو أَوَّلُ النَهارِ. وقيل: الإِصباحُ ضوءُ الشَمْسِ بالنَهارِ وضَوْءُ القَمَرِ بالليلِ، رواهُ ابْنُ أَبي طَلْحَةَ عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهم. وقال مجاهدٌ: هو إضاءةُ الفَجْرِ. والظاهرُ أنَّ الإِصْباحَ في الأصْلِ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِه الصُبْحُ وكذا الإِمْساءُ، قالَ امْرُؤ القيسِ:
ألا أيها الليلُ الطويلُ ألا انْجَلِ ........... بصبحٍ وما الإِصباحُ منكَ بِأَمْثَلِ
وقَرَأَ الحَسَنُ وأَبو رَجاءٍ وعيسى بْنُ عُمَر: الأصباح: بفتح الهمزة وهو جمعُ صُبْحٍ نحوَ: قُفْلٍ وأَقفالٍ وبُرْدٍ وأَبرادٍ، ويُنْشَدُ قولُه:
أفنى رياحاً وبني رياحِ ......................... تناسخُ الأمساءِ والأصباح
بِفتحِ الهَمزةِ مِنَ الأَمْساءِ والأَصْباحِ على أَنَّهُما جَمْعُ مُسْي وصُبْح، وبِكسرِها على أنَّهما مَصدران. وقَرَأَ النُخَعِيُّ "فَالِقُ الإصباحَ" بنصبِ "الإصباحَ" وكَسْرِ الهَمزةِ، كأنَّهُ قال: "فالقٌ الإصباحَ"، على أنَّ "الإصباحَ" مفعولٌ بِهِ، لكنْ حُذِفَ التَنْوينُ لِسُكونِهِ وسُكونِ اللامِ بما أنَّ الهمزةَ للوصلِ. فحُذِفَ التَنْوينُ لالْتِقاءِ الساكنين كَقولِ أبي الأسود الدؤليّ:
فأَلْقَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتَب............................. ولا ذاكرَ اللهَ إلاَّ قليلا
وقرئ: {والمُقيمي الصلاةَ} الحَج: 35. و{لَذَائِقُو العذابَ} الصافات: 38. بالنَصْبِ حَمْلاً للنُونِ على التَنْوين، إلاَّ أَنَّ سِيبَوَيْهِ لا يُجيزُ حَذفَ التَنوينِ لالْتِقاءِ الساكِنَيْنِ إلاَّ في شِعْرٍ، وقدْ أَجازَهُ المُبَرِّدُ في التَوَسُّعِ. وقَرَأَ يَحيى والنُخَعِيُّ وأَبُو حَيَوَةَ: "فَلَقَ" فِعْلاً ماضِياً، وقد تَقَدَّمَ أَنَّ عَبْدَ اللهِ قَرَأَ الأُولى كذلك، وهذا أَدَّلُّ دَليلٍ على أَنَّ القِراءةَ عندَهم سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، أَلا تَرى كيف قَرَأَ عَبْدُ اللهِ "فَلَقَ الحَبَّ" فِعْلاً ماضياً، وَقَرَأَ "فالقُ الأَصباحِ"، اسمَ فاعلٍ، وقَرَأَ الثلاثةُ المَذكورون بعَكْسِهِ. ومعنى فَلَق الصُبْحَ، والظُلمَةَ هو أَنَّها تَنْفَلِقُ عنِ الصُبْحِ كما قال أبو نُواسٍ يصف الخمرةَ:
تَرَدَّتْ بِهِ ثُمَّ انْفَرَى عَنْ أدِيمِهَا ................ تَفَرِّيَ ليلٍ عَنْ بياضِ نَهارِ
فإمَّا أَنْ يُرادَ: فالقُ ظُلْمَةِ الإِصباحِ، يَعني أَنَّه على حَذْفِ مُضافٍ. وإمّا أَنْ يُرادَ فالقُ الإِصباحِ الذي هو عَمودُ الفَجْرِ عنْ بياضِ النَهارِ وإسْفارُه، وقالوا: انْشَقَّ عَمودُ الفَجْرِ وانْصَدَعَ، وسَمَّوا الفجرَ فَلَقاً بمَعنى مَفْلوقٍ، قالَ أبو تمامٍ الطائيُّ:
وأزرقُ الفجرِ يَبْدو قَبْلَ أَبْيَضِهِ ............ وَأَوَّلُ الْغَيْثِ قَطَرٌ ثُمَّ يَنْسَكِبُ
وقُرِئَ: فالقَ وجاعلَ بالنَصْبِ على المَدْحِ. وأَنشدَ غيرُه:
فانشقَّ عنها عمودُ الفَجْرِ جافلةً ... عَدْوَ النَّحوص تخافُ القانِصَ اللَّحِما
قولُهُ: {وَجَاعِلُ اللَّيلِ سَكَناً} قَرَأَ الكُوفيُّونَ: "جَعَلَ" فعلاً ماضياً، وقَرَأَ الباقون بِصيغَةِ اسْمِ الفاعِلِ، والرَّسْمُ يَحْتَمِلُهُما، و"الليل" مَنْصوبٌ عندَ الكُوفيّين، ومَجْرورٌ عندَ غيرِهم بمُقتضى قِراءةِ كلٍّ منهم، ووَجهُ قراءةِ الكوفيين لَه مُناسَبَتُهُ لما بَعدَه فإنَّ بَعدَهُ أَفعالاً ماضِيَةً نحو: {جَعَلَ لَكُمُ النجومَ} الأنعام: 97. {وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم} الأنعام: 98. إلى آخرِ الآياتِ، و"سَكَناً": إمَّا مفعولٌ ثانٍ على أَنَّ الجَعْلَ بمَعنى التَصْيِيرِ، وإمَّا حالاً على أَنَّه بمَعنى الخَلْقِ، وتَكونُ الحالُ مُقَدَّرَةً.
وأمَّا قِراءةُ غيرِهم فـ "جاعِلُ" يُحتَمَلُ أَنْ يَكونَ بمَعْنى المُضِيِّ، وهو الظاهرُ، ويُؤَيِّدُهُ قِراءةُ الكُوفِيِّين، والماضي عندَ البَصْرِيِّين لا يَعْمَلُ إلاَّ مَعَ "أل" خِلافاً لِبَعْضِهم في منَعِ إعْمالِ المُعَرَّفِ بِها، وخلافاً لِلكِسائي في إعْمالِهِ مُطْلقاً، وإذاً فـ "سَكَناً" منصوبٌ بفِعلٍ مُضْمَرٍ عندَ البَصْريّين، وعلى مُقتَضى مَذْهَبِ الكِسائي يَنْصِبُه بِه. وقد زَعَمَ أَبو سَعيدٍ السِيرافي أَنَّ اسْمَ الفاعِلِ المُتَعدِّي إلى اثْنَيْنِ يَجوزُ أَنْ يَعمَلَ في الثاني وإنْ كان ماضياً، قالَ: لأنَّه لَمَّا أُضيفَ إلى الأَوَّلِ تَعَذَّرَتْ إضافَتُهُ إلى الثاني فَتَعيَّنَ نَصْبُه لَهُ. وقالَ بعضُهم: لأنَّهُ بالإِضافةِ أَشْبَهَ المُعَرَّفَ بـ "أل" فعَمِلَ مُطلَقاً. وعلى هذا فـ "سَكَناً" مَنْصوبٌ بِه أَيضاً، وأَمَّا إذا قُلْنا إنَّه بمَعنى الحَالِ والاسْتِقْبالِ فنَصْبُهُ به. و"سَكْن" على وزنِ فَعْل بمَعنى مَفْعول كالقَبْضِ بمَعنى مَقبوضٍ.
قولُه: {والشمسَ والقَمَر حُسْبَاناً} الجُمهورُ بِنَصْبِ "الشَمْس" و"القَمَر" وهي واضحةٌ على قراءةِ الكُوفِيِّين، أَيْ: بِعَطْفِ هذيْن المَنْصوبيْن على المَنصوبَيْنِ بِـ "جَعَلَ"، وفي "حُسْباناً" الوجهان اللذان في "سَكَناً" مِنَ المَفعولِ الثاني والحالِ، وأَمَّا على قراءةِ الجَماعةِ فإنْ اعْتَقَدْنا كونَه ماضياً فلا بُدَّ مِنْ إضْمارِ فِعْلٍ يَنْصِبُهُما، أَيْ: وجَعَلَ الشَمْسَ، وإنْ قُلْنا إنَّهُ غيرُ ماضٍ فمَذْهَبُ سَيبَوَيْهِ أَيْضاً أَنَّ النَصْبَ بإضْمارِ فِعْلٍ، تَقولُ: "هذا ضاربُ زيدٍ الآنَ أوْ غَداً أوْ عَمْراً" بِنَصْبِ عَمْرٍو، وبِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ لا على مَوْضِعِ المَجْرورِ باسْمِ الفاعِلِ، وعلى رأيِ غيرِهِ يَكونُ النَّصْبُ على مَحَلِّ المَجْرورِ، ويُنْشِدونَ قولَهُ:
هل أَنْتَ باعثُ دينارٍ لِحاجَتِنا .......... أَوْ عَبْدَ رَبٍّ أَخا عَوْن بْنِ مِخْراقِ
بِنَصْبِ "عَبْد" وهو مُحْتَمِلٌ للمَذْهَبَيْنِ. وقال الزمخشري: أو يُعطَفان على مَحَلِّ "اللَّيْلِ". فإنْ قلتَ: كيفَ يَكونُ لِـ "اللَّيْلِ" مَحَلٌّ والإِضافةُ حقيقةٌ لأنَّ اسْمَ الفاعِلِ المُضافِ إليْهِ في مَعْنى المُضِيِّ ولا تقولُ: زَيْدٌ ضارِبٌ عَمْراً أَمْسِ؟ قلتُ: ما هو بمَعنى الماضي، وإنَّما هوَ دالٌّ على فعلٍ مُسْتَمِرٍّ في الأَزْمِنَةِ. وقال أبو حيَّان التوحيديّ معقِّباً عليه: أَمَّا قولُهُ إنَّما هو دالٌّ على فِعْلٍ مُسْتَمِرٍّ في الأَزْمِنَةِ، يَعْني فيَكونُ عامِلاً، ويَكونُ للمَجْرورِ إذْ ذاكَ بَعدَهُ مَوْضِعٌ فيُعْطَفُ عليْه "الشَمْسُ والقَمَرُ". وهذا ليس بصحيحٍ، إذا كان لا يَتَقَيَّدُ بِزَمَنٍ خاصٍّ، وإنَّما هو للاسْتِمْرارِ، فلا يَجُوزُ لَهْ أَنْ يَعْمَلَ، ولا لِمَجرورِهِ مَحَلٌّ، وقد نَصُّوا على ذلك وأَنشدوا عليه قولَ الحطيئةِ:
أَلْقَيْتَ كاسبهم في قَعْرِ مُظْلِمَةٍ ............ فامْنُنْ عليكَ سلامُ اللهِ يا عُمَرُ
فليْسَ الكاسِبُ هُنا مُقيَّداً بِزَمانٍ، وإذا تَقَيَّدَ بِزمانٍ: فإمَّا أَنْ يَكونَ ماضياً دون "أل" فلا يَعْمَلُ عِنْدَ البَصْريِّين، أوْ بـ "أل" أوْ حالاً أوْ مُسْتَقْبَلاً فيَعمَلُ ويُضافُ على ما أُحْكِمَ في النَّحْوِ. ثمَّ قالَ: وعلى تقديرِ تَسْليمِ أَنَّ الذي للاسْتِمْرارِ يَعْمَلُ فلا يَجوزُ العَطْفُ على مَحَلِّ مَجْرورِهِ، بلْ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ في الذي بمَعنى الحالِ والاسْتِقْبالِ أَنْ لا يَجوزَ العَطْفُ على مَحَلِّ مَجْرورِهِ، بِلِ النَّصْبُ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، لو قلتَ: هذا ضاربُ زيدٍ وعَمْراً لم يَكُنْ نَصْبُ "عَمْراً" على المَحَلِّ على الصحيحِ وهو مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ؛ لأنَّ شَرْطَ العَطْفِ على المَوْضِعِ مَفْقودٌ، وهوَ أَنْ يَكونَ للمَوْضِعِ مُحْرِزٌ لا يَتَغَيَّرُ،
وهذا مُوَضَّحٌ في عِلْمِ النَّحْوِ.
وقد ذَكرَ الزمخشريُّ في أَوَّلِ الفاتحةِ في {مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} الفاتحة: 4. أَنَّه لَمَّا لَمْ يُقْصَدْ بِه زَمانٌ صارتْ إضافَتُهُ مَحْضَةً فلِذلك وَقَعَ صِفَةً للمَعارِفِ، فمِنْ لازِمِ قولِهِ إنَّهُ يَتَعَرَّفُ بالإِضافَةِ أَنْ لا يَعْمَلَ، لأنَّ العامِلَ في نِيَّةِ الانْفِصالِ عَنْ الإِضافَةِ، ومَتى كان في نِيَّةِ الانْفِصالِ كان نَكِرَةً، ومتى كان نَكِرَةً فلا يَقَعُ صِفَةً للمَعْرِفَةِ. وهذا حَسَنٌ حيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِ
ـ سبحانَه ـ بِقَوْلِهِ، وقدْ تَقَدَّمَ تَحقيقُه في هناك.
وقرأ أَبو حَيَوَةَ: {وَالشَّمْسِ والقَمَرِ} جَرّاً نَسَقاً على اللفْظِ. وقُرِئَ شاذّاً {والشَّمْسُ والقَمَرُ} رَفْعاً على الابْتِداءِ، وكانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقْرَأَ "حُسْبانٌ" رَفعاً على الخَبَرِ، وإنَّما قَرَأَهْ نَصْباً، فالخَبَرُ حِينَئذٍ مَحذوفٌ تَقديرُهُ: مَجْعولانِ حُسْباناً، أوْ مخلوقان حُسْباناً. فإنْ قُلتَ: لا يُمْكِنُ في هذِهِ القراءةِ رَفْعُ "حسبان" حتّى نُلْزِمَ القارِئ بذلك؛ لأنَّ الشَّمْسَ والقَمَرَ ليْسا نَفْسَ الحُسْبانِ. فالجَوابُ: أَنَّهُما في قِراءةِ النَّصْبِ: إمَّا مَفْعولانِ أوَّلانِ و"حسْباناً" مفعولٌ ثانٍ، وإمَّا صاحِبا حالٍ و"حُسباناً" حالٌ، والمَفْعولُ الثاني هو الأَوَّلُ، والحالُ لا بُدَّ وأَنْ تَكونَ صادِقَةً على ذِي الحالِ، فمَهْما كانَ الجَوابُ لَكم كانَ لَنا والجَوابُ ظاهرٌ مِمَّا تَقَدَّمَ.
والحُسْبانُ: إمّا أَنَّهُ جَمْعٌ، فقيل: هو جَمْعُ حِسابٍ كَرِكابٍ ورُكْبانٍ وشِهابٍ وشُهْبانٍ، وهو قولُ أَبي عُبَيْدٍ والأخفشِ وأَبي الهَيْثَمِ والمُبَرِّدِ. وقالَ أَبو البَقاءِ: "هو جَمْعُ حُسْبانَةٍ". وهوَ غَلَطٌ؛ لأنَّ الحُسْبانَةَ هي القِطْعَةُ مِنَ النَّارِ، ولَيْسَ المُرادُ ذلك قَطْعاً. وقيلَ: بلْ هوَ مَصْدَرٌ كالرُّجْحانِ والنُّقْصانِ والخُسْران، وأَمَّا الحِسابُ فهو اسْمٌ لا مَصْدَرٌ، وهذا قولُ ابْنِ السكِّيتِ. وقالَ الزَمَخْشَرِيُّ: والحُسْبانُ بالضَمِّ مَصْدَرُ حَسَبْتُ يَعني بالفَتْحِ كما أَنَّ الحِسبانَ بالكَسْرِ يَعني مَصْدَرُ حَسِبْتُ بالكَسْرِ، ونَظيرُهُ الكُفْرانُ والشُّكْران. وقيلَ: بَلْ الحُسْبانُ والحِسابُ مَصْدرانِ وهُوَ قَوْلُ أَحمدٍ بْنِ يَحيى. وأَنْشَدَ أَبو عُبَيْدٍ عَنْ أَبي زَيْدٍ في مَجيءِ الحُسبانِ مَصْدَراً قولُ قيسٍ
بْنِ الخَطيمِ:
على اللهِ حُسْباني إذا النفسُ أشرفَتْ ... على طَمَعٍ أَو ْخافَ شَيْئاً ضَميرُها
وانْتِصابُ "حُسْباناً" على ما تَقَدَّمَ مِنَ المَفْعولِيَّةِ أَوْ الحاليَّةِ. وقالَ ثَعلب عَنِ الأَخْفَشِ: إنَّهُ مَنْصوبٌ على إسْقاطِ الخافِضِ، والتَقديرُ: يَجْريان بِحُسْبانٍ كَقولِهِ: {لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} أيْ: مِنْ طِينٍ.
وقولُهُ: {ذلك} إشارةً إلى ما تَقَدَّمَ مِنَ الفَلْقِ أَوِ الجَعْلِ أوْ جَميعِ ما تقدَّم مِنَ الأَخْبارِ في قولِهِ: "فالق الحَبِّ" إلى "حُسْباناً".