وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ.
(72)
قولُهُ جلَّ مِنْ قائلٍ: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ} أَمَرَنا سبحانَه أنْ نُقيمَ الصلاةَ، وكان الأمرُ بإقامتها بقولِهِ تعالى، لا قولِ النَّبيِّ، صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ، لمكانَةِ الصَلاةِ في الدِّينِ، فإنَّه لا دِينَ مِنْ غيرِ صلاةٍ، فهي عمودُهُ، وهي لُبُّهُ، وهي مَظْهَرُهُ ودَلالَتُه، والوَحْدانيَّةُ أَظْهَرُ ما تَكونُ في الصَلاةِ فهي عِبادةُ اللهِ وحدَهُ لا شَريكَ بِهِ شيئاً فيها، إلاَّ أَنْ يُرائي، فهذِهِ ليستْ صَلاةٌ.
وطَلَبَ اللهُ تعالى مِنَ المُؤمِنِ إقامَةِ الصَلاةِ بأنْ يَأْتِيَ بها مَقُومَةً كامِلَةً في أَرْكانها الظاهرةِ، ومَعانيها مِنْ خُشوعٍ وخُضُوعٍ، يَتَحَقَّقُ فيها قولُهُ تَعالى: {إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكبَرُ} العنكبوت: 45. وأَوْرَدَ، سبحانَهُ وتَعالى، إقامةَ الصَّلاةِ بالأَمْرِ بالتَقْوى فقالَ تَعالى: "وَاتَّقُوهُ" أيْ اجْعَلوا بينَكم وبينَ اللهِ تعالى وِقايةً منْ غضَبِهِ بإطاعَتِهِ فيما أَمَرَ به ونهى عنه، وأَنْ يَذْكُرَهُ في سِرِّهِ وعَلانِيَتِهِ، ويملأَ قلبَهُ بِخَشْيَتِهِ، ودوامِ مراقبتِهِ، والمُداومَةُ على ذِكْرِهِ تَعالى تُورِثُ في النَّفسِ التَّقْوى.
قولُهُ: {وَهُوَ الًّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أيْ وآمِنوا بأنَّكم ستُحْشرون إليْه، ويَتَضَمَّنُ الحشرُ ثلاثَ حقائقَ يجبُ الإيمانُ بها:
الحقيقة الأُولى: البَعثُ وأَنَّ النَّاسَ سيجتمعون بينَ يَديْه سُبْحانَهُ وتعالى، والإيمانُ بالبَعثِ هو سِرُّ الإيمانِ، وهو عُلُوٌّ بالنَّفْسِ الإنْسانيَّةِ إلى المَرْتَبَةِ السامِيَةِ فَلا يَكونُ كَمَنْ يَقولُ: {إِنْ هِي إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعوثينَ}، المؤمنون: 37. بلْ يَعْلُو بإنْسانيَّتِهِ فيَفعلُ الخيرَ، رجاءَ الجَزاءِ منْه تَبارَكَ وتعالى.
الحقيقة الثانية: أنَّ الملكَ للهِ وحدَه، وأَنَّه سبحانه في هذا اليومِ هو الحَكَمُ وحْدَهُ، فهو مالِكُ يومِ الدّينِ، وقدْ دَلَّ على ذلك بقولِهِ: "إِلَيْهِ تُحْشرونَ" وتقديم "إليه" على الفِعْلِ يفيد حصر الحشرِ به وحدَه، فالمَصيرُ إليهِ سبحانَهُ تعالى.
الحقيقة الثالثة: الحسابُ والعِقابُ والثَّوابُ نهايةُ الحَشرِ فتُجْزَى كُلُّ نفسٍ ما كَسَبَتْ.
قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِيمُواْ} هذه الجملةُ في محلِّ نَصبٍ بالقولِ نَسَقاً على قولِه: {إنَّ هُدَى اللهِ هوَ الهُدى} الأنعام: 71. أيْ: قلْ هذيْن الشيئين. أو هي نَسَقٌ على {لِنُسْلِمَ} الآيةِ السابقة، والتَقديرُ: وأُمِرْنا بِكذا للإِسْلامِ ولِنُقيمَ الصَلاةَ، و"أن" تُوصِلُ بالأَمْرِ كقولِهم: "كتبت إليه بأن قُمْ" حكاهُ سِيبويْهِ وهذا رأي الزجاج، أو هو نَسَقٌ على "ائْتِنا" قالَ مَكِّي: لأنَّ معناهُ أَنْ ائْتِنا" وهذا ليس بظاهرٍ. وقالَ ابْنُ عَطيَّةَ هو معطوفٌ على مفعولِ الأَمْرِ المُقَدَّرِ والتَقْديرُ: وأُمِرْنا بالإِيمانِ وبإقامَةِ الصَلاةِ. قال الشيخُ أبو حيان التوحيدي: وهذا لا بأسَ بِهِ إذْ لا بُدَّ مِنَ تَقديرِ مفعولٍ ثانٍ ل "أُمِرْنا" ويجوزُ حَذْفُ المَعطوفِ عليْه لِفَهْمِ المَعنى، تقول: أَضَرَبْتَ زَيْداً؟ فيُجيبُ: نَعَمْ وعَمْراً، والتقدير: ضربتُهُ وعَمْراً. وقدْ أَجازَ الفَرَّاءُ: "جاءني الذي وزيدٌ قائمان" والتقديرُ: الذي هو وزيدٌ قائمان، فحَذَفَ "هو" لِدَلالَةِ المعنى عليْه. وهذا الذي قال إنَّه لا بأسَ بِهِ ليسَ مِنْ أُصُولِ البَصْرِيِّين. وأَمَّا "نَعَمْ وعَمْراً" فلا دَلالَةَ فيهِ لأنَّ "نَعَمْ" قامَتْ مقامَ الجملة المحذوفةِ. وقال مكي قريباً مِنْ هذا القولِ إلاَّ أَنَّه لم يُصَرِّحْ بحذفِ المَعطوفِ عليْهِ فإنَّهُ قالَ: و"أنْ" في مَوْضِعِ نَصْبٍ بحذفِ الجارِّ تقديرُه: "وبأَنْ أَقيموا" فقولُه: وبأنْ أَقيموا هو مَعْنى قولِ ابْنِ عَطِيَّةَ، إلاَّ أنَّ ذاك أوْضَحَهُ بحذْفِ المَعطوفِ عليْهِ.
وقال الزَمخشريُّ: فإنْ قلتَ: عَلامَ عُطِفَ قولَه: {وَأَنْ أَقِيمُواْ}؟ قلتُ: على مَوْضِعِ {لِنُسْلِمَ} كأنَّه قيلَ: وأُمِرْنا أنْ نُسْلِمَ وأَنْ أَقيموا. قالَ الشيخ أبو حيّان: وظاهرٌ هذا التَقديرُ أَنَّ {لِنُسْلِمَ} في مَوْضِعِ المَفْعولِ الثاني ل {أُمِرْنا} وعُطِفَ عليه "وأَنْ أقيموا" فتكونَ اللامُ على هذا زائدةً، وكان قد قدَّمَ قبلَ هذا أنَّ اللامَ تعليلٌ للأمرِ فتَناقَضَ كلامُهُ، لأنَّ ما يَكونُ عِلَّةً يَسْتَحيلُ أنْ يَكونَ مَفعولاً، ويَدُلُّ على أنَّهُ أَرادَ بقولِهِ: أَنْ نُسلَمَ في مَوْضِعِ المفعولِ الثاني قولُهُ بعد ذلك، ويجوزُ أنْ يَكونَ التَقديرُ: وأُمِرْنا لأنْ نُسْلِمَ ولأنَّ أَقيموا أيْ للإِسلامِ ولإِقامةِ الصلاةِ، وهذا قولُ الزَجَّاجِ، فلو لم يَكنْ هذا القولُ مُغايِراً لِقولِهِ الأَوَّلِ لاتَّحَدَ قولاهُ وذلك خُلْفٌ. وقالَ الزجَّاجُ: "أَنْ أَقيموا" عطفٌ على قولِهِ: {لِنُسْلِمَ} تقديرُه: وأُمِرْنا لأنْ نُسْلِمَ، وأَنْ أَقيموا. قالَ ابْنُ عَطيَّةَ: واللَّفظُ يمانِعُهُ لأنَّ {نُسْلِمَ} مُعْرَبٌ و"أقيموا" مَبْني وعَطْفُ المبنيِّ على المُعرَبِ لا يجوزُ؛ لأنَّ العطفَ يَقتَضي التَشريكَ في العامل.
قال الشيخ أبو حيّان: وما ذُكِرَ مِنْ أَنَّه لا يُعْطَفُ المَبنيُّ على المُعرَبِ ليسَ كما ذَكَرَ، بَلْ يجوزُ ذلك نحو: "قام زيدٌ وهذا" وقالَ تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النارَ} هود: 98، وغايةُ ما في البابِ أَنَّ العَمَلَ يؤثَِّرُ في المُعرَبِ ولا يُؤثِّرُ في المَبْنيّ، وتقولُ: "إنْ قامَ زيدٌ ويَقصُدْني أُكْرِمْهُ" ف "إنْ" لم تُؤَثِّرْ في "قام" لأنَّهُ مَبْنيٌّ وأثَّرَتْ في "يَقصِدْني" لأنِّهُ مُعْرَبٌ. ثمَّ قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: اللَّهمَّ إلاَّ أَنْ تَجعَلَ العَطْفَ في "إنْ" وحدَها، وذلك قَلِقٌ، وإنَّما يَتَخَرَّجُ على أنْ يُقَدَّرَ قولُهُ: "وأن أقيموا" بمعنى "ولْنُقِمْ" ثمَّ خُرِّجَتْ بِلَفْظِ الأمرِ لما في ذلكَ من جَزالةِ اللَّفظِ، فجازَ العَطْفُ على أنْ يُلغى حُكْمُ اللفْظِ ويُعَوَّلَ على المعنى، ويُشْبِهُ هذا مِنْ جِهَةٍ ماحَكاه يُونُسُ عنِ العَرَبِ: "ادْخُلوا الأوَّلُ فالأَوَّلُ" وإلاَّ فلا يجوزُ إلاَّ: الأوَّلَ فالأوَّلَ بالنَّصْبِ"
قال الشيخُ: "وهذا الذي استدركَه بقولِهِ "اللَّهُمَّ إلاَّ" إلى آخرِهِ هو الذي أَرادَه الزَجَّاجُ بِعَيْنِهِ، وهو أَنَّ "أَنْ أقيموا" مَعطوفٌ على {أنْ نُسْلِمَ} وأنَّ كِلَيْهِما عِلَّةٌ للمَأْمورِ بِهِ المحذوفِ؛ وإنَّما قَلِقٌ عندَ ابْنِ عَطيَّةَ لأنَّه أَرادَ بقاءَ "أن أقيموا" على معناها مِنْ مَوضوعِ الأَمْرِ وليسَ كذلك، لأنَّ "أَنْ" إذا دَخَلَتْ على فِعْلِ الأَمْرِ وكانتْ المَصْدَريَّةَ انْسَبَكَ مِنْها ومِنَ الأمرِ مصدرٌ، وإذا انْسَبَكَ منهما مصدرٌ زَالَ معنى الأمرِ، وقدْ أَجازَ النَّحْويُّون سِيبوبْهِ وغيرُهُ أنْ تُوْصَلَ أَنْ المصدريَّةُ الناصبةُ للمُضارعِ بالماضي والأمْرِ. قالَ سيبويْهِ: "وتقولُ: كَتبتُ إليْهِ بأَنْ قُمْ، أيْ بالقيامِ" فإذا كانَ الحُكمُ كذا كان قولُه: {لِنُسْلِمَ} و"أَنْ أقيموا" في تقديرِ: للإِسلامِ ولإِقامةِ الصلاةِ، وأَمَّا تَشبيهُ ابْنِ عَطِيَّةَ لَهُ بِقولِهِ: "ادْخُلوا الأَوَّلُ فالأولُ "بالرَّفْعِ فليس بِشبيهٍ لأنَّ "ادخلوا" لا يمكنُ لو أُزيلَ عنْه الضَميرُ أنْ يَتَسَلَّطَ على ما بعدَه بخِلافِ "أَنْ" فإنَّها تُوصِلُ بالأَمْرِ فإذاً لا شَبَهَ بينَهُما".
أَمَّا قولُ الشيخِ "وإنَّما قَلِقَ عندَ ابْنِ عَطِيَّةَ لأنَّه أَرادَ بقاءَ "أَنْ أقيموا" على معناها مِنْ مَوضوعِ الأَمْرِ، فليسَ القَلَقُ عندَهُ لِذلكَ فقط، كما حَصَرَهُ الشيخُ، بَلْ لأمرٍ آخَرَ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وهو أَنَّ السِّياقَ التَرْكيبيَّ يَقتَضي على ما قالَهُ الزَجَّاجُ أَنْ يَكونَ {لِنسلم} وأنْ نُقيمَ، فتَأتي في الفِعْلِ الثاني بِضميرٍ، فلمَّا لمْ يَقُلْ ذلكَ قَلِقَ عِنْدَهُ، ويَدلُّ على ما ذكرتُهُ قولُ ابْنِ عَطِيَّةَ" بمعنى ولْنُقِمْ، ثمَّ خَرَجَت بلفظِ الأمْرِ" إلى آخرِهِ. وأخيراً هو محمولٌ على المَعنى، إذِ المَعنى: قيلَ لَنا: أَسْلِموا وأَنْ أَقيموا.