قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ
(57)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أمرٌ آخَرُ مِنَ اللهِ تعالى لرسولِه صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ بأنْ يُواجِهَ الكُفَّارَ والمُعانِدين لَه والمُنْكِرين لرسالتِه والذين يطلبون منه إبعاد الفقراء والضعفاء عن مجلسِه، بأنَّ كلَّ ما يأتي بِه عليه الصلاةُ والسلامُ وما يَدَعُ، إنما هُو مِنْ عندِ اللهِ وبأمره، وليسَ مِنْ عندِ نفسِهِ أو على هواهُ، فليسَ مخيَّراً بأنْ يَقْبَلَ أوْ يَرْفُضَ، ولا أن يَفعلَ ما يُريدُ بحسب ما يَراهُ وما تهواهُ نفسُه، بلْ هو رسولُ اللهِ، يُبَيِّنُ لَهُ ربُّه الذي أرسَلَهُ كلَّ شيءٍ ويوضِّحُ له الأمورَ، ويأمرُهُ بما يَقولُ وما يَفعلُ: {وما يَنْطِقُ عنِ الهَوى * إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} سورة النجم، الآيتان: 3و4. وهذا كلُّهُ واضِحٌ مُبَيَّنٌ مِنَ الحَقِّ جلَّ وعلا لا لَبْسَ فيهِ ولا غُمُوض، فالبيِّنةُ هي الدَلالَةُ وَيَقِينُ وَالحُجَّةٍ وَالبُرْهَانِ، وهي القرآنُ الكريمُ الذي يَنزِل على قلبِه الشريفِ بَياناً لكلِّ شيءٍ وتِبياناً، وَمِنْهُ الْبَيِّنَةُ لأَنَّهَا تُبَيِّنُ الْحَقَّ وَتُظْهِرُهُ، وتَكْشِفُ الباطلَ وتُبْعِدُهُ، فهو صلى اللهُ عليه وسَلَّمَ على بصيرةِ من ربِّه وثقةٍ به. وهذا تحقيقٌ للحَقِّ الذي هو عليْه إثْرَ إبطالِ الباطِلِ الذي هُمْ عليه.
قولُهُ: {وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} أَيْ بِالْبَيِّنَةِ لأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْبَيَانِ، كَمَا قَالَ: "وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ" النساء: 8. فتذكيرُ الضميرِ هُنا باعْتِبارِ المعنى عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ هُنَاكَ. أو أنَّ الضميرَ يَعودُ على القرآنِ الذي هو البَيِّنَةُ الواضِحةُ والحَجَّةُ الدّامِغَةُ، وَقِيلَ يَعُودُ الضميرُ عَلَى الرَّبِّ سبحانَه، أَيْ كَذَّبْتُمْ بِرَبِّي لأَنَّهُ جَرَى ذِكْرُهُ. وَقِيلَ: كذَّبتم بِالْعَذَابِ.
وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الآيَةِ وَالَّتِي قَبْلَهَا مَا أَنْشَدَهُ مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما لِنَفْسِهِ، وَكَانَ شَاعِرًا مُحْسِناً:
أأقعُدُ بعدَ ما رَجَفَتْ عِظَامِي ............... وَكَانَ الْمَوْتُ أَقْرَبَ مَا يَلِينِي
أُجَادِلُ كُلَّ مُعْتَرِضٍ خَصِيمٍ ................... وَأَجْعَلُ دِينَهُ غَرَضًا لِدِينِي
فَأَتْرُكُ مَا عَلِمْتُ لِرَأْيِ غَيْرِي ................ وَلَيْسَ الرَّأْيُ كَالْعِلْمِ الْيَقِينِ
وَمَا أَنَا وَالْخُصُومَةُ وَهِيَ شَيْءٌ ........... يُصَرَّفُ فِي الشَّمَالِ وَفِي الْيَمِينِ
وَقَدْ سُنَّتْ لَنَا سُنَنٌ قِوَامُ ....................... يَلُحْنَ بِكُلِّ فَجٍّ أو وجين
وَكَانَ الْحَقُّ لَيْسَ بِهِ خَفَاءٌ ........................ أَغَرَّ كَغُرَّةِ الفلق المبين
وَمَا عِوَضٌ لَنَا مِنْهَاجُ جَهْمٍ ...................... بِمِنْهَاجِ ابْنِ آمِنَةَ الْأَمِينِ
فَأَمَّا مَا عَلِمْتُ فَقَدْ كَفَانِي ..................... وَأَمَّا مَا جَهِلْتُ فَجَنِّبُونِي
الوجينُ: هو شطُّ الوادي.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} أَيِ ما تستعجلونه من الْعَذَابُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا لِفَرْطِ تَكْذِيبِهِمْ يَسْتَعْجِلُونَ نُزُولَهُ اسْتِهْزَاءً وتحدياً، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: {أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً} الإسراء: 92. وكقولِهم: {اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ} الأنفال: 32. وَقِيلَ: مَا عِنْدِي مِنَ الآيَاتِ الَّتِي تَقْتَرِحُونَهَا. وقيل كانوا يَسْتَعْجِلون قيامَ الساعةِ، فقالَ تعالى: {يَسْتَعْجِلُ بها الذين لا يؤمنون بها} الشورى، الآية: 18. وقوله: {ويقولون مَتى هَذا الوَعْدُ إنْ كُنْتُمْ صادقين} يونس، الآية: 48، وغيرها.
قولُه: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ) أَيْ مَا الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ فِي تَأْخِيرِ الْعَذَابِ وَتَعْجِيلِهِ أو نزول الآياتِ التي تطلبون. وَقِيلَ: الْحُكْمُ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ للهِ.
قولُه: {يَقُصُّ الْحَقَّ} أَيْ يَقُصُّ الْقَصَصَ الْحَقَّ، وَبِهِ اسْتَدَلَّ مَنْ مَنَعَ الْمَجَازَ فِي الْقُرْآنِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: قَالَ اللهُ عَزَّ وجلَّ: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} يوسف: 3. أوَ "يقصُّ الحقَّ" يَقْضِ الْحَقَّ" بِالضَّادِ الْمُعْجَمَةِ،
قولُه: {وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ} لا يَكُونُ الْفَصْلُ إِلاَّ قَضَاءً دُونَ قَصَصٍ، وَيُقَوِّي ذَلِكَ قَوْلُهُ قَبْلَهُ: "إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ" فَدُخُولُ الْبَاءِ يُؤَكِّدُ مَعْنَى الْقَضَاءِ. قَالَ النَّحَّاسُ: هَذَا لا يَلْزَمُ، لأَنَّ مَعْنَى "يَقْضِي" يَأْتِي وَيَصْنَعُ فَالْمَعْنَى: يَأْتِي الْحَقَّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: يَقْضِي الْقَضَاءَ الْحَقَّ.
قوله تعالى: {وَكَذَّبْتُم بِهِ} جملةٌ مُستأنَفَةٌ سيقتْ للإِخبارِ بذلك. أو هي في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ. والهاءُ في "به" تعودُ على "ربي" أو على القرآن أو على "بَيِّنَة" فالتاءُ هنا هي للمُبالغة، والمعنى: على أمرٍ بَيِّنٍ مِنْ ربي.
وقولُه: {من ربي} في محلِّ جَرٍّ صفةً ل "بَيِّنَةٍ"
قوله: {يَقُصُّ الحقَّ} قرأ نافعٌ وابْنُ كثيرٍ وعاصمٌ: "يَقُصُّ" بصادٍ مُهمَلَةٍ مُشدَّدةٍ مَرْفوعةٍ، وهي قراءة ابْنِ عَبَّاسٍ، وقرأ الباقون بضادٍ مُعْجَمَةٍ مُخَفَّفَةٍ مَكسورةٍ، وهاتان في المتواتِرِ. وقرأَ عبدُ اللهِ وأُبَيٌّ ويحيى بْنُ وثَّابٍ والنُخَعِيُّ والأَعْمَشُ وطَلحَةُ: "يقضي بالحق" من القضاء. وقرأ سعيدُ بْنُ جُبيرٍ ومجاهدٌ: "يقضي بالحقِّ وهو خير القاضين" فأمَّا قراءةُ "يقضي" فمِنَ القضاءِ. ويُؤيِّدُه قولُه بعد ذلك: "وهو خير الفاصلين" فإنَّ الفصلَ يُناسبُ القضاءَ، ولم يُرْسَم إلاَّ بضادٍ، كأنَّ الباءَ حُذِفَتْ خَطَّاً كما حذفتْ لَفظاً لالتقاءِ الساكنيْن، كما حذفت من نحوِ: {فَمَا تُغْنِ النُذُرُ} القمر: 5، وكما حُذِفَتْ الواو في: {سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ} العلق: 18. و{يَمْحُ اللهُ الباطلَ} الشورى: 24. لما تقدَّمَ. و"الحقَّ" منصوبٌ على أنَّه صِفةٌ لمَصدرٍ محذوفٍ أي: يَقضي القضاءَ الحقَّ. أو لأنَّه ضَمَّنَ "يقضي" معنى يُنْفِذُ، فلِذلك عَدَّاهُ إلى المفْعولِ بِهِ، أو أنَّ "قضى" هنا بمعنى صَنَعَ فيَتَعَدَّى بنفسِهِ مِنْ غيرِ تَضمينٍ، كما في قول أبي ذؤيبٍ الهُذلي:
وعليهما مَسْرُودتان قضاهُما ................. داودُ أو صَنَعُ السَّوابِغِ تُبَّعُ
أي: صَنَعَهما. أو هو على إسقاطِ حَرْفِ الجَرِّ أي: يقضي بالحقِّ، فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجرِّ "ب" انتصَبَ مجرورُه على حَدِّ قوله:
تمرُّون الدِّيار فلم تَعْوجوا ...................... كلامُكُمُ عليَّ إذنْ حَرَامُ
ويؤيد ذلك: القراءةُ بهذا الأصل.
وأما قراءة "يَقُصُّ" فمِنْ "قَصَّ الحديث" أوْ مِنْ "قصَّ الأثر" أي: تَتَبَّعَه. ورجَّحَّ أَبو عَمْرٍو بْنُ العَلاءِ القِراءةَ الأُولى بقولِه: "الفاصِلِين"، وحُكي عنه أنَّه قال: أهو يَقُصُّ الحقَّ أو يقضي الحقَّ أو يقضي بالحق" فقالوا: "يقصُّ" فقال: لو كان "يَقُصُّ" لقالَ: وهو خيرُ القاصِّين. أَقَرَأَ أَحَدٌ بهذا؟ وحيثُ قال: "وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين" فالفَصْلُ إنَّما يَكونُ في القَضاءِ. وكأنَّ أبَا عَمْرٍو لم يَبْلُغْهُ "وهو خيرُ القاصِّينَ" قراءَةً. وقد أَجَابَ أَبو عَلِيٍّ الفارسِيُّ عمَّا ذَكَرَهُ ابْنُ العَلاءِ فقال: القَصُّ هُنا بمعنى القَوْلُ، وقد جاءَ الفصلُ في القولِ أَيْضاً، قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} طارق: 13. وقال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} هود: 1. وقال تعالى: {وَنُفَصِّلُ الآيات} التوبة: 11. فقد حملَ الفَصْلَ على القولِ، واستُعمِلَ مَعَهُ كما جاءَ مَعَ القَضاءِ فلا يَلْزَمُ من "الفاصلين" أنْ يَكونَ مُعَيِّناً لِيَقضي.