وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. (37)
قولُه ـ تعالى جّدُّه: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} أي قال رؤساءُ قريشٍ ـ كما قد أسلفنا ـ الذين بلغ بهم الجهلُ والضلالُ إلى حيثُ لم يَقنَعوا بما شاهدوهُ مِنْ معجزات أيدَ الله بها رسولَه ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ وهي كثيرة كانشقاق القمر والإسراء والمعراج وغير ذلك من الآياتِ التي تَخِرُّ لها صُمُّ الجِبالِ وتجعلُ الحجَرَ يَعْقِلُ ويُصدِّقُ ويَفْهَمُ عنْ ربِّه ـ سبحانه وتعالى ـ ومع ذلك فلم يَعْتَدُّوا بِها ولم تَنَلْ من غوايتهم واستكبارهم عن الحقِّ، فقالوا: "لولا أُنْزِلَ عليه آيَةٌ مّن رَّبّهِ" أي آيةٌ مُلْجِئَةٌ لِلإيمانَ.
قولُه: {قُلْ إِنَّ الله قَادِرٌ على أَن يُنَزّلٍ آيَةً ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} الخطاب للرسول ـ عليه الصلاة والسلامُ ـ أي قل يا محمَّدُ إنَّ اللهَ قادرٌ على أنْ يُنزِلَ هذه الآيةَ التي يطلبون مِنَ الآيات المُلْجِئةَ "ولكنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} حكمةَ اللهِ فيما يَفعلُ وفيما لا يَفعلُ، ولا يَدْرونَ أنَّ عَدَمَ تَنْزيلِها مَعَ ظُهورِ قُدْرَتِهِ ـ سبحانَه ـ على ذلك، لأنَّ في تَنْزيل هكذا آيةٍ، مخالفةً لأساسِ التَكليفِ المَبْنِيِّ عَلى قاعِدَةِ الاخْتِيارِ لا الإجبارِ، حتى تظهرَ مزيَّةُ الإيمانِ بالغيب والتي سيكون الحساب على أساسها فجنَّةٌ وثوابٌ، أو جهنّمٌ وعذابٌ، أوْ ستكون اسْتِئْصالًا لَهُمْ بالكُلِّيَّةِ، وذلك مِنْ لَوازِمِ جَحْدِ الآيةِ المُلْجِئّةِ، فلا يكون بعدها ما رجاهُ رسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ حين لم يوافقَ على عَرْضِ جبريلَ ـ عليه السَّلامُ بأنَ يأمُرَ الملَكَ المُوكَلِ بالجبالِ فيطبق عليهم الأخشبين أيْ الجبلين المحيطين بهم قائلًا: ((لعلَّ اللهَ يخرجُ من أصلابهم من يقولُ لا إله إلا اللهُ)) وذلك عندما خذَّلَه بَنو ثقيفٍ وكذَّبوه وسلَّطوا عليه صِبْيانَهم وسُفهاءهم، فرَمَوْهُ بالحِجَارَةِ حتَّى سالَ الدَمُ مِنْ كَعْبَيْهِ الشَريفَيْنِ ـ صلى اللهُ عليْه وعلى آلِه وصَحْبِه وسَلَّمَ ـ لقد وصل بهم الضلالُ والاسْتِكْبارُ إلى أن يتخلّوا عما عرفوا به مِنْ كريمِ الخصالِ، وحَميدِ العاداتِ، فقد عُرفَ العربُ ـ دونَ غيرِهم مِنْ أمَمِ الأَرْضِ ـ بإكْرامِ الضَيْفِ وإغاثةِ المَلْهوفِ، والدِفاعِ عمَّنْ الْتَجَأَ إليهم واستغاثَ بِهمْ طالِبًا نُصرتَهم مهما كَلَّفهم ذلك، وقد كان ما رَجاهُ رَسُولُ اللهِ من ربِّه وما توقَّعَه، فقد أَخرًجَ اللهُ مِنْ أَصْلابِ هؤلاءِ الكَفَرَةِ العُتاةِ عنْ أَمْرِ ربِّهم، مَنْ آمِنَ به وبرسالتِه، ودانَ بدينِهِ، وحمَلَ مَبادئِ هذا الدين الحنيف إلى أصقاعِ المعمورةِ كافَّةً، فانْتَشرَ على أيديهم ـ في سنين معدودةٍ ـ نُورُ الرسالةِ، وأحيا اللهُ بِهم قُلوبَ أَجْيالٍ وأجيالٍ مِنْ خلقِه لا يَعلَمَها إلَّا هو، ولا يُحصي عددَها غيرُه ـ سبحانَه وتعالى ـ وهذه معجزةٌ أُخرى تُضافُ إلى مُعجزاتِه ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ بِما أَطْلَعَهُ اللهُ عليْه مِنْ عِلْمِ الغيْبِ الذي لا يعلمُه إلَّا الله.
وجُوِّزَ أنْ لا يَكونوا قدْ طَلَبُوا المُلْجِئ إلى الإيمان مِنَ الآياتِ، بَلْ طلَبُوا المزيد من الآيات غيرِ المُلْجِئةِ لِجاجًا وعِنَادًا وتعجيزًا، ويَكونُ الجَوابُ منه ـ سُبْحانَه ـ بذِكْرِ المُلجئِ حِينَئِذٍ مِنْ أُسْلوبِ الحَكيمِ، أَوْ يَكونُ جوابًا بِما يَسْتَلْزِمُ مطلوبَهم بِطريقٍ ذكرِ الأقوى وهو أَبْلَغُ.
قولُه ـ تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} لَوْلا: ها هنا
تَحضيضيَّةٌ بمعنى هَلّا. قالَ الفرزدقُ يَفتَخِرُ في بكرمِ أَبيهِ غالِبٍ وعَقْرِهِ مِئةَ ناقَةٍ في مُعاقَرَةِ سُحَيْمٍ بْنِ وثيلٍ الرِّياحيِّ في مَوْضِعٍ يُقالُ لَهُ (صوأر) على مسيرة يومٍ مِن َالكوفة:
تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيْبِ أَفْضَلَ مَجْدِكُمْ ...... بَنِي ضَوْطَرَى لولا الكميَّ المُقَنَّعا
بنو ضَوطَرى تُقالُ للقومِ إذا كانوا لا يُغْنونَ غَناءً، وتعقَّبهُ جَريرٌ فقال:
وقد سَرَّني أَلَّا تَعُدُّ مُجَاشِعٌ .............. مِنَ المَجْدِ إلَّا عَقْرَ نِيبٍ بِصَوْأَر
نِيبٌ: جمعُ نابٍ، وهي الناقةُ الهَرِمَةُ، ويقالُ لها أيضًا "الشارِفُ".
وقولُه: {مِن رَّبِّهِ} من: حرفُ لابتداء الغاية. والجارُّ والمجرورُّ إمّا متعلِّقان بـ "نُزِّل"، أوْ بمحذوفٍ لأنَّها صِفةٌ لـ "آية" أيْ: آيةٌ كائنةٌ مِن رَّبِّهِ.