قالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} كلامٌ مستأنَفٌ خَتْمًا لحكايَةِ ما يقَعُ يَوْمَ القيامةِ حيثُ يَجمَعُ اللهُ المرسلين ـ عليهم أفضلُ الصلاةِ وأكملُ والتسليم ـ فيسألهم عما فعلوا فيما كلّفهم تبليغَه لِعباده ونَتيجَةِ ذلك ومآلِه. فـ "هذا" أيْ اليومُ الحاضرُ "يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين" في الأُمورِ المَطلوبةِ منهم التي أوَّلُها التوحيدُ له ـ سبحانه ـ والشرائعُ والأَحكامُ المُتعلِّقَةُ بِه، وبِه تحصُل الشهادةُ بصدقِ عيسى ـ عليه السَلامُ ـ ومِنَ الأُمَمِ المُصدِّقين لأُولِئكَ النبيينَ الكِرامِ ـ صلواةُ اللهِ وسلامُه عليهم أجمعين ـ وبهِ يَتَحَقَّقُ المَقصودُ بالحكايَةِ، مِنْ تَرغيبِ السامعين في الإيمان بِرسولِ اللهِ محمدٍ ـ صلاةُ اللهِ عليْه وسلامُه ـ و"صِدْقُهُمْ" أَيْ صِدْقُهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلَا يَنْفَعُ فِيهَا الصِّدْقُ، وَصِدْقُهُمْ فِي الدُّنْيَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صِدْقَهُمْ فِي الْعَمَلِ للهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَرْكَهُمُ الْكَذِبَ عَلَيْهِ وَعَلَى رُسُلِهِ، وَإِنَّمَا يَنْفَعُهُمُ الصِّدْقُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَإِنْ كَانَ نَافِعًا فِي كُلِّ الْأَيَّامِ لِوُقُوعِ الْجَزَاءِ فِيهِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ صِدْقُهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ لِأَنْبِيَائِهِمْ بِالْبَلَاغِ وَفِيمَا شَهِدُوا بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَيَكُونُ وَجْهُ النَّفْعِ فِيهِ أَنْ يُكْفَوُا الْمُؤَاخَذَةَ بِتَرْكِهِمْ كَتْمَ الشَّهَادَةِ فَيُغْفَرُ لَهُمْ بِإِقْرَارِهِمْ لِأَنْبِيَائِهِمْ وَعَلَى أَنْفُسِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: {لَهُمْ جَنَّاتٌ تجري مِنْ تَحْتِهَا الأنهارُ} أَيْ مِنْ تَحْتِ غُرَفِهَا وَأَشْجَارِهَا وَقَدْ تَقَدَّمَ بيان هذا المعنى مستوفًى.
قوله: {رضي الله عنهم} بيانٌ لِكونِه تعالى أَفاضَ عليهم غيرَ ما ذُكِرَ من جناتٍ تَجري من تحتِها الأَنْهارُ، وهو رُضوانُه ـ عَزَّ وَجَلَّ الذي لا غايةَ وراءه، فهو رَاضٍ عنهم رِضًا لا غَضَبَ بَعْدَهُ أَبَدًا، وفيه مِنْ عَجيبِ الأَسْرارِ ما لا تَسْمَحُ الأَقلامُ بمِثْلِها، جَعلَنا اللهُ مِنْ أَهْلِها.
قولُه: {وَرَضُوا عَنْهُ} أَيْ عَنِ الْجَزَاءِ الَّذِي أَثَابَهُمْ بِهِ، وراضون عن رضاه عنهم، إذْ لا شيءَ أَعَزُّ منْه حتّى تَمدَّ إليْه أَعناقُ الآمالِ.
قولُه: {ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أَيِ الظَّفَرُ، الذِي عَظُمَ خَيْرُهُ وَكَثُرَ، وَارْتَفَعَتْ منزلةُ صاحبِهِ وشَرُفَ. وفيه إشارةٌ إلى نيلِ رُضْوانِهِ ـ جَلَّ شأنُه ـ كما اخْتارَه بعضُ المُحقِّقين. أو إلى جميع ما تقدم كما اخْتارَه بعضهم الآخر "الفوز العظيم" الذي لا يُحيطُ بِه نطاقُ الوَصْفِ ولا يُوقَفُ على مَطْلَبٍ يُدانيهِ أَصْلًا.
قولُه تعالى: {يَوْمُ يَنفَعُ} الجُمهورُ على رَفْعِهِ مِنْ غيرِ تَنْوينٍ، ونافعٌ على نَصبِه مِنْ غيرِ تَنْوينٍ، وقرأ الأعمشُ "يومًا" بِنَصْبِهِ مُنَوَّنًا، وقرأ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الحَسَنِ بْنِ عَيَّاشٍ الشاميِّ: "يومٌ" بِرَفْعِهِ مُنَوَّنًا، فهذِه أَرْبعُ قراءاتٍ. فأمَّا قراءةُ الجُمهورِ فواضِحَةٌ على المُبتدأِ والخَبَرِ، والجملةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ بالقولِ. وأَمَّا قراءةُ نافعٍ ففيها أَوْجُهٌ، أَحَدُها: أنَّ "هذا" مبتدأٌ، و"يومَ" ظرفُ زمانٍ خَبَرُهُ كالقراءةِ الأُولى، وإنَّما بُنِيَ الظَرْفُ لإِضافتِه إلى الجُمْلَةِ الفعليَّةِ وإنْ كانتْ مُعْرَبَةً وهذا مذهبُ الكُوفيّين، واسْتَدَلُّوا عليْه بهذِه القِراءةِ، وأمَّا البَصْريّونَ فلا يُجيزونَ البِناءَ إلَّا إذا صُدِّرتِ الجُملةُ المُضافُ إليها بِفعلٍ ماضٍ، كقولِ النابغةِ:
على حينَ عاتَبْتُ المَشيبَ على الصِّبا... فقلتُ: أَلَمَّا أَصْحُ والشيبُ وازِعُ
وخَرَّجوا هذِه القراءةَ على أنَّ "يومَ" منصوبٌ على الظرفِ، وهو مُتَعَلِّقٌ ـ في الحقيقةِ ـ بخبرِ المُبْتَدأِ أي: واقعٌ أوْ يَقَعُ في يَومِ يَنفعُ، فيَسْتَوي هذا مَعَ تَخريجِ القراءةِ الأُولى والثانيةِ أيضًا في المَعنى، ومنهم مَنْ خَرَّجَه على أنَّ "هذا" مَنْصوبٌ بـ "قال" وأُشيرَ بِهِ إلى المَصْدرِ فَنَصْبُه على المَصدَرِ، وقيلَ: بَلْ أُشيرَ بِهِ إلى الخَبَرِ والقِصَصِ المُتَقَدِّمَةِ فيَجْري في نَصْبِهِ خِلافٌ: هلْ هو مَنْصوبٌ نَصْبَ المَفعولِ بِهِ أوْ نَصْبَ المَصادِرِ؟ لأنَّه متى وقعَ بعدَ القولِ ما يُفْهَمُ كلامًا نحو: "قلتُ شَهْرًا وخُطبَةٌ" جَرَى فيْه هذا الخلافُ، وعلى كلِّ تقديرٍ فـ "يوم" منصوبٌ على الظرف بـ "قال" أي: قالَ اللهُ هذا القولَ أو هذِه الأخبارَ في وقتِ نَفْعِ الصادقينَ، و"ينفع" في مَحَلِّ خفضٍ بالإِضافةِ، وقدْ تقدَّم ما يَجوزُ إضافتُه إلى الجُمَلِ، وأَنَّهُ أَحَدُ ثلاثةِ أَشياء، وأمَّا قراءةُ التَنوين فرفعُه على الخَبَريةِ كقراءةِ الجماعةِ، ونَصْبُه على الظَرفِ كقراءةِ نافعٍ، إلَّا أَنَّ الجملةَ بعدَه في القراءتيْن في مَحَلِّ الوَصْفِ لِما قَبَلَها، والعائدُ محذوفٌ، وهي نَظيرَةُ قولِه تعالى: {يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا} البقرة: 48، فيكونُ مَحَلُّ هذه الجُملةِ إمَّا رَفْعًا أوْ نَصْبًا.
قولُه: {صِدْقُهُمْ} مَرفوعٌ بالفاعِلِيَّةِ، وهذِه قراءةُ العامَّةِ، وقُرِئ شاذًا بنَصبِه وفيهِ أَرْبَعةُ أَوْجُهٍ، أَحدُها: أنَّه مَنصوبٌ على المَفعولِ مِنْ أَجْلِهِ، أي: يَنْفَعُهم لِأَجْلِ صِدْقِهم، ذكرَ ذلك أَبو البَقاءِ وتَبِعَهُ الشيخُ وهذا لا يَجوزُ لأنَّه فاتَ شَرْطٌ مِنْ شُروطِ النَصْبِ، وهو اتِّحادُ الفاعِلِ، فإنَّ فاعلَ النَّفْعِ غيرُ فاعلِ الصِدْقِ، وليس لِقائلٍ أَنْ يَقولَ: يُنْصبُ بالصادقينَ فَكأنَّه قيل: الذين يَصْدُقون لِأَجْلِ صِدْقِهم فَيَلْزَمُ اتِّحادُ الفاعل. لأنَّه يُؤدّي إلى أَنَّ الشيءَ عِلَّةٌ لِنَفْسِهِ، وللقولِ فيهِ مَجالٌ. الثاني: أنَّه نُصِبَ على إسْقاطِ حَرْفِ الجَرِّ أي: بصدقِهم، وهذا قد عَرَفْتَ ما فيه أيْضًا مِنْ أنَّ حَذْفَ حَرفِ الجرِّ لا يَطَّرِدُ. الثالث: أنَّه مَنصوبٌ على المَفعولِ بِه، والناصبُ لَه اسْمُ الفاعِلِ في "الصادقين" أي: الذين صَدَقوا صِدْقَهم، مُبالَغةً نحو قولك: "صَدَقْتَ القتالَ" كأنَّك وَعَدْتَ القتالَ فلم تَكْذِبْه، وقد يُقَوِّي هذا نصبُه على المفعولِ لَه، والعاملُ فيه اسْمُ الفاعِلِ قَبْلَه. الرابع: أنَّه مَصْدرٌ مؤكّدٌ كأنَّه قيلَ: الذين يَصْدُقون الصِدْقَ كما تقول: "صَدَقَ الصِدْقَ" وعلى هذه الأَوْجُه كلِّها ففاعلُ "ينفع" ضميرٌ يَعودُ على الله تعالى.