وَإِذْ قالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ. (116)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ قالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ} عطفٌ على {إِذْ قَالَ الحَواريُّون} المائدة: 112. والخطابُ للرسولِ مُحَمَّدٍ ـ صَلى اللهُ عليْه وسَلَّمَ ـ أيْ اذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِلنَّاسِ مَا يَقُولُهُ رَبُّكَ لِعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ، يَوْمَ يَجْمَعُ الرُّسُلَ، فَيَسْأَلُهُمْ عَمَّا أَجَابَتْهُمْ بِهِ أُمَمُهُمْ، ثُمَّ يُذكِّر عِيسَى بِأَفْضَالِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى وَالِدَتِهِ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ بِحُضُورِ مَنِ اتَّخَذُوهُ وَأُمَّهُ إلهِيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ: هَلْ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إلهِيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ؟ فَيَنفي عِيسَى ـ عليه السلامُ ـ ذَلِكَ، قائلًا: سُبْحَانَكَ ياربُّ، تَنزَّهَ اسْمُكَ، ما كان لِي أَنْ أَقُولَ مَا لا يحِقُّ لِي قَوْلُه، فَإِذَا كُنْتُ قد قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ أَنْتَ، لأَنَّكَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ، وَتَعْلَمُ مَا تُخْفِي العِبَادُ وَمَا تُعْلِنُ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي، لأنَّكَ رَبِّي وَخَالِقِي، وَأَنَا عَبْدُكَ لاَ أَعْرِفُ مَا فِي نَفْسِكَ.
وقد اخْتُلِفَ فِي وَقْتِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ فَقيل: قالَه له في الدُنيا وكان ذلك بعدَ الغروبِ فصَلى ـ عليه السلامُ ـ المَغْرِبَ ثلاثَ رَكَعاتٍ شُكْرًا للهِ تعالى حينَ خاطَبَهُ بذلك، وكانت الركعةُ الأُولى: لِنَفْيِ الأُلوهيَّةِ عنْ نفسِه، والثانيةُ: لِنَفْيِها عَن أُمِّهِ. والثالثةُ: لإثباتِها للهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، فهو ـ عليه السلامُ ـ أَوَّلُ مَنْ صَلى المَغْرِبَ. ولا يَخفى يَصِحُّفيه خبر. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَقُطْرُبُ. قَالَ لَهُ ذَلِكَ حِينَ رَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَتْ النَّصَارَى فِيهِ مَا قَالَتْ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ} المائدة: 118. فَإِنَّ "إِذْ" فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِمَا مَضَى. والأَصَحُّ ما قَالَه قَتَادَةُ وابْنُ جُريْجٍ وأكثرُ المُفسِّرين: إنَّما يكونُ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ مِنْ قوله: {يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ} المائدة: 109. وَمَا بَعْدَهُ {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} المائدة: 119. وَعَلَى هَذَا تَكُونُ "إِذْ" بِمَعْنَى "إِذَا" كَقَوْلِهِ تعالى: {وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا} سبأ: 51. أَيْ إِذَا فَزِعُوا. وَقَالَ أَبُو النَّجْمِ:
ثُمَّ جَزَاهُ اللهُ عَنِّي إِذْ جَزَى ............... جَنَّاتِ عَدْنٍ في السموات الْعُلَا
يَعْنِي إِذَا جَزَى. وَقَالَ الْأَسْوَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْأَزْدِيُّ:
فَالْآنَ إِذْ هَازَلْتُهُنَّ فَإِنَّمَا ................ يَقُلْنَ أَلَا لَمْ يَذْهَبِ الشَّيْخُ مَذْهَبَا
يَعْنِي إِذَا هَازَلْتُهُنَّ فَعَبَّرَ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي لِأَنَّهُ لِتَحْقِيقِ أَمْرِهِ وَظُهُورِ بُرْهَانِهِ كَأَنَّهُ قَدْ وَقَعَ. وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ} الأعراف: 50. وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى هَذَا السُّؤَالِ وَلَيْسَ هُوَ بِاسْتِفْهَامٍ وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الِاسْتِفْهَامِ فقال بعضُهُم: بأَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ تَوْبِيخًا لِمَنِ ادَّعَى ذَلِكَ عَلَيْهِ لِيَكُونَ إِنْكَارُهُ بَعْدَ السُّؤَالِ أَبْلَغَ فِي التَّكْذِيبِ وَأَشَدَّ فِي التَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ. وقال آخرون: قَصَدَ بِهَذَا السُّؤَالِ تَعْرِيفَهُ أَنَّ قَوْمَهُ غَيَّرُوا بَعْدَهُ، وَادَّعَوْا عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَالنَّصَارَى لَمْ يَتَّخِذُوا مَرْيَمَ إِلَهًا فَكَيْفَ قَالَ ذَلِكَ فِيهِمْ؟ فَقِيلَ: لَمَّا كَانَ مِنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهَا لَمْ تَلِدْ بَشَرًا وَإِنَّمَا وَلَدَتْ إِلَهًا لَزِمَهُمْ أَنْ يَقُولُوا إِنَّهَا لِأَجْلِ الْبَعْضِيَّةِ بِمَثَابَةِ مَنْ وَلَدَتْهُ، فَصَارُوا حِينَ لَزِمَهُمْ ذَلِكَ بِمَثَابَةِ الْقَائِلِينَ لَهُ. فقد خَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: تَلَقَّى عِيسَى حُجَّتَهُ وَلَقَّاهُ اللهُ فِي قَوْلِهِ: "وَإِذْ قالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ" قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَلَقَّاهُ اللهُ "سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ" الْآيَةَ كُلَّهَا. وهو حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وقالَ بعضٌ: لَمَّا كانَ القولُ قد وَقَعَ مِنْ رؤسائهم في الضلالِ كانَ مُقَرَّرًا كالاتِّخاذِ، فالاسْتِفْهامُ لِتَعيينِ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ فلِذا قَدَّمَ المُسْنَدَ إليْه. وقيلَ: التقديمُ لِتَقْويَةِ النِسْبَةِ لأنَّها بَعيدةٌ عنِ القَبولِ بحيثُ لا تتوجَّه نَفْسُ السامِعِ إلى أَنَّ المَقصودَ ظاهرُها حتَّى يُجيبُ على طِبْقِهِ فاحتاجَتْ إلى التَقْوِيَةِ حتَّى يَتوجَّهَ إليْها المُسْتَفْهِمُ عنها، وفيهِ كمالُ تَوبيخِ الكَفَرَةِ بِنِسْبَةِ هذا القولِ إليْهِ.
وَقد بَدَأَ سيدُنا عيسى ـ عليه السلامُ ـ بِالتَّسْبِيحِ قَبْلَ الْجَوَابِ فقال: "سبحانك" تَنْزِيهًا لَهُ ـ تعالى ـ عَمَّا أُضِيفَ إِلَيْهِ. وخُضُوعًا لِعِزَّتِهِ وَخَوْفًا مِنْ سَطْوَتِهِ. وَيُقَالُ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ لِعِيسَى: "أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ" أَخَذَتْهُ الرِّعْدَةُ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ حَتَّى سَمِعَ صَوْتَ عِظَامِهِ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ: "سُبْحانَكَ" ثُمَّ قَالَ: "مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ" أَيْ أَنْ أَدَّعِيَ لِنَفْسِي مَا لَيْسَ مِنْ حَقِّهَا يَعْنِي أَنَّنِي مَرْبُوبٌ وَلَسْتُ بِرَبٍّ وَعَابِدٌ وَلَسْتُ بِمَعْبُودٍ. ثُمَّ قَالَ: "إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ" فَرَدَّ ذَلِكَ إِلَى عِلْمِهِ وَقَدْ كَانَ اللهُ عَالِمًا بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْهُ وَلَكِنَّهُ سَأَلَهُ عَنْهُ تَقْرِيعًا لِمَنِ اتَّخَذَ عِيسَى إِلَهًا. ثُمَّ قَالَ: "تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ" أَيْ تَعْلَمُ مَا فِي غَيْبِي وَلَا أَعْلَمَ مَا فِي غَيْبِكَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى تَعْلَمُ مَا أَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمَ مَا تَعْلَمُ وَقِيلَ: تَعْلَمُ مَا أُخْفِيهِ وَلَا أَعْلَمُ مَا تُخْفِيهِ. وَقِيلَ: تَعْلَمُ مَا أُرِيدُ وَلَا أَعْلَمُ مَا تُرِيدُ وَقِيلَ: تَعْلَمُ سِرِّي وَلَا أَعْلَمُ سِرَّكَ لِأَنَّ السِّرَّ مَوْضِعُهُ النَّفْسُ. وَقِيلَ: تَعْلَمُ مَا كَانَ مِنِّي فِي دَارِ الدُّنْيَا وَلَا أَعْلَمُ مَا يَكُونُ مِنْكَ فِي دَارِ الْآخِرَةِ قُلْتُ: وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُتَقَارِبٌ أَيْ تَعْلَمُ سِرِّي وَمَا انْطَوَى عَلَيْهِ ضَمِيرِي الَّذِي خَلَقْتَهُ وَلَا أَعْلَمُ شَيْئًا مِمَّا اسْتَأْثَرْتَ بِهِ مِنْ غَيْبِكَ وَعِلْمِكَ. "إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ" مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَمْ يَكُنْ وما هو كائن.
قوله تعالى: {أَأَنتَ قُلتَ للناسِ اتَّخِذوني وأُمِّي إلهيْن مِنْ دونِ اللهِ} دَخَلَتِ همزةُ الاستفهامِ على المُبتَدَأِ لِفائدَةٍ ذَكرَها أهلُ البَيانِ وهي: أنَّ الفعلَ إذا عُلِم وجودُه وشُكَّ في نَسْبَتِهِ إلى شخصٍ أُولِيَ الاسْمُ المَشْكوكُ في نِسْبَةِ الفِعْلِ إليْهِ للهَمزة فيُقالُ: "أأنت أكرمتَ زَيْدًا" فَإكرامُ زيدٍ قد صدَرَ في الوُجودِ وإنَّما شُكَّ في نِسْبَتِهِ إلى المُخاطب، وإنْ شُكَّ في أصلِ وُقوعِ الفِعْلِ أُوْلِي الفعلُ للهمزةِ فيُقالُ: "أأكرمْتَ زيدًا" إذا لم تَقْطَعْ بوقوعِ اللإكرامِ بلْ شَكَكْتَ فيه، والحاصلُ: أنَّ الهمزةَ يَليها المَشكوكُ فيهِ، وفي الآيَةِ الكَريمةِ فالاسْتِفْهامُ فيها يُرادُ بِهِ التَقْريعُ والتَوبيخُ بغيرِ عيسى ـ عليْه السلامُ ـ وهُمُ المُتَّخِذون لَه ولِأُمِّه إلهيْنِ، وقد دَخَل على المُبتَدأِ لهذا المَعنى، لأَنَّ الاتِّخاذَ قدْ وَقَعَ. واللَّامُ في "للناسِ" للتَبْليغِ فَقَطْ، و"اتَّخِذوني" يَجوزُ أَنْ تَكونَ بمَعنَى "صَيَّرَ" فتتعدَّى لاثنيْنِ ثانيهِما "إلهيْنِ" وأَنْ تَكونَ المُتعدِّيَةَ لِواحِدٍ فـ "إلهيْن" حالٌ. و"مِنْ دونِ اللهِ" متعلِّقٌ بالاتِّخاذِ، وأَجازَ أَبو البَقاءِ أنْ يَكونَ مُتَعَلِّقًا بِمَحذوفٍ على أنَّه صِفَةٌ لـ "آلهيْن". والأَوَّلُ أَظْهَرُ.
قولُه: {سُبْحَانَكَ} تَنَزَّهْتَ مِنْ أنْ يَكونَ لكَ شريكٌ، أو تنزَّهتَ عن أَنْ يُقالَ هذا ويُنْطَقَ بِه، فهو متعلِّقٌ بمَحذوفٍ. ورجَّح الشيخُ أبو حيّانَ التوحيديّ التقديرَ الثاني لقولِه بعدَ "مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ"، قولُه: "أَنْ أَقُولَ" في مَحَلِّ رَفْعٍ لأنَّه اسْمُ "يكون"، والخبرُ في الجارِّ قبلَهُ، أيْ: ما يَنْبَغي لي قولُ كذا. و"ما" يَجوزُ أنْ تَكونَ مَوْصولَةً و"أَنْ" نَكِرَةٌ مَوْصوفَةٌ. والجُمْلَةُ بعدَها صِلَةٌ فلا مَحَلَّ لَها، أوْ صِفَةٌ فمَحلُّها النَّصبُ، فإنَّ "ما" مَنصوبَةٌ بِـ "أقول" نَصْبَ المَفعولِ بِهِ لأنَّها مُتَضَمِّنَةٌ لِجُمْلَةٍ، فهو نَظيرُ "قلتُ كلامًا"، وعلى هذا فلا يُحتاجُ أنْ يُؤَوَّلَ "أقولُ" بمعنى أَدَّعِي أو أَذْكُرُ. وفي "ليس" ضميرٌ يَعودُ على ما هو اسْمُها، وخبرُها "لي" أيْ: ما ليسَ مُسْتَقِرًّا لي وثابتًا، وأَمَّا "بحق" ـ على هذا فهي حالٌ مِنَ الضمير في "لي" أو مفعولٌ بِه تقديرُه: ما ليسَ يَثْبُتُ ليْسَ بِسَبَبِ حَقٍّ، فالباءُ مُتَعلِّقَةٌ بالفعلِ المحذوف لا بنفسِ الجارِّ، لأنَّ المعانيَ لا تَعْمَلُ في المفعولِ به". أو أنَّ قولَه "بحق" مُتعلِّقٌ بقولِه: "عَلِمْتَه" ويَكونُ الوَقْفُ على هذا على قولُهُ "لي" والمَعنى: فقد عَلِمْتَه بِحَقٍّ. وقد رُدَّ هذا بأنَّ الأصلَ عدمُ التَقديمِ والتأخيرِ، وهذا لايَنبَغي أنْ يُكتَفى بِهِ في رَدِّ هذا، بل الذي مَنَعَ مِنْ ذلك أنَّ مَعمولَ الشَرْطِ أوْ جَوابِه لا يَتقَدَّمَ على أداةِ الشرطِ لا سِيَّما المَروِيُّ عَنِ الأَئِمَّةِ القُرَّاءِ الوَقْفُ على "بِحَقٍّ"، ويَبْتَدِئون بِـ "إنْ كنت قلتُه" وهذا مَرِويٌّ عنْ رسولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ فوجَبَ اتِّباعُه. وثمَّة وجهٌ ثانٍ في خبرِ "ليس" هو أنَّهُ "بحقٍّ"، وعلى هذا ففي "لي" ثلاثةُ أوجه، أحدُها: أنه "يَتبيَّنُ" كما في قولهم: "سُقْيًا له" أيْ: فيَتعَلَّقُ بمحذوفٍ، والثاني: أنَّه حالٌ مِنْ "بِحَقٍّ" لأنَّه لو تأخَّرَ لَكانَ صِفَةً لَه، وهذا يُخَرَّجُ على قولِ مَنْ يُجَوِّزُ تقديمَ حالِ المَجرورِ عليْه. وقد تقدَّمَ لكَ خِلافُ النَّاسِ فِيهِ ومَا أَوْرَدوهُ مِنَ الشَواهِدِ، وفيْه أيْضًا تقديمُ الحالِ على عامِلِها المَعْنَويِّ: فإنَّ "بِحَقٍّ" هو العاملُ إذْ لا يَجوزُ أنْ تعملَ "ليس" في شيءٍ، وإنْ قُلْنا: إنَّ "كان" أُختَها قد تَعمَلُ لأنَّ "ليس" لا حدَثَ لَها بالإِجْماعِ. والثالثُ: أنَّه متعلِّقٌ بنفسِ "حقٍّ" لأنَّ الباءَ زائدةٌ، وحَقّ بمعنى مُسْتحقّ أيْ: ما ليس مُستحِقًّا لِي.
قولُه: {إِن كُنتُ} كنتَ: وإن ْكانت ماضيةَ اللفظِ فهي مُستَقْبَلةٌ في المَعنى، والتقديرُ: إنْ تَصِحَّ دَعواي لِما ذُكر، وقَدَّرَه الفارسيُّ بقولِه: إنْ أَكُنْ الآنَ قُلْتُه فيما مضى. لأنَّ الشرطَ والجزاءَ لا يَقعانِ إلَّا في المُسْتَقْبَلِ.
وقولُه: {فَقَدْ عَلِمْتَهُ} أي: فقد تبيَّنَ وظَهرَ عِلمُكَ بِه كقولِه: {فَصَدَقَتْ} يوسف: 26. و{فَكَذَبَتْ} يوسف: 27. و{فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النّارِ} النمل: 90.
قولُه: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} تعلمُ: هنا لا يَجوزُ أنْ تَكونَ عرفانيَّةً، لأنَّ العِرْفانَ كما قَدَّمْتُه يَستَدْعِي سَبْقَ جَهْلٍ، أوْ يُقْتَصَرُ بِهِ على معرفةِ الذاتِ دونَ أَحوالِها ـ حَسْبَ ما قالوا ـ فالمَفعولُ الثاني مَحذوفٌ، أيْ: تَعْلَمُ ما في نَفْسي كائنًا ومُوْجَدًا على حقيقتِه لا يَخْفَى عليْكَ منْهُ شيْءٌ، وأَمَّا: "ولا أعلَمُ" وإنْ كانَ يجوزُ أنْ تَكونَ عِرْفانِيَّةً، إلَّا أنَّها لَمَّا صارَتْ مقابِلةً لِما قبلَها يَنْبَغي أنْ يَكونَ مِثْلَها، والمُرادُ بالنَّفْسِ هُنا ـ على ما قاله الزجاج: أنَّها تُطْلَقُ ويُرادُ بها حيققةُ الشيءِ، والمعنى في قوله "تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي .." إلى آخرِهِ واضحٌ. وقال: المعنى: تعلمُ ما أُخْفيه من سِرِّي وغيبي، أيْ: ما غابَ ولم أُظْهِرْه، ولا أعلمُ ما تُخفِيه أنتِ ولا تُطْلِعُنا عليْه، فذَكر النفسَ مُقابَلَةً وازدواجًا، وهذا مُنْتَزَعٌ مِنْ قولِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وعليْه حامَ الزمخشري فإنَّه قال: تعلمُ معلومي ولا أعلمُ معلومَك، وأتى بقوله: "مَا فِي نَفْسِكَ" على جهةِ المقابلةِ والتشاكلِ لِقولِه: "مَا فِي نَفْسِي} فهو كقولِه: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} آل عمران: 54، وكقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ الله يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} البقرة: 14 ـ 15.