فيض العليم … سورة المائدة، الآية: 106
16 أكتوبر
Rate This
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ
(106)
قولُه تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ} خطابٌ جديدٌ للمؤمنين مِنْ ربِّهم ومولاهم لِيكلِّفَهم بما يحفظ عليهم أموالهم وحقوقهم، وكان قد أمرهم ـ سبحانه ـ في الآيةِ السابقةِ بحِفْظِ أنفسِهم بقولِهِ: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ}، فمَوضوعُ هذه الآيةِ أَدَقُّ المَوضوعاتِ في بابِ الإثْباتِ، وهوَ الوَصيَّةُ التي تكون في سَفَرٍ، ويَموتُ صاحِبُها في هذا السَفَرِ، وإنَّهم قد تَساهَلوا في طُرِقِ الإثْباتِ فيها تَحَقُّقًا مِنْ صِحَّةِ الوَصيَّةِ والأَمْوالِ ومَآلِها، حتَّى لقد قال بعضُ القانونيّين: إنَّه تَثْبُتُ الوَصيَّةُ بالكِتَابَةِ على الرَمْلِ لِمَنْ حَضَرَتْهُ الوَفاةُ، وهو نائمٌ على ذلكَ الرَّمْلِ؛ وذلك لأنَّ الإثباتَ في هذه الحالِ التي ماتَ فيها صاحبُ الوَصِيَّةِ مِنْ غيرِ أنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ أنْ يَكْتُبَ وصِيَّتَه صَعْبٌ.
ولهذا شَدَّدَ الإسلامُ على ضَرورةِ كِتابَةِ الوَصِيَّةِ، والشَّخصُ قويٌّ مُعافى، حتَّى لا يُدْرِكُهُ الموتُ قبلَ أنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ ذلك، حتَّى أَنَّ عبدَ اللهِ بْنَ عُمَرٍ لَيَقولُ: (لا يَحِلُّ لِمُؤمِنٍ إلَّا أنْ يَبيتَ وَوَصِيَّتُه مَكْتُوبَةٌ قدْ وَضَعَها تحتَ وِسادَتِه). ففي قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ” إشارةٌ إلى أنَّ العنايةَ بالوصيَّةِ، ونَقْلَها وتنفيذَها بالعَدْلِ، مِنْ مُقْتَضَياتِ الإيمانِ كما قال تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} سورة البقرة: 182.
والشهادةُ على الوصية نِصابُها اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكمْ، والعَدالةُ هي الصِدْقُ في القَوْلِ والأمانةُ على المالِ والقيامُ بأوامِرِ الدينِ، والانْتِهاءُ عنْ مُنْهَياتِه، بحيثُ لا يُجاهِرُ بِمَعْصِيَةٍ، ولا يَرْتَكِبُ مُنْكَرًا إلّا اللّمَمَ كما قالَ تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْم وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} سورة النجم: 32، والقيامُ على الوَصيَّةِ يَكون بِتَنْفيذِها كاملةً مَوفُورَةً، والمُحافَظَةُ على الأموالِ، ونَقلِ إرادةِ صاحِبِ تِلْكَ الأَمْوالِ.
وإنَّه لَا يَتَوافَرُ العدلُ في الوصية في كُلِّ الأَحوالِ، فقد يَكون الموت في سَفَرٍ، ولا يَتَوافَرُ العَدْلُ مِنَ المُؤمنين، فقدْ يَكونُ المُصاحِبُ للمُتَوَفَّى مِنْ غيرِ المُؤمنين، أوْ مِنْ غيْرِ العُدولِ، ففي هذه الحالِ يُتَساهَلُ وتُقْبَلُ شهادةُ غيرِ المُسْلم، ولِذا قالَ ـ سبحانه: “أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ“.
قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} قال بعضُ العلماء: إنَّ “منكم” معناها مِنْ قَبيلَتِكم، أوْ مِنْ أَقارِبِكم، فيكون معنى “مِن غيركم” أي من غيرِ قَبيلتِكم أو مِنْ غيرِ ذوي قرابتكم، والجميعُ في دائرةِ أَهلِ الإيمان، ويَتَمَسَّكُ هذا الفريقُ بأنَّه لَا تُقبَلُ شهادةُ غيرِ المُؤمِنِ، فلا يُمْكِنُ أنْ يَكونَ المُرادُ بـ “مِنْ غَيرِكم” الكافرين؛ لأنَّ الكافِرَ لَا تُقبَلُ شهادتُه على المؤمِنِ عندَهم.
وقال آخرون: إنَّ المُرادَ بقولِه: “مِنكُمْ” أي من المؤمنين لأنَّ الخِطابَ في الآيةِ: “يا أيها الذين آمنوا” فالنداءُ للذين آمنوا لَا لقبيلٍ منهم، ولذلك فالمقصود بـالاثنين اللذيْن مِنْ غيرِهم هم غيرُ المؤمنين، ومُقتَضى هذا التخريجِ أنْ تُقبَلَ شهادةُ غيرِ المُسلمِ في هذِه الحالِ، وقد أجازَها جمعٌ مِنَ التابعين منْهم سَعيد بْنُ المُسَيَّبِ وابْنُ سِيرين، ويَحيى بْنُ يَعْمُر، وعِكْرِمَةُ، ومُجاهِدٌ، وسعيدٌ بْنُ جُبَيْرٍ، والشَعْبِيُّ، وإبراهيمُ النُخَعِيُّ، وقَتادةُ، وشُريحٌ القاضي، وهذا روايةً عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وقدْ قرّروا أنَّ شهادَةَ غيرِ المُسْلِمِ على المُسْلِمِ تُقْبَلُ في حالِ السَفَرِ، على أنْ تَكونَ الشهادةُ في وَصيةٍ كما نَصَّ القرآنُ الكَريمُ، وذلك للضَرورَةِ، ولِمَنْعِ ضَيَاعِ الحُقوقِ ما أمكَنَ ولأَنَّ ذلك يُشبِهُ التَحَرِّي، ويَكونُ المُرادُ مِنَ العَدَالَةِ الاشْتِهارُ بالصِدْقِ والأَمانَةِ، ومِنْهم مَنْ يَكونُ كَذلك، وإنْ أَصَابَ الضَلالُ اعْتِقادَهُ، ولأنَّ قبولَ شهادتهم استثناءٌ فيُقتَصَرُ على مَوضوعِ الوَصَيَّةِ، فيُقتَصَرُ على مَوْرِدِ النَصِّ، وهي تَقييدُ الحالِ بحالِ السَفَرِ، وتَقييدُ الموضوعِ بالوصية. فقولُه تعالى: “إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ” المُرادُ به إذا سافرتم؛ لأنَّ المُسافِرَ يَضْرِبُ في الأَرْضِ. وقولُه: “فَأصَابَتْكم مُصيبَةُ الْمَوْتِ“. أيْ نَزَلَ بِكم، وسَمَّاهُ مُصيبَةً؛ لأنَّه مؤلمٌ بِطبيعتِه ويَصْحَبُه آلام نفسيَّةٌ. وعندما ذَكرَ ـ سبحانَه ـ الاثنين مِنْ غيرِ المُؤمنين لمْ يَذكرِ العَدالةَ ولكنَّ المَفروضَ أنْ يكونا صادقيْن اشْتُهِرا بالأَمانَةِ، ولم يذكُرِ العَدالةَ؛ لأنَّ عدالةَ غيرِ المؤمنِ ليست مطلقةً، بل مقيَّدةٌ.
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ واللتان بعدَها بِسَبَبِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ. كما رَوَى الْبُخَارِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما ـ قَالَ: كَانَ تَمِيمُ الدَّارِيُّ وَعَدِيُّ بْنُ بَدَّاءَ يَخْتَلِفَانِ إِلَى مَكَّةَ، فَخَرَجَ مَعَهُمَا فَتًى مِنْ بَنِي سَهْمٍ فَتُوُفِّيَ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ، فَأَوْصَى إِلَيْهِمَا، فَدَفَعَا تَرِكَتَهُ إِلَى أَهْلِهِ وَحَبَسَا جَامًا مِنْ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا بِالذَّهَبِ، فَاسْتَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ (مَا كَتَمْتُمَا وَلَا اطَّلَعْتُمَا) ثُمَّ وُجِدَ الْجَامُ بِمَكَّةَ فَقَالُوا: اشْتَرَيْنَاهُ مِنْ عَدِيٍّ وَتَمِيمٍ، فَجَاءَ رَجُلَانِ مِنْ وَرَثَةِ السَّهْمِيِّ فَحَلَفَا أَنَّ هَذَا الْجَامَ لِلسَّهْمِيِّ، وَلَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا، قَالَ: فَأَخَذُوا الْجَامَ، وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. لَفْظُ الدَّارَقُطْنِيِّ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ” بَرِئَ مِنْهَا النَّاسُ غَيْرِي وَغَيْرَ عَدِيِّ بْنِ بَدَّاءَ، وَكَانَا نَصْرَانِيَّيْنِ يَخْتَلِفَانِ إِلَى الشَّامِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، فَأَتَيَا الشَّامَ بِتِجَارَتِهِمَا، وَقَدِمَ عَلَيْهِمَا مَوْلًى لِبَنِي سَهْمٍ يُقَالُ له: بديلُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ بِتِجَارَةٍ، وَمَعَهُ جَامٌ مِنْ فِضَّةٍ يُرِيدُ بِهِ الْمَلِكَ، وَهُوَ عُظْمُ تِجَارَتِهِ، فَمَرِضَ فَأَوْصَى إِلَيْهِمَا، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يُبَلِّغَا مَا تَرَكَ أَهْلَهُ، قَالَ تَمِيمٌ: فَلَمَّا مَاتَ أَخَذْنَا ذَلِكَ الجامَ فبِعْناهُ بألفِ دِرْهَمٍ، ثمَّ اقْتَسَمْنَاهَا أَنَا وَعَدِيُّ بْنُ بَدَّاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا إِلَى أَهْلِهِ دَفَعْنَا إِلَيْهِمْ مَا كَانَ مَعَنَا، وَفَقَدُوا الْجَامَ فَسَأَلُونَا عَنْهُ فَقُلْنَا: مَا تَرَكَ غَيْرَ هَذَا، وَمَا دَفَعَ إِلَيْنَا غَيْرَهُ، قَالَ تَمِيمٌ: فَلَمَّا أَسْلَمْتُ بَعْدَ قُدُومِ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْمَدِينَةَ تَأَثَّمْتُ مِنْ ذَلِكَ، فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ وَأَخْبَرْتُهُمُ الْخَبَرَ، وَأَدَّيْتُ إِلَيْهِمْ خَمْسَمِئَةِ دِرْهَمٍ، وَأَخْبَرْتُهُمْ أَنَّ عِنْدَ صَاحِبِي مِثْلَهَا، فَأَتَوْا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَسَأَلَهُمُ الْبَيِّنَةَ فَلَمْ يَجِدُوا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَحْلِفُوهُ بِمَا يُقْطَعُ بِهِ عَلَى أَهْلِ دِينِهِ، فَحَلَفَ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ” إِلَى قَوْلِهِ “بَعْدَ أَيْمانِهِمْ” فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَرَجُلٌ آخَرُ مِنْهُمْ فَحَلَفَا فَنُزِعَتِ الْخَمْسُمِئَةِ مِنْ يَدَيْ عَدِيِّ بْنِ بَدَّاءَ. وهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِصَحِيحٍ. وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ نَزَلَتْ فِي تَمِيمٍ وَأَخِيهِ عَدِيٍّ، وَكَانَا نَصْرَانِيَّيْنِ، وَكَانَ مَتْجَرُهُمَا إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى الْمَدِينَةِ قَدِمَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الْمَدِينَةَ وَهُوَ يُرِيدُ الشَّامَ تَاجِرًا، فَخَرَجَ مَعَ تَمِيمٍ وَأَخِيهِ عَدِيٍّ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَذَكَرَ النَّقَّاشُ قَالَ: نَزَلَتْ فِي بُدَيْلِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ مَوْلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلِ السَّهْمِيِّ، كَانَ خَرَجَ مُسَافِرًا فِي الْبَحْرِ إِلَى أَرْضِ النَّجَاشِيِّ، وَمَعَهُ رَجُلَانِ نَصْرَانِيَّانِ أَحَدُهُمَا يُسَمَّى تَمِيمًا وَكَانَ مِنْ لَخْمٍ وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءَ، فَمَاتَ بُدَيْلٌ وَهُمْ فِي السَّفِينَةِ فَرُمِيَ بِهِ فِي الْبَحْرِ، وَكَانَ كَتَبَ وَصِيَّتَهُ ثُمَّ جَعَلَهَا فِي الْمَتَاعِ فَقَالَ: أَبْلِغَا هَذَا الْمَتَاعَ أَهْلِيَ، فَلَمَّا مَاتَ بُدَيْلٌ قَبَضَا الْمَالَ، فَأَخَذَا مِنْهُ مَا أَعْجَبَهُمَا فَكَانَ فِيمَا أَخَذَا إِنَاءً مِنْ فِضَّةٍ فِيهِ ثَلَاثُمِائَةِ مِثْقَالٍ، مَنْقُوشًا مُمَوَّهًا بِالذَّهَبِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَذَكَرَهُ سُنَيْدٌ وَقَالَ: فَلَمَّا قَدِمُوا الشَّامَ مَرِضَ بُدَيْلٌ وَكَانَ مُسْلِمًا، الْحَدِيثَ.
قَوْلُهُ: {شَهادَةُ بَيْنِكُمْ} وَرَدَ “شَهِدَ” فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى بِأَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ: مِنْهَا قَوْلُهُ تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ} البقرة: 282. قِيلَ: مَعْنَاهُ أَحْضِرُوا. وَمِنْهَا “شَهِدَ” بِمَعْنَى قَضَى أَيْ أَعْلَمَ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ} آل عمران: 18. وَمِنْهَا “شَهِدَ” بِمَعْنَى أَقَرَّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ} النساء: 166. وَمِنْهَا “شَهِدَ” بِمَعْنَى حَكَمَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها} يوسف: 26. وَمِنْهَا “شَهِدَ” بِمَعْنَى حَلَفَ، كَمَا فِي اللِّعَانِ.”وشهد” بِمَعْنَى وَصَّى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ“. وَقِيلَ: مَعْنَاهَا هُنَا الْحُضُورُ لِلْوَصِيَّةِ، يُقَالُ: شَهِدْتُ وَصِيَّةَ فُلَانٍ أَيْ حَضَرْتُهَا. وَذَهَبَ الطَّبَرِيُّ إِلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ بِمَعْنَى الْيَمِينِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى يَمِينُ مَا بَيْنَكُمْ أَنْ يَحْلِفَ اثْنَانِ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ الشَّهَادَةِ الَّتِي تُؤَدَّى لِلْمَشْهُودِ لَهُ بِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ للهِ حُكْمٌ يَجِبُ فِيهِ عَلَى الشَّاهِدِ يَمِينٌ. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ الْقَفَّالُ. وَسُمِّيَتِ الْيَمِينُ شَهَادَةً، لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهَا الْحُكْمُ كَمَا يَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ. وَاخْتَارَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ الشَّهَادَةَ هُنَا هِيَ الشَّهَادَةُ الَّتِي تُحْفَظُ فَتُؤَدَّى، وَضَعَّفَ كَوْنَهَا بِمَعْنَى الحضور واليمين.
قَوْلُهُ: {إِذا حَضَرَ} مَعْنَاهُ إِذَا قَارَبَ الْحُضُورَ، وَإِلَّا فَإِذَا حَضَرَ الْمَوْتُ لَمْ يُشْهِدْ مَيِّتٌ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} النحل: 98. وكقوله: {إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} الطلاق: 1. وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. وَالْعَامِلُ فِي “إِذا” الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ “شَهادَةُ“.
قولُهُ تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ}: هذهِ الآيةُ وما بعدَها مِنْ أَشْكَلِ القُرآنِ حُكْمًا وإعرابًا وتَفسيرًا، ولم يَزَلِ العلماءُ يَسْتَشْكِلونَها ويَكِعَّون عنها حتَّى قال مَكيّ بْنُ أَبي طالبٍ ـ رحِمَهُ اللهُ ـ في كتابِه المُسَمَّى بالكَشْفِ: هذه الآيةُ في قراءتِها وإعْرابِها وتَفسيرِها ومَعانيها وأَحْكامِها مِنْ أَصْعَبِ آيٍ في القرآنِ وأَشْكِلِها. وقال ابْنُ عطيَّةَ: وهذا كلامُ مَنْ لم يَقَعْ لَهُ الثَلْجُ في تفسيرِها، وذلك بَيِّنٌ من كتابه. وقال السَخاوي: لَمْ أرَ أحدًا مِنَ العلماءِ تَخَلَّصَ كلامُه فيها مِنْ أوَّلِها إلى آخرِها. وقالَ الواحِدِيُّ: وهذه الآية وما بعدَها مِنْ أَغْوَصِ ما في القرآنِ معنًى وإعْرابًا.
قرَأَ الجُمهورُ {شهادةُ بينِكم إذا حضرَ أحدَكمُ الموتُ اثنان منكم} برَفْعِ “شهادة” مُضافَةً لـ “بينِكم“. وقرأ الحسنُ والأعرجُ والشَعبيُّ برفعِها مُنَوَّنَةً، “بينَكم” نَصْبًا. وقرأ السُلَمِيُّ وكذلك الحَسَنُ والأَعْرَجُ ـ في روايةٍ أخرى عنهُما ـ “شهادةً” منونةً منصوبةً، “بينَكم” نَصْبًا. فأمَّا قراءةُ الجُمهورِ فتخريجُها أنَّها مَرْفوعةٌ بالابْتِداءِ، و”اثنان” خبرُها، وعليه فلا بُدَّ مِنْ حذفِ مُضافٍ: إمَّا مِنَ الأوَّلِ، وإمَّا مِنَ الثاني، فتَقديرُه مِنَ الأوَّلِ: ذَوا شهادةِ بينِكم اثنانِ، أي صاحِبا شهادةِ بينِكم اثنان، وتقديرُه من الثاني: شَهادةُ بينِكم شهادُة اثنيْنِ، وإنّما اضطررنا إلى حذفٍ مِنَ الأوَّلِ أوِ الثاني لِيَتصادقَ المُبْتَدأُ والخَبَرُ على شيءٍ واحدٍ، لأنَّ الشهادةَ معنًى والاثنان جُثَّتانِ، ولا يجيءُ التقديران المذكوران في نحو: “زيدٌ عدلٌ” وهما جعلُه نفسَ المَصدرِ مبالغةً أو وقوعُه اسمَ الفاعل، لأنَّ المعنى يأباهُما هنا، إلَّا أنَّ الواحديَّ نَقَلَ أنَّ “شهادة” مصدرٌ وُضِع مَوْضِع الأسْماءِ، يُريدُ بالشَهادةِ الشُهودَ، كما يُقالُ: رَجلٌ عَدْلٌ ورِضًا، ورجالٌ عدلٌ ورِضا وزَوْرٌ، وإذا قَدَّرْتها بمَعنى الشهودِ كان على حذفِ المُضافِ، ويكونُ المعنى: عدةُ شهودٍ بينَكم اثنان، واستَشهَدَ بقولِه: {الحج أَشْهُرٌ} البقرة: 197. أي: وقتُ الحَجِّ، ولولا ذلك لَنَصَبَ أَشهُرًا على تأويلِ: الحَجُّ في أشْهُرٍ. فعلى ظاهرِ أَنَّه جَعَلَ المَصدَرَ نفسَ الشُهودِ مبالغةً، ولذلك مَثَّلَه بِـ “رِجالُ عَدْلٍ” وفيه نظر.
ويمكن لـ “شهادةُ” أنْ تَرتفع على أنَّها مُبتَدَأٌ أيْضًا، وخبرُها محذوفٌ يَدُلُّ عليه سِياقُ الكلامِ، و”اثنان” على هذا مرتفعٌ بالمَصْدَرِ الذي هو “شهادة” والتقديرُ: فيما فَرَضَ عَلَيْكم أَنْ يَشْهَدَ اثْنان، وهو ظاهرٌ جدًا، و”إذا” على هذيْنِ الوَجْهَيْنِ ظَرْفٌ لـ “شهادةُ” أيْ ليُشْهَدَ وقتُ حُضورِ الموتِ ـ أيْ أسبابُه ـ و”حينَ الوَصِيَّةِ” على هذا فيه ثلاثةُ أَوْجُهٍ، أَوْجَهُها: أنَّهُ بَدَلٌ مِنْ “إذا” وفي إبدالِه مِنْه دَليلٌ على وُجوبِ الوَصِيَّةِ”. الثاني: أنَّه منصوبٌ بنفسِ الموتِ أيْ: يَقَعُ الموتُ وقتَ الوَصيَّةِ، ولا بُدَّ من تأويلِه بأسبابِ المَوْتِ؛ لأنَّ وقتَ الموتِ الحقيقيِّ لا وَصيَّةَ فيه. الثالث: أنَّهُ مَنصوبٌ بـِ “حَضَر” أيْ: حَضَر أَسبابَ المَوتِ حينَ الوَصيَّة.
ويمكن أيضًا أنَّ يكون “شهادةُ” مبتدأٌ وخبرُه: “إذا حضر” أي وقوعُ الشهادة في وقتِ حضور الموت، و”حين” على ما تقدم فيه من الأوجه الثلاثة آنفًا، ولا يجوزُ فيه والحالةُ هذه أن يكونَ ظرفاً للشهادة لئلا يلزَم الإِخبارُ عن الموصولِ قبل تمامِ صلتِه وهو لا يجوز. أو أنَّ “شهادة” مبتدأُ، وخبرُها “حين الوصية” و”إذا” على هذا منصوبٌ بالشهادة، ولا يجوز أن ينتصِبَ بالوصية وإن كان المعنى عليه؛ لأنَّ المصدرَ المؤولَ لا يَسْبقه معمولُه عند البصريين ولو كان ظرفًا، وأيضاً فإنه يلزمُ منه تقديمُ المضافِ إليه على المضافِ؛ لأنَّ تقديم المعمول يُؤْذِنُ بتقديمِ العامل والعاملُ لا يتقدَّم فكذا معمولُه، ولم يجوِّزوا تقديمَ معمولِ المضاف إليه على المضاف إلا في مسألة واحدة وهي: إذا كان المضافُ لفظة “غير”، وأنشدوا:
إنَّ أمرأً خَصَّني عمداً مودَّتَه ………….. على التنائي لَعندي غيرُ مكفورِ
فـ “عندي” منصوبُ بـ “مكفور”، قالوا: لأنَّ “غير” بمنزلة “لا”، و”لا” يجوزُ تقديمُ معمولِ ما بعدها عليها. وعلى هذين الوجهين الآخيرين يرتفع “اثنان” على أَحَدِ وجهيْن: إمَّا الفاعليةِ أي: “يشهد اثنان” يدل عليه لفظ “شهادة” وإمَّا على خبرِ مبتدأٍ محذوفٍ مدلولٍ عليه بـ “شهادة” أيضًا أيْ: الشاهدان اثنان.
أو أنَّ “شهادةُ” مبتدأ، و”اثنان” فاعلٌ سَدَّ مَسَدَّ الخَبَرِ، وهو مذهبُ الفرَّاءِ، إلَّا أنَّ الفرَّاءَ قَدَّر الشهادةَ واقعةً موقعَ فعلِ الأمرِ كأنَّه قال: “لِيَشْهَدِ اثْنانِ” فجعله من بابِ نيابةِ المصدرِ عن فعلِ الطلبِ، وهو مثل “الحمدُ لله” و{قَالَ سَلاَمٌ} هود: 69. من حيث المعنى، وهذا مذهبٌ لبعضهم في نحو: “ضَرْبي زيدًا قائمًا” يَدَّعي أن الياء فاعل سَدَّتْ مسد الخبر، وهو مذهبٌ ضعيفٌ ردَّه النحويون، ويَخُصُّون ذلك بالوصفِ المعتمِدِ على نفيٍ أوِ اسْتِفْهامٍ نحوَ: “قام أبواك” وعلى هذا المذهب فـ “إذا” و”حين” ظرفان منصوبان على ما تقرَّرَ فيهما في غيرِ هذا الوَجْهِ. وقد تحصَّلْنا فيما تقدَّم أنَّ رَفْعَ “شهادة” مِن وَجْهٍ واحدٍ وهو الابْتِداءُ، وفي خبرِها خَمْسَةُ أَوْجُهٍ تَقدَّمَ ذِكرُها مفصَّلةً، وأنَّ رفعَ “اثنان” مِنْ خمسةِ أَوْجُهٍ، أيضًا، الأوّلُ: كونُه خبرًا لِـ “شهادة” بالتأويلِ المذكورِ، الثاني: أنَّه فاعلٌ بـ “شهادة“، الثالث: أنَّه فاعلٌ بِـ “يشهد” مقدَّرًا، الرابعُ: أنَّه خبرُ مبتدأٍ، أيْ: الشاهدان اثنان. الخامس: أنَّه فاعلٌ سَدَّ مَسَدَّ الخَبَرِ. وأنَّ في “إذا” وجهين: إمَّا النصبَ على الظَرْفِيَّةِ، وإمَّا الرَّفْعَ على الخَبَريَّةِ لـ “شهادة“، وكلُّ هذا بَيِّنٌ ممّا لَخَّصْتُه قبلُ. وقراءةُ الحَسَنِ بِرَفْعِها مُنَوَّنةً تَتَوَجَّهُ بِما تقدَّمَ في قراءةِ الجمهورِ مِنْ غيرِ فرْقٍ.
وأمَّا قراءةُ النصبِ ففيها ثلاثةُ أَوْجُهٍ، أَحدُها ـ وإليْه ذَهَبَ ابْنُ جِنِّي:
أنَّها منصوبةٌ بفعلٍ مُضْمَرٍ، و”اثنان” مرفوعٌ بذلك الفِعْلِ، والتقديرُ: لِيُقِمْ شهادةَ بينِكمُ اثْنانِ، وتبِعَه الزَمَخشريُّ على هذا فذَكَرَهُ. وقدْ ردَّ الشيخُ هذا بأنْ حَذْفَ الفعلِ وإبقاءَ فاعلِه لم يُجِزْه النَّحْويّون إلَّا أنْ يُشْعِرَ بِه ما قبلُه كقولِه تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدوِّ والآصالِ رِجَالٌ} النور: 36 ـ 37. في قراءةِ ابْنِ عامرٍ وأبي بكر أيْ: يُسَبِّحُه رجالٌ، ومثله قولُ ضِرار بْنِ نهْشَل يَرثى أخاه يزيد:
ليُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ ……………… ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيح الطَّوائِحُ
وفيه خلافٌ: هل يُنْقاسُ أو لا؟ أوْ يُجابُ بهِ نفيٌ كقولِه:
تَجَلَّدْتُ حتّى قيل: لم يَعْرُ قلبَه .. من الوجدِ شيءٌ قلتُ: بل أعظمُ الوَجْدِ
أي: بل عَراهُ أعظمُ الوجدِ، أو يُجابُ بِه استفهامٌ كقوله :
ألا هَلْ أتى أمَّ الحويرثِ مُرْسِلي ………… نعم خالدٌ إنْ لم تُعِقْه العوائِقُ
أي: بلْ أتاها أو يَأْتيها، وما نَحن فيه ليس مِنَ الأشياءِ الثلاثةِ. الثاني: أنَّ “شهادة” بدلٌ مِنْ اللَّفظِ بفعلٍ أي: إنَّها مصدرٌ نابَ مَنابَ الفعلِ فيَعمَلُ عملَه، والتقديرُ: لِيَشْهدِ اثْنانِ، فـ “اثنان” فاعلٌ بالمَصْدَرِ لِنِيابَتِهِ مَنَابَ الفِعْلِ، أوْ بِذلك الفِعْلِ المَحذوفِ على حَسَبِ الخِلافِ في أَصْلِ المَسأَلَةِ، وإنَّما قَدَّرْتُه “ليشهد اثنان” فأتيتُ بِه فعلًا مُضارِعًا مَقْرونًا بِلامِ الأمْرِ، ولمْ أُقدِّرْهْ فعلَ أَمْرٍ بِصيغةِ “أفعل” كما يُقَدَّرُه النَّحْويّون في نحو: “ضربًا زيدًا” أي: اضرِبْ، لأنَّ هذا قد رَفَع ظاهرًا وهو “اثنان” وصيغةُ “افعل” لا ترفَعُ إلَّا ضَميرًا مستتِرًا إنْ كان المأمورُ واحدًا، ومثلُه قول أعشى همدان:
على حينَ أَلْهى الناسَ جُلُّ أمورِهمْ ……. فَنَدْلاً زُرَيْقُ المالَ نَدْلَ الثَّعالِبِ
فـ “زُرَيْقُ” يَجوزُ أنْ يَكونَ مُنادًى أي: يا زرقُ، والثاني: أنَّه مًرفوعٌ بـ “ندلًا” على أنَّه واقعٌ مَوْقِعَ “لِيَنْدُلْ” وإنَّما حُذِفَ تَنوينُه لالتقاءِ الساكنين على حَدِّ قول أبي الأسود الدؤلي:
فأَلْفَيْتُه غيرَ مُسْتَعْتِبٍ ………………………. ولا ذاكرَ اللهَ إلّا قليلا
الثالث: أنَّ “شهادة” بدلٌ من اللفظ بفعلٍ أيْضًا، إلَّا أنَّ هذا الفعل خَبَرِيٌّ وإنْ كان أَقَلَّ مِنَ الطَلَبيِّ نحوَ: “حمدًا وشكرًا لا كفرًا” و”اثنان” أيضًا فاعلٌ بِهِ تقديرُه: يَشهَدُ شهادةً اثنانِ، وهذا أحْسَنُ التَخاريجِ المَذكورةِ في قول امرئ القيسِ:
وقوفاً بها صَحْبي عليَّ مَطِيَّهم …………. يقولون لا تهلكْ أَسًى وتجمَّلِ
فـ “وُقوفًا” مصدرٌ بدلٌ مِنْ فعلٍ خَبَرِيٍّ رَفَعَ “صَحْبِي” ونَصَبَ “مَطِيَّهم” تقديرُهُ: وَقَفَ صَحْبِي، وقد تقدَّم أنَّ الفراءَ في قراءةِ الرفعِ قَدَّرَ أنَّ “شهادة” واقعةٌ موقعَ فعلٍ، وارتفع “اثنان” بها، وتقدَّمَ أنَّ ذلك يَجوزُ أنْ يَكونَ مِمَّا سَدَّ فيهِ الفاعِلُ مَسَدَّ الخَبَرِ. و”بينكم” في قراءةِ مَنْ نوَّن “شهادة” نصبٌ على الظرف وهي واضحةٌ .
وأمَّا قراءةُ الجَرِّ فيها فَمِنْ بابِ الاتِّساعِ في الظُرْوفِ أيْ بِجَعْلِ الظَرفِ كأنَّه مَفعولٌ لِذلك الفِعْلِ، ومثلُه: {هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} الكهف: 78. وكقولِه تعالى: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} الأنعام: 94. فيمن رفَعَ لأنَّ الأصلَ “ما بينكم” فحَذَفَ “ما”. و”بينكم” كنايةٌ عن التَنَازُعِ، لأنَّه إنَّما يُحتاجُ إلى الشُهودِ عندَ التَنازُعِ، وحَذْفُ “ما” جائزٌ عند ظُهورِهِ، ونظيرُه كقولُه تعالى: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكَمْ} في قراءة من نصب. قال أبو حيان: وحَذْفُ “ما” الموصولة غيرُ جائز عند البَصْريين، ومعَ الإِضافة لا يَصِحُّ تقديرُ “ما” البَتَّةَ، وليس قولُه: {هذا فِرَاقُ بَيْنِي} نظيرَ {لقد تقطَّع بينكم} لأنَّ هذا مضافٌ، وذلك باقٍ على ظرفيتِه فيُتَخَيَّلُ فيه حَذْفُ “ما” بخلاف “هذا فراقُ بيني” و”شهادةُ بينكم” فإنَّه لا يُتَخَيَّل فيه تقديرُ “ما” لأنَّ الإِضافة أخْرَجَتْه عن الظرفيَّة وصَيَّرَتْه مفعولاً بِهِ على السَعَةِ”. وقالَ أبو علي الجُرجانيُّ ـ رحمه الله: “قولُه شهادةُ بينكم” أي: ما بينَكم، و”ما بينكم” كنايةٌ عن التَنازُع والتَشاجُرِ، ثمَّ أضافَ الشهادةَ إلى التنازُعِ لأنَّ الشُهودَ إنَّما يُحُتاجُ إليهم في التَنَازُعِ الواقِعِ فيما بيْن القومِ، والعَرَبُ تُضيفُ الشيءَ إلى الشيءِ إذا كان مِنْه بِسبَبِ كقولِه تَعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه} الرحمن: 46. أيْ: مَقامَه بيْن يَدَيِّ رَبِّهِ، والعربُ تَحْذِفُ كثيرًا ذِكْرَ “ما” و”مَنْ” في الموضِعِ الذي يُحتاج إليْهما فيه كقولِه: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} الإِنسان: 20. أي: ما ثَمَّ، وكقولِه: {هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} و {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} أيْ ما بيني، وما بينكم.
وقولُه: {ذوا} صفةٌ لـ “اثنان” أيْ: صاحِبا عَدْلٍ، وكذلك قولُه: “منكم” صفةٌ أيْضًا لاثنين، وقولُه: {أَوْ آخَرَانِ} نَسَقٌ على “اثنان“، و”من غيركم” صفةٌ لآخَرَين والمرادُ بـ “منكم” من قرابِتكم وعِتْرَتِكم، ومن غيركم مِن المُسْلمينَ الأجانبِ وقيل: “منكم” من أهل دينكم، “ومن غيركم” من أهلِ الذِمة. ورجَّح النحاسُ الأولَ، فقال: هذا يَنْبني على معنىً غامضٍ في العربية، وذلك أنَّ معنى “آخر” في العربية من جنس الأولِ تقولُ: “مررت بكريمٍ وكريم آخر” ولا يجوز “وخسيس آخرَ” ولا: مررت بحمارٍ ورجلٍ آخرَ، فكذا هنا يجب أن يكون “أو آخَران“: أو عَدْلان آخران، والكفارُ لا يكونون عُدولًا. وردَّ الشيخ ذلك فقال: أمَّا ما ذَكَرَهُ مِنَ المُثُل فصحيحٌ لأنَّه مَثَّل بتأخيرِ “آخَر” وجَعَلَه صفةً لِغيْرِ جِنْسِ الأوَّلِ، وأمَّا الآيةُ فمِنْ قَبيلِ ما يُقَدَّمُ فيه “آخر” على الوصفِ وانْدَرَجَ “آخر” في الجِنْسِ الذي قبلَه، ولا يُعْتَبرُ وصفُ جِنْسِ الأوَّلِ، تقولُ: “مررتُ برجلٍ مسلمٍ وآخرَ كافرٍ، واشتريتُ فرسًا سابقًا وآخرَ بطيئًا” ولو أخَّرْتَ “آخر” في هذين المثالين فقلت: “مررتُ برجلٍ مُسلمٍ وكافرٍ آخَر” لم يَجُزْ، وليس الآيةُ مِنْ هذا لأنَّ تركيبَها “اثنان ذوا عَدْل منكم أو آخران من غيركم” فـ “آخران” من جنسِ قوله: “اثنان” ولا سيَّما إذا قَدَّرْته: “رجلان اثنان” فـ “آخران” هما من جِنْسِ “رجلان اثنان”، ولا يُعتَبَرُ وصفُ قولِهِ: “ذَوا عَدْلٍ مِنْكُم” وإنْ كان مُغَايِرًا لِقولِهِ: “مِنْ غيرِكم“، كما لا يُعتَبَرُ وصفُ الجِنْسِ في قولِكَ: “عندي رجلان اثنان مُسلِمان وآخران كافران”، إذْ ليسَ مِنْ شَرطِ “آخر” إذا تقدَّمَ أنْ يكونَ مِنْ جِنْسِ الأوَّلِ بقيدِ وصفِه، وعلى ذلك جاءَ لِسانُ العَرَبِ قال الشاعر:
كانوا فريقين يُصْفون الزِّجاجَ على ….. قُعْسِ الكواهلِ في أَشْداقِها ضَخَمُ
وآخَرين تَرَى الماذِيَّ فوقَهُمُ …………. مِنْ نَسْجِ داودَ او ما أَوْرَثَتْ إرَمُ
التقدير: كانوا فريقين: فريقًا ـ أو ناسًا ـ يُصْفون الزجاج، ثم قال: وآخرين ترى الماذِيَّ، فـ “آخرين” مِنْ جِنْسِ قولِكَ “فريقًا” ولم يَعتَبِرْهُ بوصفِه بقولِه: “يُصْفونَ الزجاجَ” لأنَّه قَسَّمَ مَنْ ذَكَرَ إلى قِسْمين مُتَبايِنَيْن بالوَصفِ مُتَّحِديْنِ بالجِنْسِ. قال: “وهذا الفرقُ قَلَّ مَنْ يَفْهَمُه فضْلاً عَمَّنْ يَعرِفُه”.
وقوله: {أو} الظاهرُ أنَّها للتَخْييرِ، وهو واضحٌ على القولِ بأنَّ معنى “من غيركم“. مِن غيرِ أَقاربِكم مِنَ المُسْلِمين، يَعني المُوصي مُخيَّرٌ بيْن أَنْ يُشْهِد اثْنَيْنِ مِنْ أَقارِبِه أوْ مِنَ الأَجانبِ المُسلمين، وقيلَ: “أو” للترتيب أي: لا يُعْدَلُ عن شاهدَيْن مِنْكم إلَّا عندَ فَقْدِهما، وهذا لايَجيءُ إلَّا إذا قُلنا “من غيركم“: مِنْ غيرِ أهلِ مِلَّتِكم.
قولُه: {إِنْ أَنتُمْ} أنتم: مرفوعٌ بمحذوفٍ يُفسِّرُه ما بعدَه وهي مَسألَةُ الاشْتِغالِ، والتَقديرُ: إنْ ضَرَبْتُم، فلمَّا حُذِفَ الفعلُ انْفَصَلَ الضميرُ، وهذا مذهبُ جُمهورِ البَصْريِّين، وذَهَبَ الأخفشُ منهم والكوفِيُّون إلى جَوازِ وقوعِ المُبْتَدَأِ بعدَ “إنْ” الشَرْطِيَّةِ كما أَجازوه بعدَ “إذا” أيْضًا، فـ “ضَرَبْتُمْ” لا مَحَلَّ لَهُ عندَ الجُمهورِ لِكونِهِ مُفسِّرًا، ومَحَلُّهُ الرَّفْعُ عندَ الكُوفِيِّين والأَخفشِ لِكَوْنِهِ خَبرًا، ونحوُه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارَكَ} التَوبة: 6، و{إِذَا الشمس كُوِّرَتْ} التكوير: 1. وجوابُ الشرطِ محذوفٌ يَدلُّ عليْه قولُه تعالى: {اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ} ولكنَّ تقديرَ هذا الجوابِ يَتَوقَّفُ على خِلافٍ في هذا الشَرْطِ: هل هُو قَيْدٌ في أَصْلِ الشَهادةِ أوْ قيْدٌ في “آخران مِنْ غيركم” فقط؟ بمَعنى أنَّه لا يَجوزُ العُدولُ في الشَهادةِ على الوَصيَّةِ إلى أَهْلِ الذِمَّةِ إلَّا بِشَرْطِ الضَرْبِ في الأرضِ وهو السَفَرُ. فإنْ قيلَ: هو شَرْطٌ في أَصْلِ الشَهادةِ فتَقديرُ الجوابِ: إنْ ضَرَبْتُم في الأرضِ فلْيَشهدِ اثْنانِ مِنكم أوْ مِنْ غيرِكم، وإنْ كان شَرَطاً في العَدولِ إلى آخَرَيْنِ مِنْ غيرِ المِلَّةِ فالتَقديرُ: فأشْهِدُوا آخَرَيْن مِنْ غيرِكم، أو فالشاهدُ آخران مِنْ غيرِكم، فقدْ ظَهَرَ أنَّ الدالَّ على جوابِ الشَرْطِ: إمَّا مجموعُ قولِه: “اثنان ذوا عدل..” إلى آخره، على القولِ الأوَّلِ، وإمَّا “أوْ آخران من غيركم” فقط على القولِ الثاني. والفاءُ في “فأصابتكم” عاطفةٌ هذه الجملةَ على نفسِ الشرطِ،
وقولُه: {تَحْبِسُونَهُمَا} في محلِّ رفعٍ صفةً لـ “آخران” وعلى هذا فالجُملةُ الشَرْطِيَّةُ وما عُطِفَ عَليْها مُعْتَرِضَةٌ بيْنَ الصِفَةِ ومَوْصوفِها، فإنَّ قولَه: “تَحْبسونهما” صفةٌ لقولِه: “آخران” وإلى هذا ذهب الفارسيُّ ومَكِيُّ بْنُ أبي طالبٍ والحُوفِيُّ وأبو البقاء وابنْ عَطِيَّةَ، وقدْ أوضحَ الفارسيُّ ذلك بعبارةٍ خاصَّةٍ فقال: “تحبسونهما” صفةٌ لـ “آخران” واعترض بقولِه: {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرضِ} وأَفَادَ الاعتراضُ أنَّ العُدولَ إلى “آخريْن” مِنْ غيرِ المِلَّةِ أوْ القَرابةِ حَسبَ اختِلافِ العُلَماءِ فيه إنَّما يَكونُ معَ ضرورةِ السَفَرِ وحُلولِ المَوْتِ فيه، واسْتَغْنى عنْ جوابِ “إنْ” لِما تقدَّم في قولِه “آخران من غيركم” فقد ظهَرَ مِنْ كلامه أنْ يَجعلُ الشرطَ قيْدًا في “آخران من غيركم” فقط لا قيدًا في أصلِ الشَهادةِ، فتَقْديرُ الجوابِ على رأيِهِ كما تقدَّمَ: فاسْتَشْهِدوا آخَرَين من غيركم “أو” فالشاهدان آخران مِن غَيْركِم. أو أنَّ “تحبسونَهُما” لا محَلَّ لَهُ لاسْتِئْنافِهِ، وإليْه ذَهَبَ الزَمَخْشَرِيُّ قال: فإنْ قلتَ: ما موقعُ قولِه: “تَحْبِسُونَهُمَا“؟ قلتُ: هو استئنافُ كلامٍ، كأنَّه قيلَ: بعدَ اشْتِراطِ العَدالةِ فيهِما: فكيْفَ نعمَلُ إنْ ارتَبْنا فيهِمِا؟ فقيل: “تَحْبِسونهما“. وهذا الذي ذكرَه أبو القاسم أوفقُ للصِناعَةِ؛ لأنَّه يَلزَمُ في الأوَّلِ الفصلُ بكلامٍ طويلٍ بيْنَ الصِفَةِ وموصوفِها، وقال: “اشتراطِ العدالة” بناءً على ما اختارَه في قولِه: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي: أو عَدْلان مِنْ الأَجانِبِ. قال الشيخُ: في قولِه: “إن أنتم ضربتم” إلى آخرِهِ الْتِفاتٌ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الخِطابِ، إذْ لو جَرَى على لَفَظِ “إذا حضَر أحدَكم الموتُ” لكان التركيب: إنْ هو ضَرَبَ في الأرضِ فاصابَتْه، وإنَّما جاءَ الالتفاتُ جمعًا لأنَّ “أحكم” معناه : إذا حَضَرَ كُلَّ واحدٍ منكمُ الموتُ. وفيه نظرٌ لأنَّ الخِطابَ جارٍ على أُسلوبِ الخِطابِ الأَوَّلِ مِنْ قولِه: “يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ” إلى آخره. وقال ابْنُ عبَّاسٍ: في الكلامِ حذفٌ تقديرُه: فأَصابتْكم مُصيبةُ المَوتِ وقدْ أَشْهَدْتًموهُما على الإِيصاءِ. وعن سعيدٍ بْنِ جُبيْرٍ: تقديرُه “وقد أوصيتم“. قال بعضُهم: هذا أَوْلى لأنَّ الوصِيَّ يَحلِفُ والشاهدَ لا يَحْلِفُ. والخِطابُ في “تحبسونهما” لِوُلاةِ الأُمورِ لا لِمَنْ خُوطِبَ بإصابتِه الموتَ لأنَّه يَتَعَذَّرُ ذلك فيه. و”من بعد” متعلِّقٌ بـ “تَحْبِسونَهُما” ومعنى الحَبْسِ: المَنْعُ، يُقالُ: حَبَسْتُ وأَحَبَسْتُ فرسي في سبيلِ اللهِ فهو مُحْبَسٌ وحَبيسٌ. ويُقالُ لِمَصْنَعِ الماءِ: “حَبَس” لأنَّه يَمْنَعُهُ، ويُقال: “حَبَّستُ” بالتَشديدِ أيْضًا بمَعنى وقَفْتُ وسَبَلْتُ؛ وقد يَكون التَشديدُ للتَكثيرِ في الفِعْلِ نحو: “حَبَّسْتُ الرجال”. والألف واللامُ في “الصلاة” إمّا للجِنْسِ أي: بعدَ أيِّ صلاةٍ كانت. وإمّا للعهد، ـ وهو الظاهر ـ فقيلَ: العَصر، وقيل غيرُ ذلك.
قولُه: {فَيُقْسِمَانِ} الفاء الأظهر أنَّها عاطفةُ هذه الجُملةِ على جملةِ “تَحْبِسُونَهُمَا” فتكون في محلِّ رفعٍ، أو لا محلَّ لها حَسْبَما تقدَّمَ مِنْ الخِلافِ. ويمكِنُ أنْ تَكونَ فاءَ الجزاءِ أي: جَوابُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ. قالَ الفارسيُّ: وإنْ شئتَ لم تَجْعَلِ الفاءَ لِعَطْفِ جُملةٍ، بلْ تَجعلُها جَزاءً كقولِ ذي الرِّمَّةِ:
وإنسانُ عيني يَحْسِرُ الماءُ تارةً ………….. فيبدو، وتاراتٍ يَجُمُّ فيَغْرَقُ
تقديرُه عندهم: إذا حَسَرَ بَدا، وكذا في الآيةِ: إذا حَبَسْتموهما أَقْسَما. وقال مَكِيٌّ نحوَه، فإنَّه قال: و”يجوزُ اَنْ تكونَ الفاءُ جوابَ جزاءٍ لأنَّ “تحسبونهما” معناهُ الأمرُ بذلك، وهو جوابُ الأمرِ الذي دلَّ عليه الكلامُ كأنَّه قال: إذا حَبَستموهُما أَقْسَما. ولا حاجةَ تدعو إلى تقديرِ شرطٍ مَحذوفٍ، وأيضًا فإنَّه يُحْوِجُ إلى حذفِ مبتدأ قبلَ قولِه: “فَيُقْسِمَانِ” أي: فهُما يُقْسِمان، وأيْضًا فـ “تَحْبِسونَهُما” تقدَّم أنَّها صفةٌ فكيف يَجْعَلُها بمعنى الأمرِ، والطلبُ لا يَقعُ وصفًا؟ وأمَّا البيتُ الذي أنشدَه أبو عليٍّ فَخَرَّجَه النَّحْويّونَ على أنَّ “يَحْسِر الماءُ تارة” جملةٌ خَبَريَّةٌ، وهي إنْ لم يَكُنْ فيها رابطٌ فقد عُطِفَ عليْها جُملةٌ فيها رابِطٌ بالفاءِ السَبَبِيَّةِ، وفاءُ السَبَبِيَّةِ جَعَلَتِ الجُملتيْنِ شيئًا واحدًا.
وقولُه: {بالله} متعلِّقٌ بفعلِ القَسَمِ، وقد تقدَّم أنَّه لا يَجوزُ إظهارُ فعل القَسَمِ إلَّا مَعَها لأنَّها أمُّ البابِ.
وقولُه: {لاَ نَشْتَرِي بِهِ} جَوابُ القَسَمِ المُضْمَرِ في “يُقْسِمان” فتُلُقِّي بما يُتَلَقَّى بِه.
وقولُه: {إِنِ ارتبتم} شرطٌ وجوابُه محذوفٌ تقديرُه: إنِ ارْتَبْتُمْ فيهِما فَحَلِّفُوهُما، وهذا الشرطُ وجَوابُه المُقدَّرُ مُعْتَرِضٌ بيْن القَسَمِ وجَوابِه، وليست هذه الآيةُ مِمَّا اجْتَمَعَ فيْه شَرْطٌ وقَسَمٌ فأُجيبَ سابِقُهُما، وحُذِفَ جوابُ الآخرِ لِدَلالَةِ جوابِه عليْه؛ لأنَّ تلكَ المسألةَ شَرْطُها أنْ يَكونَ جوابُ القَسَمِ صالحًاً لأنْ يَكونَ جَوابَ الشَرْطِ حتَّى يَسُدَّ مَسَدَّ جَوابِه نحو: “واللهِ إنْ تَأتِ لأُكْرِمَنَّك” لأنَّك لو قَدَّرْتَ “إنْ تَأْتِ أَكْرَمْتُكْ” صَحَّ، وهنا لا يُقَدَّرُ جَوابُ الشَرْطِ ما هو جوابٌ للقَسَمِ، بَلْ يُقَدَّرُ جَوابُهُ قَسَمًا برأسِهِ، ألَا تَرى أَنَّ تقديرَهُ هُنا: “إنِ ارْتَبْتُمْ حَلِّفُوهُما” ولو قَدًّرْتَه: إنْ ارْتَبْتُمْ فلا نَشْتَري لَمْ يَصِحَّ، فقد اتَّفَقَ هُنا أَنَّهُ اجْتَمَعَ شَرْطٌ وقَسَمٌ وقدْ أُجيبَ سابِقَهُما، وحُذِفَ جوابُ الآخَرِ وليس مِنْ تِيكَ القاعدةِ. وقال الجُرجاني: إنَّ ثَمَّ قولًا محذوفًا تقديرُه يُقْسِمان بالله ويَقولان هذا القولَ في أَيْمانِهِما، والعَرَبُ تُضْمِرُ القولَ كثيرًا، كقوله تعالى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم} الرعد: 23 و 24. أيْ: يقولونَ سَلامٌ عليكم.
قولُه: {به} الهاءُ عائدةٌ على اللهِ تَعالى، أو على القَسَمِ. أو على تحريفِ الشهادةِ، وهذا قَويٌّ مِنْ حيثُ المَعنى. وقال أبو البقاء: تعودُ على اللهِ أو القسمِ أو الحَلْفِ أو اليمينِ أو تحريفِ الشهادةِ أو على الشهادِة لأنَّها قولٌ. وقولُه “أو الحَلْف أو اليمين” لا فائدةَ فيه إذْ هُما شيءٌ واحدٌ، وكذلك قولُ مَنْ قال: إنَّه تعودُ على الله تعالى، لا بُدَّ أنْ يُقدِّرَ مُضافًا محذوفًا أيْ: لا نَشْتَري بيَمينِ اللهِ أوْ قَسَمِهِ ونحوِه، لأنَّ الذاتَ المُقَدَّسَةَ لا يُقالُ فيها ذلك. وقال مَكِيٌّ: وقيل: الهاءُ تعودُ على الشهادةِ لكنْ ذُكِّرَتْ لأنَّها قولٌ، كما قال: {فارزقوهم مِّنْهُ} النساء: 8. فرَدَّ الهاءَ على المقسومِ لِدَلالةِ القِسْمَةِ على ذلك. والاشْتِراءُ هُنا على حقيقتِه وهو الأظهرُ وقيلَ يُرادُ بِه البَيعُ، وبيانُ ذلك مَبنيٌّ على نَصْبِ “ثمنًا” وهو منصوبٌ على المَفعولِيَّةِ، قالَ الفارسِيُّ: وتقديرُه: لا نَشْتَري بِهِ ذا ثَمَنٍ، ألَا تَرى أنَّ الثَمَنَ لا يُشْترى، وإنَّما يُشْترى ذُو الثَمَنِ، قال: وليسَ الاشْتِراءُ هُنا بمعنى البيعِ وإنْ جاءَ لُغَةً، لأنَّ البيعَ إبْعادٌ عَنِ البائعِ، وليسَ المَعنى عليه، إنَّما مَعناه التَمَسُّكُ بِهِ والإِيثارُ لَهُ على الحَقِّ. وقالَ مَكِيٌّ: مَعناه ذا ثَمَنٍ، لأنَّ الثَمَنَ لا يُشْتَرى، وإنَّما يُشْتَرى ذو الثَمَنِ، وهو كقولِه: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا} التوبة: 9. أي ذا ثَمَنٍ. وقال أبو البَقاءِ: ولا حَذْفَ فيه لأنَّ الثَمَنَ يُشْتَرى كَما يُشْتَرَى بِهِ، وقال بعضُهم: لا نَشْتري: أي لا نَبيعُ بعهدِ الله بعَرَضٍ نَاخُذُهُ، كقولِه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً} آل عمران: 77.، فمَعنى {لاَ نَشْتَرِي بِهِ} لا نأخذُ ولا نَسْتَبْدِلُ، ومَنْ باعَ شيئًا فقد اشْتَرى، ومعنى الآيةِ: لا نأخُذُ بعهدِ اللهِ ثَمَنًا بأنْ نَبيعَه بعَرَضٍ مِنَ الدُنيا.
قولُه: {وَلَوْ كَانَ ذَا قربى} الواوُ هنا كالتي سَبَقَتْ في قولِه: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} البقرة، الآية: 170. مِنْ أنَّه يُحْتَمَلُ أنْ تكون عاطفةً أوْ حاليَّةً، وأنَّ جُملةَ الامْتِناعِ حالٌ معطوفةٌ على حالٍ مُقَدَّرَةٍ كقولِه: “اعطُوا السائلَ ولو على فَرَسٍ” فكذا هُنا تقديرُه: لا نَشْتري بِه ثَمَنًا في كلِّ حالٍ ولو كانَ الحالُ كَذا، واسْمُ “كان” مضمرٌ فيها يعودُ على المَشهودِ له: أيْ: ولو كانَ المشهودُ له ذَا قَرابةٍ.
قوله: {وَلاَ نَكْتُمُ} الجمهورُ على رفعِ مِيمِ “نكتُم” على أنَّ “لا” نافيةٌ، والجُملةُ إمّا نَسَقٌ على جوابِ القَسَمِ ـ وهو الظاهرُ ـ وهي مُقْسَمٌ عليها أيضًا. أو هي إخبارٌ مِنْ أَنْفُسِهم بأنَّهم لا يَكتُمون الشَهادَةَ، ويُؤيِّدُ هذا قراءةُ الحَسَنِ والشَعْبِيِّ: “ولا نَكْتُمْ” على النَهْيِ، وهذِه القراءةُ جاءتْ على القَليلِ مِنْ حَيْثُ إنَّ دُخولَ “لا” الناهية على فعلِ المُتَكَلِّمِ قليلٌ، ومنه.
إذا ما خَرَجْنا مِنْ دمشقَ فلا نَعُدْ ………. بها أبدًا ما دامَ فيها الجَراضِمُ
والجمهورُ على “شهادة اللهِ” بالإِضافة، وهي مفعولٌ بِها، وأُضيفتْ إليْه تَعالى لأنَّه هو الآمرُ بها وبحِفْظِها وأَنْ لا تُكْتَمَ ولا تُضَيِّعَ. وقرأ أميرُ المؤمنين عليُّ ونعيم بنْ مَيْسرةَ والشَعْبِيُّ ـ رضي اللهُ عنهم ـ في رواية: “شهادةً اللهَ” بتنوين شهادة ونصبِها ونصبِ الجَلالة، وهي واضحةٌ، فـ “شهادةً” مفعولٌ ثانٍ، والجلالةُ نصبٌ على التَعظيمِ وهي الأوَّلُ. والأص