وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ.
(104)
قولُه جلَّ وعلا: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا} وَإذا دُعي هؤلاء المُلْحِدون إلَى مَا شَرَعَهُ اللهُ وَأَوْجَبَهُ، فِي القُرْآنِ الكريم، مِنَ الأَحْكَامِ المُؤَيَّدَةِ بِالحُجَجِ وَالأَدِلَّةِ، وَإلَى رَسُولِهِ المُبَيِّنِ لِمُجْمَلِ هَذِهِ الأحْكَامِ، وَإلَى تَرْكِ مَا حَرَّمَهُ اللهُ قالوا: يَكفينا ما وَجَدْنا عليْه آباءَنا، فهم لَنَا أَئِمَّةٌ وقادَة ولا نَبْغي زِيادَةً، وهُمْ بذلك يُصرُّون على التقليدِ الأَعْمى حتَّى لو كان آباؤهم لا يعلَمون شيئًا مِنَ الشَرائِعِ، ولا يَهتدون الى الصواب سبيلًا.
وقال أبو جعفرٍ: يَقولُ ـ تَعالى ذِكْرُهُ: وإذا قيلَ لِهؤلاءِ الذين يَبْحَرونَ البَحائرَ ويُسَيِّبونَ السَوائبَ؟ الذينَ لا يَعقلونَ أنَّهم بإضافتِهم تحريمَ ذلك إلى الله ـ تعالى ـ يفترون على الله الكذبَ: تعالوا إلى تنزيلِ اللهِ وآيِ كتابِهِ وإلى رَسولِهِ، لِيَتَبَيَّنَ لكم كَذِبُ قِيلِكم فيمَا تُضيفونَه إلى اللهِ مِنْ تَحريمِكم ما تُحرِّمون مِنْ هذه الأشياءِ، أَجابوا مَنْ دَعاهم إلى ذلك بأن يقولوا: حَسْبُنا ما وَجَدْنا عليْه مَنْ قَبْلَنا من آبائنا يَعمَلون بِه، ويقولون: "نحنُ لهم تَبَعٌ وهُم لَنا أَئِمَّةٌ وقادةٌ، وقدِ اكْتَفَيْنا بِما أَخَذْنا عنْهم، ورَضينا بِما كانوا عليْه مِنْ تحريمٍ وتَحليلٍ.
قولُهُ: {أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} يخاطبُ الله ـ تعالى ذكرُه ـ لِنبيِّهِ محمدٍ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ: أوَ لو كان آباءُ هؤلاءِ القائلين هذه المَقالَةِ لا يَعلَمونَ شيئًا؟ يَقولُ: لم يَكونوا يعلمون أنَّ ما يُضيفونَه إلى الله ـ تعالى ـ من تحريمِ البَحيرة والسائبةَ والوَصيلَةِ والحَامِ، كذبٌ وفِرْيَةٌ على الله، لا حَقيقةَ لذلك ولا صِحَّةَ، لأنَّهم كانوا أَتْباعَ المُفتَرين الذين ابتَدَءوا تحريمَ ذَلك، افْتِراءً على اللهِ بقِيلِهم ما كانوا يَقولون مِنْ إضافَتِهم إلى اللهِ ـ تعالى ـ ما يُضيفون، ولا كانوا فيما هم بِه عاملون مِنْ ذلك على اسْتِقامَةٍ وصوابٍ، بل كانوا على ضلالةٍ وخَطَأٍ.
قوله تعالى: {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} حسبنا: مبتدأٌ وقدْ تقدَّمَ أنَّه في الأصْلِ مَصْدرٌ والمُرادُ بِهِ اسْمُ الفاعِلِ أيْ: كافينا، وتفسيرُ ابْنِ عطيَّةَ له بـ "كفانا" تفسيرُ معنىً لا إعراب. و"ما وَجَدْنا" هو الخبر، و"ما" ظاهرُها أنَّها مَوْصولةٌ اسْمِيَّةٌ، ويَجوزُ أنْ تَكونَ نَكِرَةً مَوْصوفةً أي: كافينا الذي وجدْنا، و"وَجَد" يَجوزُ أنْ يَكونَ بمَعنى المُصادَفَةِ، فـ "عليه" يَجوزُ أنَّه متعلِّقٌ بـ "وجدنا" وأنَّه مُتَعَدٍّ لواحدٍ. أو أنَّه حالٌ مِنْ "آباءنا" أي وجدناهم مُستَقرّينَ عليْه، ويَجوزُ أنْ يَكونَ بمَعنى العِلْمِ فيَتَعدَّى لاثْنَيْن ثانيهما "عليه".
وقوله: {أَوَ لَوْ كَانَ} قدْ تقدَّمَ إعرابُ هذا في البَقَرَةِ وما قالوا فيه: وأنَّ "لو" هنا معناها الشَرْطُ وأنَّ الواوَ للحال، إلَّا أنَّ ابْنَ عطيَّةَ قال هنا. "ألفُ التوقيفِ دَخَلَتْ على واو العطفِ" قلت: "تسميةُ هذه الهمزةِ للتوقيفِ فيه غرابةٌ في الاصطِلاح. وجَعَل الزمخشريُّ هذه الواوَ للحال، وابنُ عطيَّةَ جَعلها عاطفةً، وتقدَّم الجمعُ بيْن كلامِهِما في البقرة، واختلاف الألفاظ في هاتين الآيتين ـ أعني أيةَ البقرةِ وآيةَ المائدةِ ـ منْ نحوِ قولِه هناك: {اتّبعوا} وهنا "تعالَوْا" وهناك {أَلْفَيْنا} وهنا "وجدنا" من بابِ التَفَنُّنِ
في البَلاغَةِ، فلا تُطْلَبُ له مناسبةٌ.