فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ. (85)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ} أي بسببِ قولِهم أو بالذي قالوهُ عَنِ اعتقادٍ أثابهم اللهُ جَنَّاتٍ.. وهذا دَلِيلٌ عَلَى إِخْلَاصِ إِيمَانِهِمْ وَصِدْقِ مَقَالِهِمْ، لأنَّ اللهَ لا يَقْبَلُ مِنْ عبدِهِ إلَّا ما خَلُصَ لِوجهِهِ الكريمِ مِنْ قولٍ أوْ عَمَلٍ، وما توجَّه القلبُ به له وحده من سُؤْلٍ، والله ـ سبحانَه وتعالى ـ يَعلَمُ السِرَّ وأَخفى، ولا تَخفى عليه خافيةٌ، فَإذا علم من عبه صدق توجهه إليه بالسؤالِ أَجَابَ سُؤَالَهُ وَحَقَّقَ طَمَعَهُ ـ وَهَكَذَا كلُّ مَنْ خَلَصَ إِيمَانُهُ وَصَدَقَ يَقِينُهُ يَكُونُ ثَوَابُهُ الْجَنَّةَ.
وقيل: إنَّ القولَ هنا مَجازٌ عنِ الرَأْيِ والاعتقادِ والمَذْهَبِ كما يُقالُ: هذا قولُ الإمامِ الأَعظمِ ـ رضيَ اللهُ تعالى عنه ـ مَثَلًا أيْ هذا مذهبُه واعتقادُه. وذَهَبَ كَثيرٌ مِنَ المُفَسِّرين إلى أنَّ المُرادَ بهذا القولِ قولُهم: {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ} المائدة: 84. الخ. واسْتَظْهَرَ أبو حيَّان أَنَّه عَنى به قولُهم: {رَبَّنَا ءامَنَّا} المائدة: 83. وعنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ تعالى عنه ـ وعطاءٍ، أنَّ المُرادَ بِه {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} المائدة: 83. وقولُهم {وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا} المائدة: 84. وقيل هي كلمةُ الحق التي قالَها نَجاشيُّ الحبشةِ ـ رضي اللهُ عنه ـ لأهلِ الجاهِ مِنْ قريشٍ الذين استبدَّ بهِمُ باطلُهم؛ لذلك كان لِهذه الكَلِمَةِ وزنُها، فعندَما سَمِعَ ما نَزلَ مِنَ القُرآنِ مِن سورةِ مريمَ قال: إنَّ هذا والذي جاءَ بِهِ عيسى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشكاةٍ واحدةٍ. وكان قولُ النجاشيِّ عظيمًا، لكنَّ العُمرَ قد قَصُرَ بِه عن اسْتِمرارِ العملِ بِما قال. فقد قالَ كلمتَه وجاءَه التَوْكيلُ مِنْ رَسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ لِيَعْقُدَ للرسولِ على أُمِّ حَبيبةَ بِنْتِ أَبي سُفيانٍ ـ رضي الله عنهم ـ فعَقَدَ عليها وَكيلًا عن رسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّمَ ـ وأَمهرَها مِنْ مالِهِ ثمَّ مات، ولم تَكُنْ أَحكامُ الإسْلامِ قدْ وَصَلَتْ إليْهِ لِيُطَبِّقَها؛ لِذلك كان يَكفيهِ أنَّه قالَ هذا القولَ، ولذلك صلى النبيُّ عليه صلاةَ الغائبِ.
وهناك أَيْضًا قِصَّةُ "مُخَيْرِيقٍ" اليهوديِّ ـ رضيَ اللهُ عنه. لقد تَشَرَّبَ قلبُه الإسلامَ وامْتَلَأَ بِهِ ـ وكان في غايةِ الثَراءِ ـ فقالَ لليهودِ: كلُّ مالي لِمُحَمَّدٍ وسَأَخْرُجُ لِأُحارِبَ معَه. وخَرَجَ إلى القِتالِ مَعَ رَسولِ اللهِ ـ صلى الله عليْه وسَلَّمَ ـ فقُتِلَ فماتَ شهيدًا، وهو لمْ يَكُنْ قدْ صلّى في حياتِه كلِّها رَكْعَةً واحدةً. إذًا فالقولُ فَتْحٌ لِمَجالِ الفعل.
والحقُّ يُريدُ أنْ يُؤكِّدَ لَنا أَنْ كلَّ حركةٍ إيمانِيَّةٍ حتَّى ولو كانتْ قولًا إنَّما تَأْخُذُ كَمالَها مِنْ عُمرِها. والإيمانُ في مكَّةَ كان بالقولِ وحسب. ذلك أنَّ الناسَ آمنتْ ولم تَكنِ الأحكامُ قدْ نَزَلَتْ، فغالِبِيَّةُ الأَحكامِ نَزَلَتْ في المدينةِ. وعلى ذلك أَثابَ اللهُ المؤمنين لِمُجَرَّدِ نُطقهم بكلمةِ الإيمان، ولم يَكنِ الحَقُّ ـ سبحانه ـ قد أَمَرَ بالبلاغِ الشامِلِ وهو قولُه: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقربين} الشعراء: 214.
قولُهُ: {فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} قرأَ الجمهورُ "فأثابهم" وقَرَأَ الحسنُ: "فآتاهم" مِنْ آتاه كذا أي: أعطاه، والقراءةُ الشهيرةُ أَوْلى؛ لأنَّ الإِثابةَ فيها مَنْبَهَةٌ على أنَّ ذلك لأجلِ عملٍ، بخلافِ الإِيتاءِ، فإنَّه يكونُ على عملٍ وعلى غيرِه.
وقولُه: {جَنَّاتٍ} مفعول ثان لـ "أثابَهم" أو لـ "آتاهم" عل حَسَبِ القراءتين.
وقولُهُ: {تجري من تحتها الأنهار} في محلِّ نصبٍ صفةً لـ "جنّاتٍ". و"خالدين" حالٌ مقدرةٌ.
وقوله: {وذلك جَزَاء} مبتدأٌ وخبرٌ، وأُشير بـ "ذلك" إلى الثوابِ أو الإِيتاءِ.
وقولُهُ: {المحسنين} يُحتَمَلُ أنْ يكونَ مِنْ بابِ إقامةِ الظاهرِ مُقامَ المُضْمَرِ، والأصلُ: "وذلك جزاؤُهم" وإنَّما ذُكِرَ وصفُهم الشريفُ مَنْبَهَةً على أنَّ هذه الخَصْلَة محصِّلةُ جزائهم بالخَير، ويُحتَمَلُ أنْ يُرادَ كلُّ مُحْسِنٍ، فيَندَرِجون انْدِراجًا أوَّليًّا.