وَما لَنا لَا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ. (84)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَما لَنا لَا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ} الاسْتِفهامُ إنكاريٌّ هنا وفيه معنى التَعَجُّبِ، بَيَّنَ اسْتِبْصَارَهُمْ فِي الدِّينِ، أَيْ يَقُولُونَ وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ، أَيْ وَمَا لَنَا تَارِكِينَ الْإِيمَانَ. وهو إنْكارٌ للوُقُوعِ، فهو بمَعْنى نَفيِ أَنٍ يَحدُثَ مِنهم عدمُ الإيمانِ لأنَّ مُوجِبَ الإيمانِ قد وُجِدَ، وهو الإيمانُ بالله ـ جَلَّ جَلالُه ـ والحقِّ الذي جاءَ إليهم وخُوطِبوا بِه، ولا يُوجَدُ أيُّ مانعٍ يَمْنَعُهم مِنَ الإيمان، فالسَبَبُ قد تَحقَّقَ ولا مانعَ، والاستِفهامُ بمَعنى النَفيِ، وهو داخلٌ على نفيٍ، ونفيُ النفيِ إثباتُ، فمَعناهُ إصرارٌ على الإيمان، وقولُه تعالى: "لا نُؤمِنُ باللهِ"، حالٌ ممَّا دَخَلَ عليْه النَفْيُ، وصاحبُ الحالِ هو: "نا".
والكلامُ يُومِئُ إلى أنَّه كان هناك اعْتِراضٌ، وكان كلامُهم للرَدِّ على هذا الاعْتِراضِ، والتاريخُ يُثْبِتُ أنَّه كان اعْتِراضًا على مَنْ آمَنَ مِنْ هؤلاءِ النَّصارى، والمَنْطِقُ النَّفسِيُّ للجَماعاتِ في قديمِها وحديثِها أنْ تَسْتَنْكِرَ مَنْ يُغَيِّرُ دينَه إلى دينِ الحَقِّ الذي ارْتَآهُ، وهؤلاءِ مِنَ الذي قال ـ تعالى ـ فيهم: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ} آل عمران: 199. وقال فيهم سبحانَه: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} (52). وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} (53). {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} القَصَص: 55. وإنَّ إيمانَهم هذا وإذعانَهم للحَقَّ في وسَطِ إنكارِهم لم يَجعَلْهُم يَجزِمون بالجَزاءِ في الآخرةِ، بلْ كانوا حقًّا كصادِقِيّ الإيمان يَطمعون لَا في الجَزاءِ وحدَهُ بَل يَطمعون في أن يكونوا مع أهل الإيمان الذين يجمعُهم الصلاحُ في الأعمال.
قولُه" {وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} أَيْ مَعَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ} الأنبياء: 105. يُرِيدُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ أَيْ نَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا ربُّنا الجَنَّةَ. فهم لِقُوَّةِ إيمانِهم يَسْتَصْغِرون ما عَمِلوا، ويَطْمعون في أنْ يُدخِلَهم ربُّهم مع الذين اختارَهم واصطفاهم، وهمُ الصالحون المُصلِحون، وهو شأنُ المؤمنِ المُخلِصِ يَسْتَقِلُّ عملَه بِجِوارِ أنْعُمِ اللهِ تعالى عليْه، وليس حالُهم كَحالِ الذين يَمُنُّونَ على اللهِ تعالى إذ قال فيهم: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَا تَمنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} الحجُرات: 17.
قوله تعالى: {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ} ما: استفهاميَّةٌ في محلِّ رَفْعٍ بالابتداءِ، و"لنا" جارٌّ ومجرورٌ خبرُه، والتقديرُ: أيُّ شيءٍ اسْتَقَرَّ لنا؟، و"لا نؤمن" جمًلةٌ حاليَّةٌ. وقد تقدَّمَ نَظيرُ هذه الآيةِ والكلامُ عليها، وأنَّ بعضَهم قال: إنَّها حالٌ لازمةٌ لا يَتِمُّ المَعنى إلَّا بها نحوَ: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} المدثر: 49، وهي المَقصودُ وفي ذِكْرِها فائدةُ الكلامِ، وذلك كما تقول: "جاء زيدٌ راكبًا" لِمَنْ سألَ: هل جاء زيدٌ ماشيًا أو راكبًا؟.
قولُه: {وَمَا جَاءَنَا} في محلِّ "ما" وجهان، أَحَدُهُما: أنَّه مَجْرورٌ نَسَقًا على الجَلالةِ أيْ: باللهِ وبِما جاءَنا، وعلى هذا فقوله: "من الحق" حالٌ مِنْ فاعلِ "جاءنا" أيْ: جاءَ حالَ كونِهِ مِنْ جِنْسِ الحَقِّ. ويُحتَمَلُ: أنْ تَكونَ "مِنْ" لابْتِداءِ الغايةِ، والمُرادُ بالحقِّ الباري تعالى، وتتعلَّقُ "مِنْ" حينئذ بـ "جاءنا" كقولِكَ: جاءَنا فُلان مِنْ عِنْدِ زيدٍ، والثاني: أنَّ محلَّه رفعٌ بالابتداء، والخبرُ قولُه: {مِنَ الحَقِّ} والجملةُ في مَوضِعِ الحالِ، كَذا قالَه أَبو البَقاءِ ويَصيرُ التَقديرُ: وما لَنا لا نؤمِنْ باللهِ والحالُ أَنَّ الذي جاءنا كائنٌ مِنَ الحَقِّ، "والحقُّ" يَجوزُ أنْ يُرادَ بِهِ القرآنُ فإنَّه حقُّ في نفسِه، ويَجوزُ أنْ يُرادَ بِه الباري تعالى ـ كما تقدَّم ـ والعاملُ فيها الاستقرارُ الذي تضمَّنه قولُه "لنا".
وقولُه: {وَنَطْمَعُ} في هذه الجملةِ ستَّةُ أوْجُهٍ، هي:
الأَوَّلُ: أنَّها مَنصوبةٌ المَحلِّ نَسَقًا على المَحْكِيِّ بالقَولِ قبلَها أيْ: يَقولونَ كذا ويَقولون نَطمَعُ وهو معنًى حَسَنٌ.
الثاني: أنَّها في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ مِنْ الضميرِ المُستتِرِ في الجَارِّ الواقعِ خَبَرًا وهو "لنا" لأنَّه تَضَمَّنَ الاستقرارَ، فَرَفَعَ الضَميرَ وعَمِلَ في الحالِ، وإلى هذا ذَهَبَ أَبو القاسِمِ فإنَّه قال: والواوُ في "ونَطمَعُ" واوُ الحالِ، والعاملُ في الحالِ الأُولى ما في اللامِ مِنْ معنى الفِعْلِ كأنَّه قيلَ: أيُّ شيءٍ حَصَل لنا غيرَ مُؤمنين، والعاملُ في الثانيةِ معنى هذا الفعلِ ولكنْ مُقيَّدًا بالحالِ الأُولى لأنَّك لو أَزَلْتَها وقلتَ: ما لنا ونطمعُ لم يكنْ كلامًاً. ولكننَّا إذا أَزَلْناها وأَتينا بـ "نطمع" لم نأتِ بها مُقتَرَنَةً بحرفِ العطفِ، بَلْ مُجَرَّدَةٌ مِنْه لِنُحِلَّها مَحَلَّ الأُولى، فالنَّحْويون إذا وَضعوا المَعطوفَ مَوْضِعَ المَعطوفِ عليْه وَضَعوهُ مُجرَّدًا مِنْ حرفِ العَطفِ، وهذا الوجْهُ مردودٌ بشيئين، أَحَدُهُما: أنَّ العاملَ لا يَقتَضي أَكثرَ مِنْ حالٍ واحدةٍ إذا كان صاحبُه مُفردًا دونَ بَدَلٍ أوْ عَطْفٍ إلَّا أَفْعَلَ التَفضيلِ. وثانيهما: أنَّه يَلزَمُ دُخولُ الواوِ على مُضارعٍ مُثْبَتٍ. ولا يَجوزُ ذلك إلَّا بتأويلِ تقديرِ مُبْتَدأٍ أي: ونَحنُ نَطمَعُ.
الثالث: أنَّها في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ مِنْ فاعِلِ "نؤمن" فتكون الحالان مُتَداخِلَتَيْنِ. ويَجوزُ أنْ يكون "ونطمع" حالًا من "لا نؤمنُ" على معنى: أنَّهم أَنْكروا على أنفسهم أنَّهم لا يُوحِّدون الله ويَطمعون معَ ذلك أنْ يَصْحَبوا الصالحين. وهذا فيه ما تقدَّمَ مِنْ دُخولِ واوِ الحالِ على المُضارِع المُثْبَتِ، ولمَّا أَجازَ أبو البقاء هذا الوجهَ قَدَّر مبتدأً قبلَ "نطمع"، وجعلَ الجملةَ حالًا مِنْ فاعلِ "نؤمن" لِيَخْلُصَ مِنْ هذا الإِشكالِ فقال: ويجوزُ أنْ يكونَ التقديرُ: "ونحنُ نطمع"، فتكونُ الجُمْلةُ حالًا مِنْ فاعلِ "لا نؤمن"
الرابع: أنَّها معطوفةٌ على "لا نؤمن" فتكونُ في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحالِ مِنْ ذلك الضَميرِ المُستَترِ في "لنا"، والعاملُ فيها هو العاملُ في الحال قبلَها. فإنْ قلتَ: هذا هو الوجهُ الثاني المُتَقَدِّمِ، وذَكرتَ مَنْعَ مَجيءِ الحاليْن لِذي حالٍ واحدةٍ، وأنَّه يَلزمُ دخولُ الواوِ على المُضارع فما الفرقُ بيْن هذا وذاك؟ فالجوابُ أنَّ المَمنوعَ تعدُّدُ الحالِ دونَ عاطفٍ، وهذه الواوُ عاطفةٌ، وإنَّما يَمتَنعُ دُخولُ واوِ الحال عل المضارعِ، وهذِه عاطفةٌ لا واوُ حالٍ فحَصَلَ الفرقُ بينَهُما مِنْ جهةِ الواو، حيثُ كانت في الوجهِ الثاني واوَ الحالِ وفي هذا الوجهِ واو عطفٍ، ولهذا الوجهِ معنيان هما: أنْ يكونَ معطوفًا على "لا نؤمن" بمعنى: وما لنا نَجمعُ بيْن التَثليثِ وبيْنَ الطَمَعِ في صُحْبَةِ الصالحين، أو ومَا لَنا لا نَجمَعُ بينَهما بالدخولِ في الإِسلامِ، لأنَّ الكافرَ ما يَنبغي له أنْ يَطمَعَ في صُحْبَةِ الصالحين.
الخامس: أنَّها جُملةٌ اسْتِئنافيَّةٌ. والأحسنُ والأسهلُ أنْ يَكونَ استئنافَ إخبارٍ مِنْهم بأنَّهم طامعون في إنْعامِ اللهِ عليْهم بإدْخالِهم مَعَ الصالحين، فالواوُ عاطفةُ هذه الجملة على جملة "وما لنا لا نؤمن"، وهذا المعنى ومعنى كونِها مَعطوفةً على المَحْكِيِّ بالقولِ قبلَها شيءٌ واحدٌ، فإنَّ فيه الإِخبارَ عنهم بقولِهم كيتَ وكيتَ.
السادس: أنْ يَكونَ "ونطمعُ" معطوفًا على "نؤمن" أي: وما لنا لا
نطمعُ. وهنا وجهٌ بأنْ يكونَ مَعطوفًا على "نؤمن" والتقديرُ: وما لنا لا نؤمنُ ولا نَطمَعُ، فيكونُ في ذلك إنكارٌ لانْتِفاءِ إيمانِهم وانْتِفاءِ طَمَعِهم مَعَ قُدرَتِهم على تحصيلِ الشيئين: الإِيمانِ والطمعِ للدُخولِ مَعَ الصالحين.
والطمع: هو نُزوعُ النَّفسِ إلى الشيءِ شهوةً له، ولَمَّا كان أكثرُ الطمعِ مِنْ جِهَةِ الهوى قيل: الطَمَعُ طَبَعٌ، والطَمَعُ يُدَنِّسُ الإِهابَ، والطمعُ قريبٌ من الرجاء، يقالُ: طَمِعَ يَطمَعُ طَمَعًا، قال تعالى: {خَوْفًا وَطَمَعًا} السجدة: 16 وطَماعَةً وطَماعِيَةً كالكَراهِيَةِ، قال الهذليّ:
أَما وَالَّذِي مَسَّحْتُ أَرْكانَ بَيْتِه، ........... طَماعِيةً أَن يَغْفِر الذنبَ غافِرُه
فالتشديدُ فيها خطأ، واسمُ الفاعلِ مِنْه طَمِعَ ك "فَرِحَ" و"أَشِر" ويقال: طَمِعٌ وطامعٌ، ويَنبغي أنْ يَكون ذلك باعتبارين كقولِهم "فَرِح" لمن كان شأنُه ذلك، و"فارح" لِمَنْ تَجَدَّدَ لَهُ فرحٌ.
قولُه: {أَن يُدْخِلَنَا مع القومِ الصالحين} أيْ: في أنْ يُدْخِلَنا، فَمَحَلُّها نَصْبٌ أوْ جَرٌّ على ما تقدَّم غيرَ مرَّةٍ. و"مع" على بابِها مِنَ المُصاحَبَةِ، وقيل: هي بمَعنى "في" ولا حاجةَ إليه لاستقلالِ المَعنى مَعَ بَقاءِ الكلمةِ على موضوعِها.