إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
قَوْلُهُ: {إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} فَإِذا تَابَ الجُنَاةُ المُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ قَبْلَ أَنْ تَقْدِرَ عَلَيْهِمُ السُّلْطَةُ فِي البَلَدِ، سَقَطَ عَنْهُمُ العِقَابُ المَفْرُوضُ {وَهُوَ القَتْلُ أَوْ الصَّلْبُ أَوْ قَطْعُ اليَدَينِ} وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، يَقْبَلُ تَوْبَةَ مَنْ تَابَ، وَهُوَ مُخْلِصٌ في توبَتِه، لأنَّ تَوْبَتَهُمْ وَهُمْ فِي قُوَّةٍ وَمَنَعَةٍ جَدِيرَةٌ بِأَنْ تَكُونَ خَالِصَةً للهِ، صَادِرَةً عَنْ اعْتِقَادٍ بِقُبْحِ الذَّنْبِ، وَالعَزْمِ عَلَى تَرْكِ العَوْدَةِ إلى فِعْلِ مِثْلِهِ (وَلَكِنْ تَبْقَى عَلَيهِمْ حُقُوقُ العِبَادِ). "قَبْلَ أنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ" قَبْلَ وُقُوعِهِمْ بِيَدِ السُّلْطَةِ. فقد اسْتَثْنى ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ التَّائِبِينَ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِمْ، وَأَخْبَرَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ ـ سبحانَه ـ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: "فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ". أَمَّا الْقِصَاصُ وَحُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ فَلَا تَسْقُطُ.
أَخرجَ ابْنُ أبي شَيْبَةَ وابنُ أَبي حاتِمٍ وغيرُهُما عنِ الشَعبيِّ قال: كان حارثةُ بْنُ بَدْرٍ التَيْمِيِّ مِنْ أَهلِ البَصْرَةِ قَدْ أَفْسَدَ في الأرضِ وحارَبَ، فكَلَّمَ رجالًا مِنْ قُريشٍ أنْ يَسْتَأْمِنوا لَه عَلَيًا ـ رضي اللهُ عنه ـ فأبَوْا فأتَى سعيدَ بْنَ قيسٍ الهَمَدانيّ، فأتى عَلِيًّا فقال: يا أميرَ المُؤمنين ما جَزاءُ الذين يُحارِبونَ اللهَ ـ تَعالى ـ ورَسُولُهُ ـ صلى اللهُ عليه وسَلَّمَ ـ ويَسْعَوْنَ في الأرضِ الفَسادَ؟ قال: أنْ يُقتَلوا أوْ يُصلَبوا أوْ تُقطَعَ أَيديهم وأَرْجُلُهم مِنْ خِلافٍ أوْ يُنفَوْا مِنَ الأرضِ ثمَّ قال: "إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ" فقالَ سعيدُ: وإنْ كانَ حارثةَ بْنَ بَدْرٍ؟ قال: وإنْ كان حارثةَ بْنَ بَدْرٍ، فقال: هذا حارثةُ بْنُ بَدْرٍ قد جاءَ تائبًا فهو آمِنٌ؟ قال: نعم، فجاءَ بِه إليْه فبَايَعَهُ، وقَبِلَ ذلكَ مِنْهُ وكَتَبَ لَهُ أَمانًا، ورُوِيَ عن أَبي موسى الأَشْعَرِيِّ ـ رضي اللهُ عنه ـ ما هو
بِمَعناهُ.
وَمَنْ تَابَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ فَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَنْفَعُ، وَتُقَامُ الْحُدُودُ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ إِنَّهُ يَسْقُطُ كُلُّ حَدٍّ بِالتَّوْبَةِ، وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْآدَمِيِّ قِصَاصًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالِاسْتِثْنَاءِ الْمُشْرِكَ إِذَا تَابَ وَآمَنَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ تَسْقُطُ عَنْهُ الْحُدُودُ، وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ إِنْ آمَنَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لَمْ يُقْتَلْ أَيْضًا بِالْإِجْمَاعِ. وَقِيلَ: إِنَّمَا لَا يُسْقَطُ الْحَدُّ عَنِ الْمُحَارِبِينَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ ـ وَاللهُ أَعْلَمُ ـ لِأَنَّهُمْ مُتَّهَمُونَ بِالْكَذِبِ فِي تَوْبَتِهِمْ وَالتَّصَنُّعِ فِيهَا إِذَا نَالَتْهُمْ يَدُ الْإِمَامِ، أَوْ لِأَنَّهُ لَمَّا قُدِرَ عَلَيْهِمْ صَارُوا بِمَعْرِضٍ أَنْ يُنَكَّلَ بِهِمْ فَلَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُمْ، كَالْمُتَلَبِّسِ بِالْعَذَابِ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَنَا، أَوْ مَنْ صَارَ إِلَى حَالِ الْغَرْغَرَةِ فَتَابَ، فَأَمَّا إِذَا تَقَدَّمَتْ تَوْبَتُهُمُ الْقُدْرَةَ عَلَيْهِمْ، فَلَا تُهْمَةَ وَهِيَ نَافِعَةٌ، فَأَمَّا الشُّرَّابُ وَالزُّنَاةُ وَالسُّرَّاقُ إِذَا تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَعُرِفَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، ثُمَّ رُفِعُوا إِلَى الْإِمَامِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحُدَّهُمْ، وَإِنْ رُفِعُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا تُبْنَا لَمْ يُتْرَكُوا، وَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَالْمُحَارِبِينَ إِذَا غُلِبُوا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قولُه تعالى: {إِلاَّ الذين تَابُواْ} نَصْبٌ على الاسْتِثْناءِ مِنَ المُحاربين، وللعُلَماءِ خِلافٌ في التائبِ مِنْ قُطَّاعِ الطَريقِ: هلْ تَسْقُطْ عنْه العُقوباتُ كلُّها أوْ عُقوبةُ قَطْعِ الطَريقِ فقَطْ، وأمَّا ما يَتعَلَّقُ بالأَمْوالِ وقَتْلِ الأَنْفسِ فَلا تَسْقُطُ، بَلْ حِكْمُهُ إلى صاحِبِ المَالِ وولِيِّ الدَمِ؟ والظاهرُ الأَوَّلُ. ويُمكِنُ أنْ يَكونَ مَرْفوعًا بالابتِداءِ، والخبرُ قولُه: {أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} والعائدُ مَحذوفٌ أيْ غفورٌ لَهُمْ، وحينئذٍ يَكونُ اسْتِثْناءً مُنْقَطِعًا بمَعنى: لكِنَّ التائبَ يُغفَرُ لَه.