وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ. (61)
قولُه ـ وهو أَصْدَقُ القائلين: {وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا} وَإِذَا جَاءَكُمْ، هَؤُلاَءِ المُنَافِقُونَ وَاليَهُودُ السَّاخِرُونَ، تَظَاهَرُوا بِالإِيْمَانِ ، مَعْ أنَّ قُلُوبَهُمْ فِي الحَقِيقَةِ مُنْطَوِيَةٌ عَلَى الكُفْرِ ، فَيَدْخُلُونَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلَّم، وَالكُفْرِ فِي قُلُوبِهِمْ، فَيَسْمَعُونَ مِنْهُ العِلْمَ وَالقُرْآنَ، وَأَحْكَامَ الدِّينِ، وَالمَوَاعِظَ وَالزَّوَاجِرَ، وَلَكِنَّهُمْ لاَ يَنْتَفِعُونَ بِشَيءٍ مِنْ ذَلِكَ، والخطابُ هنا للرسولِ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ والجَمْعُ للتَعظيمِ، أوْ أنَّه خِطابٌ لَه مَعَ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ أَصحابِه ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عنهم.
وفي سبب نزولها قالَ قَتادةُ والسدِّيُ: نَزَلَتْ في أناسٍ مِنَ اليهودِ كانوا يَدْخُلون على رَسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ ـ فيُظهِرونَ لَه الإيمان والرِضا بِما جاءِ بِهِ نِفاقًا.
وقولُه: {وَقَدْدَّ خَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} وَيَخْرُجُونَ كَمَا دَخَلُوا وَالكُفْرُ فِي قُلُوبِهِمْ، أيْ يَخرجون مِنْ عندِك كما دَخلوا لم يَنتَفِعوا بِحُضورِهم بيْنَ يَديْك ولم يؤثِّرْ فيهم ما سَمِعوا منك. وقد كان ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ يَتَوَقَّعُ دُخولَ أُولئكَ الفَجَرَةِ وخُروجَهم مِنْ خَضيلةِ حضرتِه أَفرِغَ مِنْ يَدٍ تَفُتُّ البُرَّ، فلن يَعلقَ في قلوبهم شيءٌ ممّا سَمِعوا مِنْ تذكيرٍ بآياتِ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ لِظَنِّه بما يَرى مِنْ الأَمارات اللائحةِ عليهم نِفاقَهُمُ الراسِخ.
وقولُه: {والله أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ} وَاللهُ عَالِمٌ بِمَا فِي سَرَائِرِهِمْ وَضَمَائِرِهِمْ مِنَ الكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، وَإِنْ أظْهَرُوا لِخَلْقِ اللهِ غَيْرَ ذَلِكَ، وَتَزَيَّنُوا بِمَا لَيْسَ فِيهِمْ. وفيه ما لا يَخْفى مِنَ الوَعيدِ، فإنَّ أماراتُ النِّفاقِ كانتْ لائحةً عليهم، فقد أظهروا الصدقَ، وفي التَحقيقِ نافقوا، وافْتُضِحوا مِنْ حيثُ أَوْهَمُوا ولَبَّسُوا؛ فلا حالُهم بَقيتْ مَستورةً، ولا أَسرارُهم كانت عندَ اللهِ مَكبوتَةً، وهذا نَعْتُ كلِّ مُبْطِلٍ. وكان رسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ متوقعًا إظهارَ اللهِ تَعالى ما كَتَموهُ، فإنَّ كونَهم مُنافقينَ كان معلومًا عندَهُ صَلَواتُ اللهِ تَعالى عليه وسلامُهُ.
قولُه تعالى: {وَإِذَا جَاؤوكُمْ} الضميرُ المَرْفوعُ لليَهودِ المُعاصرين، فحينئذٍ لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مُضافٍ أي: وإذا جاءكم ذُرِّيَّتُهم أوْ نَسْلُهم؛ لأنَّ أُولئكَ المَجْعُولَ مِنهمُ القِرِدَةَ والخَنازيرَ لَمْ يَجيئوا، ويَجوزُ ألَّا يُقدَّرَ مُضافٌ مَحذوفٌ، وذلك على أنْ يَكونَ قولُه: {مَن لَّعَنَهُ الله} إلى آخِرِه عبارةً عن المخاطبين في قولِه: {يَا أَهْلَ الكتاب} وأَنَّه مِمَّا وُضِعَ فيه الظاهِرُ مَوْضِعَ المُضْمَرِ، وكأنَّه قِيلَ: أَنتم، كذا قالوا وفيه نظرٌ فإنَّه لا بدَّ مِنْ تقديرِ مُضافٍ في قولِهِ تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة} تقديرُه: وجَعَلَ مِنْ آبائِكم أوْ أَسْلافِكم أوْ مِنْ جِنْسِكُمْ، لأنَّ المُعاصرين لَيْسوا مَجعولًا منهم بأعيانِهم، فسواءً جَعَلَهُ مِمَّا ذَكَر أمْ لا، لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مُضافٍ.
قولُه: {وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر} جملةٌ حاليةٌ والعاملُ فيها "قالوا" أي: قالوا كذا في حالِ دُخُولِهم كَفَرَةً وخُروجِهم كَفَرَةً وفيه نظرٌ، إذِ يَأباهُ المَعنى. أو أن العاملَ فيه هو "آمنَّا"، وهذا واضحٌ أي: قالوا آمنَّا في هذه الحال. و"قد" في كلٍّ من: "وقد دَخَلُوا" و"وقد خَرَجُوا" لِتقريبِ الماضي في الحال، ولِمَعْنًى آخرَ وهو أنَّ أَماراتِ النِّفاقِ كانتْ لائحةً عَلَيْهم فكانَ الرَّسولُ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ مُتَوَقِّعًا لإِظهارِ اللهِ تعالى ما كَتَموه، فدخَلَ حرفُ التوقعِ، وهو متعلِّقٌ بقولِه: "قالوا آمَنّا" أيْ: قالوا ذلك وهذه حالُهم، وهذا يعْني أنَّ صاحبَ الحالِ وعاملَها الجملةُ المَحْكِيَّة بالقول. و"بالكفر" متعلقٌ بمحذوفٍ لأنَّه حالٌ مِنْ فاعلِ "دَخَلوا" فيه حالٌ مِنْ حالٍ أَيْ: دَخَلوا مُلْتَبِسين بالكُفْرِ أيْ: ومعَهم الكُفْرُ كَقَوْلِهم: "خرجَ زيدٌ بثيابِه" وقراءةِ مَنْ قَرَأَ: {تَنْبُتُ بالدُّهْن} أي: وفيها الدُّهْنُ، ومنْه ما أَنْشَدَ الأصمعيُّ لِثَعْلَبَةَ بْنِ حِرْزٍ:
ومُسْتَنَّةٍ كاسْتنانِ الخَرُو ..................... فِ قدْ قَطَعَ الحَبْلَ بالمِرْوَدِ
أي: ومِرْوَدُهُ فيهِ، وكذلك "به" أيضًا حالٌ مِنْ فاعلِ "خَرَجوا".
وقولًه: {وهم قد خَرَجُوا به} مُبْتَدَأٌ، وخبرُه، والجملةُ حالٌ أيضًا عطفٌ على الحالِ قبلَها، وإنَّما جاءتِ الأولى فِعليَّةً والثانيةُ اسْمِيَّةً تنبيهًا على فرطِ تَهالُكِهم في الكَفْرِ، وذلك أنَّهم كان يَنبَغي لهم إذا دَخَلوا على الرسولِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ أَنْ يُؤمنوا، لِما يَرَوْن مِنْ حُسْنِ سَمْتِهِ وهَيْبَتِه وما يَظْهرُ على يَدَيْهِ الشَريفةِ مِنَ الخَوارِقِ والمُعْجِزاتِ، ولذلكَ قال بعضُ الكَفَرَةِ: "رأيتُ وجهَ مَنْ ليْس بكذَّابٍ" فلمَّا لم يَنجَعْ فيهم ذلك أكَّد كفرَهم الثاني بأَنْ أَبْرَزَ الجُملةَ اسْمِيَّةً صَدْرُها اسْمٌ وخَبَرُها فعلٌ، لِيَكونَ الإِسنادُ فيها مَرَّتيْن. فقولُه "وَهُمْ" تخليصٌ مِنِ احْتِمالِ العِبارةِ أَنْ يَدْخُلَ قومٌ بالكُفْرِ ثمَّ يُؤمِنوا ويَخْرُجَ قومٌ وَهُمْ كَفَرَةٌ، فكان يَنْطَبِقُ على الجَميعِ وهُمْ قدْ دَخَلوا بالكُفْرِ وقدْ خَرَجُوا بِه، فأَزالَ اللهُ الاحْتِمالَ بقولِه: "وهم قد خَرَجوا بِهِ" أي: هُمْ بأعيانِهم. وقال بعضُهم: "هم" تأكيدُ إضافةِ الكُفْرِ إليهم، ونَفيُ أَنْ يكونَ مِنَ الرسولِ ما يوجِبُ كُفرَهم مِنْ سُوءِ مُعامَلَتِهِ لَهم، بلْ كان يَلْطُفُ بهم ويعاملُهم أَحْسَنَ مُعاملةٍ، لكنهم هم الذين خَرَجوا بالكفرِ باختيارِهم، لا أنَّك أنتَ الذي تَسَبَّبَ لِبقائِهم في الكفر. والواوُ في "وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ" إمَّا عاطفةٌ لِجُملةِ حالٍ على مثلِها، وإمّا هي نفسُها واوُ الحالِ، وعلى هذا يكونُ في الآيةِ الكريمةِ حُجَّةٌ لِمَنْ يُجيزُ تَعدُّدَ الحالِ لِذي حالٍ مُفرَدٍ مِنْ غيرِ عَطْفٍ ولا بَدَلٍ إلَّا في أَفْعَلِ التَفضيلِ، نحوَ: "جاءَ زيدٌ ضاحكًا كاتِبًا" وعلى الأوَّلِ لا يَجوزُ ذلك إلَّا بالعَطْفِ أوِ البَدَلِ، وهذا شَبيهٌ بالخِلافِ في تَعدُّدِ الخَبَرِ.