لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ.
(82)
قَوْلُهُ تَعَالَى شأنُهُ: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} أي إنَّ أَكْثَر النَّاسِ عَدَاوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ هُمُ اليَهُودُ وَالمُشْرِكُونَ. لأنَّ اليَهُودَ وَالمُشْرِكُينَ يَشْتَرِكُونَ فِي بَعْضِ الصِفَاتِ التِي اقْتَضَتْ عَدَاوَتَهُمُ الشَّدِيدَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ: كَالكِبْرِ وَالعُتُوِّ وَالبَغْيِّ وَالأَثَرَةِ وَالقَسْوَةِ، وَضَعْفِ العَاطِفَةِ الإِنْسَانِيَّةِ (مِنْ حَنَانٍ وَرَحْمَةٍ) وَالعَصَبِيَّةِ القَوْمِيَّةِ. ولِشِدَّةِ حِرصِهِمُ الذي هو مَعْدِنُ الأخلاقِ الذَميمةِ فإنَّ مَنْ كان حريصًا على الدنيا طَرَحَ دِينَهُ في طَلَبِ الدُنْيا وأقدَمَ على كلِّ مَحظُورٍ ومُنْكَرٍ فلا جَرَمَ أنْ تَشْتَدَّ عداوتُه على كلِّ مَنْ نالَ جاهًا أوْ مالًا. وقد ضُمَّ إليهم مُشْرِكُو العَرَبِ مع أنهم فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ كانوا أَرَقَّ مِنهُم قُلُوبًا، وَأَعْظَمَ سَخَاءً وَإِيثَاراً، وَأَكْثَرَ حُرِّيَّةً فِي الفِكْرِ وَاسْتِقْلالاً فِي الرَّأْيِ لشدَّة عدائهم للرسول الله ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ ولانتهاجهم نهج اليهودِ في سلوك سبيلِ اليهود في اتخاذهم القوَّةَ والعنفَ سبيلًا لثني المسلمين عن دينهم، في محاولة منهم القضاء على دعوة العدالة والمساواة التي جاء بها محمدٌ ـ صلى الله عليه وسَلَّم ـ الأمر الذي يتنافى مع تكبرهم وعنجهيتهم واستعبادهم للآخرين من عباد الله.
وَإِنَّ أَقْرَبَ النَّاسِ مَوَدَّةً لِلْمُسْلِمِينَ هُمُ النَّصَارَى، الذِينَ قَالُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ إنَّهُمْ يُتَابِعُونَ المَسِيحَ عَلَى دِينِهِ، لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الرِّقَّةِ وَالرَّأْفَةِ، وَلأَنَّ بَيْنَهُمْ قِسِّيسِينَ يَتَوَلَّوْنَ تَعْلِيمَهُمْ أَحْكَامَ الدِّينِ، وَيُبَصِّرُونَهُمْ بِمَا فِي دِينِهِمْ مِنْ سُمُوٍّ وَآدَابٍ وَفَضَائِلَ، وَلأَنَّ بَيْنَهُمْ رُهْبَاناً يَضْرِبُونَ لَهُمُ المَثَلَ فِي الزُّهْدِ وَالتَقَشُّفِ وَالإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيا وَزُخْرُفِهَا وَفِتْنَتِهَا، وَيُنَمُّونَ فِي نُفُوسِهِمُ الخَوْفَ مِنَ اللهِ، وَالانْقِطَاعَ لِلْعِبَادَةِ، وَإنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنِ الإِذْعَانِ لِلْحَقِّ، حِينَمَا يَتَبَيَّنُ لَهُمْ أنَّهُ حَقٌّ. معَ أنَّهم أغْلَظُ كُفرًا من اليهودِ لأنَّ كُفْرَ النَصارى في الألوهيَّةِ وكفر اليهودِ فى النُبُوَّةِ، وأمَّا قولُه تعالى: {وقالتِ اليهودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ} فانَّما قالَهُ طائفةٌ مِنْهم، ومَعَ ذلكَ خَصَّ ـ جَلَّ شأنُهُ ـ اليَهودَ بِمَزيدِ اللَّعْنَةِ دونَهم وما ذاك إلّا بِسبَبِ حِرصِهِم على الدُنْيا، و"حُبُّ الدُنيا رأسُ كُلِّ خَطيئَةٍ" كما رُويَ عنه ـ عليه الصلاةُ والسلامُ. وقالَ البَغَوِيُّ لَمْ يُرِدْ بِهِ ـ يعني قولَه "" جميعَ النَّصارى لأنَّهم في عَداوتِهم للمُسْلِمينَ كاليَهودِ في قتلِهِم المُسْلمين وأسرِهم وتَخريبِ بِلادِهِمْ وهَدْمِ مَساجدِهم وإحراقِ مَصاحِفِهم، وهؤلاءِ لا مَوَدَّةَ ولا كرامةَ لهم، بَلِ الآيةُ نَزَلَتْ فيمن أسْلَمَ منهم مثلُ النَّجاشي وأصحابِه، وكانَ النَّجاشيُّ مَلِكُ الحَبَشَةِ نَصْرانِيًّا ثمَّ أسْلَمَ هو وأصحابُه قبلَ الفتحِ وماتَ قبلَه أيضًا. ونقولُ لقد كان في اليهود من أسلمَ أيضًا ككعب الأحبارِ ـ رَضيَ اللهُ عنْه ـ وغيره كثيرٌ، لكنَّ المقصود بالآية العموم، لما تقدَّمَ إيضاحُه واللهُ أعلم.
وقد وَرَدَ في أَسبابِ نُزولِ هَذِهِ الْآيَةُ أنَّها نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمُ الْمُسْلِمُونَ فِي الْهِجْرَةِ الْأُولَى ـ حَسَبَ مَا هُوَ مَشْهُورٌ فِي سِيرَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِ ـ خَوْفًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَفِتْنَتِهِمْ، وَكَانُوا ذَوِي عَدَدٍ. ثُمَّ هَاجَرَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ، حَالَتْ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَه. فَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ وَقَتَلَ اللهُ فِيهَا صَنَادِيدَ الْكُفَّارِ، قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: إِنَّ ثَأْرَكُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَاهْدُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ وَابْعَثُوا إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِنْ ذَوِي رَأْيِكُمْ لَعَلَّهُ يُعْطِيكُمْ مَنْ عِنْدَهُ فَتَقْتُلُونَهُمْ بِمَنْ قُتِلَ مِنْكُمْ بِبَدْرٍ، فَبَعَثَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ بِهَدَايَا، فَسَمِعَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ، فَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ، وَكَتَبَ مَعَهُ إِلَى النَّجَاشِيِّ، فَقَدِمَ عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَقَرَأَ كِتَابَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ دَعَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَالْمُهَاجِرِينَ، وَأَرْسَلَ إِلَى الرهبان والقسِّيسين فجَمَعهم. ثمَّ أَمرَ جعفرَ أَنْ يَقْرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ فَقَرَأَ سُورَةَ (مَرْيَمَ) فَقَامُوا تَفِيضُ أَعْيُنُهُمْ مِنَ الدَّمْعِ، فَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللهُ تعالى فِيهِمْ: "وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى" وَقَرَأَ إِلَى قولِه تعالى: "الشَّاهِدِينَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ الْهِجْرَةَ الْأُولَى هِجْرَةُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. وَذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عِشْرُونَ رَجُلًا وَهُوَ بِمَكَّةَ أَوْ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ، مِنَ النَّصَارَى حِينَ ظَهَرَ خَبَرُهُ مِنَ الْحَبَشَةِ، فَوَجَدُوهُ فِي الْمَسْجِدِ فَكَلَّمُوهُ وَسَأَلُوهُ، وَرِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ فِي أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ فَلَمَّا فَرَغُوا مِنْ مَسْأَلَتِهِمْ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَمَّا أَرَادُوا، دَعَاهُمْ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِلَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَلَمَّا سَمِعُوهُ فَاضَتْ أَعْيُنُهُمْ مِنَ الدَّمْعِ، ثُمَّ اسْتَجَابُوا لَهُ وَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا كَانَ يُوصَفُ لَهُمْ فِي كِتَابِهِمْ مِنْ أَمْرِهِ، فَلَمَّا قَامُوا مِنْ عِنْدِهِ اعْتَرَضَهُمْ أَبُو جَهْلٍ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالُوا: خَيَّبَكُمُ اللهُ مِنْ رَكْبٍ! بَعَثَكُمْ مَنْ وَرَاءَكُمْ مِنْ أَهْلِ دِينِكُمْ تَرْتَادُونَ لَهُمْ فَتَأْتُونَهُمْ بِخَبَرِ الرَّجُلِ، فَلَمْ تَظْهَرْ مُجَالَسَتُكُمْ عِنْدَهُ حَتَّى فَارَقْتُمْ دِينَكُمْ وَصَدَّقْتُمُوهُ بِمَا قَالَ لَكُمْ، مَا نَعْلَمُ رَكْبًا أَحْمَقَ مِنْكُمْ ـ أَوْ كَمَا قَالَ لَهُمْ ـ فَقَالُوا: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نُجَاهِلُكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ، لَا نَأْلُوا أَنْفُسَنَا خَيْرًا.
ويُقَالُ: إِنَّ النَّفَرَ النَّصَارَى مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ، وَيُقَالُ: إِنَّ فِيهِمْ نَزَلَتْ قولُهُ تعالى: {الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} القصص: 52. إلى قوله: {لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ} القصص: 55. وَقِيلَ: إِنَّ جَعْفَرًا وَأَصْحَابَهُ قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي سَبْعِينَ رَجُلًا عَلَيْهِمْ ثِيَابُ الصُّوفِ، فِيهِمُ اثْنَانِ وَسِتُّونَ مِنَ الحَبَشَةِ وثمانيةٌ مِنْ أَهلِ الشامِ وهم: بُحيراء الرَّاهِبُ، وَإِدْرِيسُ، وَأَشْرَفُ، وَأَبْرَهَةُ، وَثُمَامَةُ، وَقُثَمٌ، وَدُرَيْدٌ، وَأَيْمَنُ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ سُورَةَ "يس" إِلَى آخِرِهَا، فَبَكَوْا حِينَ سَمِعُوا الْقُرْآنَ وَآمَنُوا، وَقَالُوا: مَا أَشْبَهَ هَذَا بِمَا كَانَ يَنْزِلُ عَلَى عِيسَى فَنَزَلَتْ فِيهِمْ "لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى" يَعْنِي وَفْدَ النَّجاشي وكانوا أصحابَ الصَوامِعِ. وقال سعيد بنُ جُبَيْرٍ: وَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ أَيْضًا "الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ" القصص: 52. إلى قوله: "أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ" القصص: 54. إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: كَانُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ مِنْ بَنِي الحَرْثِ بْنِ كَعْبٍ، وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ مِنَ الْحَبَشَةِ، وَثَمَانِيَةٌ وسِتُّون مِنْ أَهْلِ الشَّامِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَانُوا عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ مِمَّا جَاءَ بِهِ عِيسَى، فَلَمَّا بَعَثَ اللهُ مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ آمَنُوا بِهِ فَأَثْنَى اللهُ عَلَيْهِمْ.
قولُه تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النّاسِ} اللَّامُ لامُ قَسَمٍ وَدَخَلَتِ النُّونُ فَرْقًا بَيْنَ الْحَالِ وَالْمُسْتَقْبَلِ. و"أشدَّ " مفعولٌ أَوَّلُ، و"عَداوَةً" نُصِبَ عَلَى التمييزِ والْبَيَانِ. و"للذين" متعلِّقٌ بها، قَوِيَتْ باللامِ لَمَّا كانت فَرْعًا في العملِ على الفِعلِ، ولا يَضُرُّ كونُها مؤنَّثَةً بالتاءِ لأنَّها مَبْنِيَّةٌ عليها، فهي ك (ورهبةٌ ... عقابَك) في قوله:
فلولا رجاءُ النصرِ منك ورهبةٌ .............. عقابَكَ قد كانوا لنا كالموارِد
ويجوزَ أن يكونَ "للذين" صفةً لـ "عداوة" فيَتَعَلَّقَ بمحذوفٍ، و"اليهودَ" مفعولٌ ثانٍ. ويجوُ أنْ يكونَ هو الأوَّلَ، و"أشدَّ" هو الثاني، وهذا هو الظاهرُ، إذِ المَقصودُ أَنْ يُخبِرَ اللهُ تَعَالى عَنِ اليَهودِ والمُشركين بأنَّهم أشدُّ النَّاسِ عداوة للمؤمنين، وعنِ النَّصارى بأنَّهم أقربُ الناسِ مودَّةً لهم، وليس المرادُ أَنْ يُخبِرَ عن أَشَدِّ الناسِ وأَقربِهم بِكونِهم مِنَ اليهودِ والنصارى. فإنْ قيلَ: متى استويا تعريفًا وتنكيرًا وَجَبَ تقديمُ المَفعولِ الأوَّلِ وتَأخيرُ الثاني كما يَجِبُ في المُبتَدَأِ والخَبَرِ وهذا مِنْ ذاك. فالجوابُ: أنَّه إنَّما يَجبُ ذلك حيثُ أَلْبَسَ، أمَّا إذا دَلَّ دليلٌ على ذلك فقد جازَ التقديمُ والتأخيرُ ومنْه قولُ الفرزدقِ:
بَنُونا بنو أبنائِنا ، وبناتُنا ..................... بنوهُنَّ أبناءُ الرجالِ الأباعدِ
فـ "بنوا أبناء" هو المبتدأ، و"بَنُونا" خبره، لأنَّ المعنى على تشبيهِ أولادِ الأبناء بالأبناء، ومثلُه قولُ حسَّانَ بْنِ ثابتٍ الأنصاريِّ ـ رضي الله عنه:
قبيلةٌ ألأَمُ الأحياءِ أكرمُها ................. وأَغْدُر الناسِ بالجيرانِ وافِيها
فـ "أكرمُها" هو المبتدأُ، و"أَلأَمُ الأَحياءِ" خبرُه، وكذا "وافيها" مبتدأ و"أغدرُ الناس" خبرُه، والمعنى على هذا، والآيةُ مِنْ هذه القَبيلِ.
وقولُه: {والذين أَشْرَكُواْ} عطفٌ على اليهودِ، والكلامُ على الجُملةِ الثانيةِ كالكلامِ على ما قبلها.
وقولُه: {ذلكَ بأَنَّ منهم قسِّيسين} ذلكَ: مُبتَدَأٌ، و"قسِّيسين" اسْمُ "أنَّ"، وأَنَّ واسْمُها وخَبَرُها في مَحلِّ جَرِّ بالباءِ، والباءُ ومجرورُها هَهنا خبرُ "ذلك" و"قِسِّيسِينَ" جمعٌ وَاحِدُه قَسٌّ وَقِسِّيسٌ، على وزنِ فِعِّيل، وهو مثالُ مبالَغَة ك "صِدِّيق" وهو هنا رئيسُ النصارى وعابُدهم ،وَالْقِسِّيسُ الْعَالِمُ، وقِسِّيسٌ وقَسٌّ، مِثْلُ شِرِّيرٍ وشَرٍّ، وَجَمْعُهُ قُسُوسٌ، وَيُقَالُ فِي جَمْعِ قِسِّيسٍ مُكَسَّرًا: قَسَاوِسَةٌ أيضًا كمَهالِبة، وقد أُبْدِلَ مِنْ إِحْدَى السينين واوًا، وَالْأَصْلُ قَسَاسِسَةٌ فَأَبْدَلُوا إِحْدَى السِّينَاتِ وَاوًا لِكَثْرَتِهَا. فَالْقِسِّيسُونَ هُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الْعُلَمَاءَ وَالْعُبَّادَ. ولو جُمِع "قَسُوسًا" كان صَوابًا لأنَّهما في مَعْنًى واحد، وأُنْشِدَ لأُميَّةَ بْنِ أَبي الصَّلْتِ:
لو كان مُنْفَلَتٌ كانتْ قَساوِسَةٌ ............. يُحْيِيهم اللهُ في أَيْديهم الزُّبُرُ
وَأَصْلُهُ مِنْ قَسَّ إِذَا تَتَبَّعَ الشَّيْءَ فَطَلَبَهُ بالليلِ، يُقالُ: "تقسَّسْتُ أصواتَهم" أي: تَتَبَّعْتُها بالليلِ، فيُقال لرئيس النصارى: قِسٌّ وقِسّيسٌ وقَسٌّ. ويُقالُ: قَسَّ الأثرَ وقَصَّه بالصادِ أيْضًا، وللدليلِ بالليلِ: قَسْقَاسٌ وقَسْقَسٌ، قَالَ رؤبةُ بْنُ العَجَّاجِ الراجزُ يَصِفُ نِساءً عفيفاتٍ لا يَتْبَعْنَ النَمَائِمَ:
يُصْبِحْنَ عَنْ قَسِّ الْأَذَى غَوَافِلَا ................ يَمْشِيْنَ هَوْناً خُرَّداً بَهَالِلالا جَعْبَرِيّاتٍ ولا طَهَامِلا
الجَعبريُّاتُ: قصيراتُ القامةِ، والطَهامِلُ: البَديناتُ القبيحاتُ.
والقَسُّ: النَّميمَة، قال رُؤبة أيضًا:
باعَدَ عَنْكَ العَيْبَ والتَّدْنِيسا ............. ضَرْحُ الشِّمَاسِ الخُلُقَ الضَّبِيْسا
فَحْشَاءَهُ والكَذِبَ المَنْدُوْسا ................ والشَّرَّ ذا النَّمِيْمَةِ المَقْسُوْسا
الضَبيسُ: ثقيلُ الروحِ والبَدَنِ، والحريصُ والجَبانُ، وقليلُ الفطنة. والضَرْحُ: الرُّمْحُ، وهو منَ البُعدِ لأنَّه إذا رمَحَ أبعدك. والشِماسُ: العنادُ، والمندوس المطعونُ.
والقَسَّةُ: القريةُ الصَغيرةُ. وَتَقَسَّسَتْ أَصْوَاتُهُمْ بِاللَّيْلِ تَسَمَّعْتُهَا. وَلَفْظُ الْقِسِّيسِ عَرَبِيٌّ، وَإِنْ قال بِعضُهم غيرَ ذلك، إِذْ لَيْسَ فِي الْكِتَابِ مَا لَيْسَ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ كَمَا تَقَدَّمَ،. فقد تكلَّمتِ العَربُ بالقَسِّ والقِسّيس، وأنْشَدَ المازنيُّ للعَجَّاجِ:
جاريةٌ منْ آلِ عبدِ شمسِ ....................... لو عَرَضَتْ لأيْبُلِيٍّ قَسِّ
أشْعَثَ في هَيكلِهِ مُنْدَسِّ ........................ حَنَّ إليْها كَحَنينِ الطَسِّ
أَيْبُلِيّ: فَيْعُلِيّ مِنْ قولك أبَلَتُ، إذا اجْتَزَأْتَ بالرُّطْب عن الماءِ، فإن
الرّاهِبَ يجتزئُ بالقليلِ من الطعام تنسّكًا، والطَسُّ: الطَسْتُ، أي كان لِحنينِه إليها صوتٌ كَصوتِ الطَسْتِ.
هذا كلامُ أَهلِ اللُّغةِ في القِسّيسِ، وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: ضَيَّعَتِ النَّصَارَى الْإِنْجِيلَ، وَأَدْخَلُوا فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَكَانُوا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ الَّذِينَ غَيَّرُوهُ، لُوقَاسُ وَمَرْقُوسُ وَيحْنَسُ وَمَقْبُوسُ، وَبَقِيَ قِسِّيسٌ عَلَى الْحَقِّ وَعَلَى الِاسْتِقَامَةِ، فَمَنْ كَانَ عَلَى دِينِهِ وَهَدْيِهِ فَهُوَ "قِسِّيس". وقال وَرَقَةُ بنُ نوفلَ:
لما خَبَّرْتَنا مِنْ قولِ قَسٍّ ..................... مِنَ الرُهبانِ أَكرُه أَنْ يَبُوحا
فعلى هذا القَسُّ والقِسِّيسُ مما اتَّفَقَ فيه اللُّغتان. فأمَّا قُسُّ بْنُ ساعدةَ الإِياديُّ (بضَمِّ القاف) فهو عَلَمٌ فيَجوزُ أنْ يَكون مِمَّا غُيِّرَ بطريقِ العَلَمِيَّةِ، ويَكونُ أَصلُه قَسٌّ أَوْ قِسٌّ بالفَتحِ أوِ الكَسْرِ، وقُسُّ بْنُ ساعدةَ كان أَعْلَمَ أَهْلِ زَمانِه، وهو الذي قال فيه ـ عليْه الصَلاةُ والسلامُ: ((يُبْعَثُ أُمَّةً وَحْدَهُ)).
وَقَالَ حَامِيَةُ بْنُ رَبَابٍ قُلْتُ لِسَلْمَانَ "بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبانًا" فَقَالَ: دَعِ الْقِسِّيسِينَ فِي الصَّوَامِعِ وَالْمِحْرَابِ، أَقْرَأَنِيهَا رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ "بِأَنَّ مِنْهُمْ صِدِّيقِينَ وَرُهْبَانًا".
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَرُهْبانًا} الرُّهْبَانُ جمعُ راهبٍ كَرُكْبان وراكِب. وفارِس وفُرْسان. قال النابغةُ:
لَوْ أَنَّهَا عَرَضَتْ لِأَشْمَطَ رَاهِبٍ ............... ـ عَبَدَ الْإِلَهَ ـ صَرُورَةٍ مُتَعَبِّدِ
لَرَنَا لِرُؤْيَتِهَا وَحُسْنِ حَدِيثِهَا .................. وَلَخَالَهُ رَشَدًا وَإِنْ لَمْ يَرْشُدِ
الصَرورَةُ: مِنَ الرجالِ هو الذي لم يَأْتِ النِّساءَ كأنَّه أَصرَّ على تَركهِنَّ وفي الحديثِ الشريفِ: ((لا صَرورةَ في الإسلام)) وهو التَبَتُّلُ.
وَالْفِعْلُ مِنْهُ رَهِبَ اللهَ يَرْهَبُهُ أَيْ خَافَهُ رَهْبًا وَرَهَبًا وَرَهْبَةً. وَالرَّهْبَانِيَّةُ وَالتَّرَهُّبُ التَّعَبُّدُ فِي صَوْمَعَةٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَقَدْ يَكُونُ (رُهْبَانٌ) لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيُجْمَعُ (رُهْبَانٌ) إِذَا كَانَ لِلْمُفْرَدِ رَهَابِنَةً وَرَهَابِينَ كَقُرْبَانٍ وَقَرَابِينَ، قَالَ جَرِيرٌ فِي الْجَمْعِ:
رُهْبَانُ مَدْيَنَ لَوْ رَأَوْكِ تَنَزَّلُوا ............ وَالْعُصْمُ مِنْ شَعَفِ الْعُقُولِ الْفَادِرُ
الْفَادِرُ الْمُسِنُّ مِنَ الْوُعُولِ. وَيُقَالُ: الْعَظِيمُ، وَكَذَلِكَ الْفَدُورُ وَالْجَمْعُ فُدْرٌ وَفُدُورٌ، ويسمَّى مَوْضِعُها الذي تَكون فيه "مَفْدَرَة". قال الْجَوْهَرِيُّ. وَقَالَ آخَرُ فِي التَّوْحِيدِ:
لَوْ أَبْصَرَتْ رُهْبَانَ دَيْرٍ فِي الْجَبَلِ ........... لَانْحَدَرَ الرُّهْبَانُ يَسْعَى وَيُصَلْ
وقولُهُ "يُصَل" مِنَ الصَّلَاةِ. وَالرَّهَابَةُ عَلَى وَزْنِ السَّحَابَةِ عَظْمٌ فِي الصَّدْرِ مُشْرِفٌ عَلَى الْبَطْنِ مِثْلُ اللِّسَانِ. وَهَذَا الْمَدْحُ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِمُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُونَ مَنْ أَصَرَّ عَلَى كُفْرِهِ وَلِهَذَا قَالَ: "وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ" أيْ لا يَستكبِرونَ عَنِ الانقيادِ إلى الحَقِّ. وإنَّ رهبانًا يكون مفرداً واحدًا أيضًا، ومنه قول الشاعر:
لو عايَنَتْ رهبانَ دَيْرٍ في القُلَلْ ............... لأَقْبَلَ الرُّهبانُ يَعُدُوا ونَزَلْ
قالوا ولو كان جمعًا لقال: "يَعُدُون" و"نَزَلُوا" بضميرِ الجمعِ. وهذا لا حُجَّة فيه؛ لأنَّه قد عادَ ضميرُ المُفرَدِ على الجَمْعِ الصَريحِ لِتَأوُّلِهِ بِواحِدٍ كقولِه تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} النّحل: 66. فالهاءُ في "بطونِه" تعودُ على الأنْعامِ، وقال:
بال سهيل في الفضيخ ففسد ................. وطاب ألبان اللقاح وبرد معناه أنَّ الفَضيخَ يَفْسُدُ عندَ طُلوعِ سُهيْلٍ فكأنَّه بالَ فيه، وقد تقدَّمَ لنا فيه بيانٌ وتفصيل، وفي "بَرَد" ضميرٌ يَعودُ على "أَلبان" وهي جمعٌ لِسَدِّ المفرد وهو "لَبَن" مَسَدَّها. وقالوا كذلك: "هوَ أَحْسَنُ الفِتْيانِ وأَجْمَلُه".