وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
قولُهُ تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} أيْ لَوْ أَنَّهُمْ عَمِلُوا بِمَا فِي الكِتَابِ الذِي أُنْزِلَ إلَيْهِمْ، كَمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، دُونَ تَحْرِيفٍ وَلا تَبْدِيلٍ، لَقَادَهُمْ ذَلِكَ إلى اتِّبَاعِ الحَقِّ، وَالعَمَلِ بِمُقْتَضَى مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ لأنَّ كُلًّا مِنَ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ بَشَّرَ بِنَبِيٍّ يَكُونُ مِنْ أَوْلاَدِ إِسْمَاعِيلَ. وَلَوْ أَنَّهُمُ اتَّبَعُوا الحَقَّ، وَآمَنُوا بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ الذِي بَشَّرَ بِهِ كِتَابُهُمْ، لَوَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِمْ في أرزاقِهِم، وَلأَغْدَقتِ السَّمَاءُ عَلَيْهِمْ مَطَرَها وَبَرَكَاتِهَا، وَلأخْرَجَتْ لَهُمْ خَيْرَاتِهَا. فالضميرُ يَعودُ إلى أهلِ الكتابِ، وهمُ اليهودُ والنَصارى، وقد عَبَّرَ عنهم في الاسمِ الظاهرِ بأَهْلِ الكِتابِ للإشارةِ إلى أنَّ لَهم فضلُ عِلْمٍ بما أنزلَ اللهُ من كتابٍ يَهديهم إلى الحَقِّ إنْ هم أَخْلَصوا إيمانهم باللهِ وما أنزل عليهم فيه، وطلبوهُ صفوًا غيرَ مُكَدَّرٍ بشيءٍ من الأهواءِ والأحقادِ وحَسَدِ الناسِ على ما آتاهم اللهُ مِنْ فضلِه. ولو أنَّهم أقاموا التوراةَ والإنجيلَ بإدراكِ ما فيهما مِنْ غيرِ عِوَجٍ في التَفكيرِ وتنفيذِ ما اشْتَمَلا عليْه مِنْ أَوامِرَ ونَواهٍ، ولم يُحرفوا فيهما الكَلِمَ عنْ مَواضِعِه، وأَقاموا ما أَنْزَلَ إليهم مِنْ رَبِّهم، وهو القرآن الكريم لأتاهُمُ الرِزْقُ مِنْ كُلِّ ناحيةٍ مِنَ السماءِ ومِنَ الأرضِ، وقيلَ المُرادُ بِرِزْقِ السماءِ ما يَفيضُ مِنْ غيثٍ وما في الأرضِ هو ما تخرجه الأرض من الزُّروعُ والثِمارِ، وما تحويه من معادِنَ وغيرها. أيْ لو أنَّهم سَلَكوا سبيلَ الطاعةِ لَوَسَّعْنا عليهم أسبابَ المَعيشةِ وسَهَّلْنا لَهم الحالَ حتَّى إنْ ضَرَبوا بيمينٍ وَجَدوا اليُمْن، وإِنْ ذهبوا يُسْرَةً ما وجدوا إلَّا اليُسْرَ.
قولهُ: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} لَكِنَّ قِلَّةً مِنْهُمْ مُؤْمِنَةٌ مُلْتَزِمَةٌ بِأَحْكَامِ مَا شَرَعَ اللهُ لَهُمْ، وَأكْثَرُهُمْ طُغَاةٌ مُجَاوِزُونَ لأَوَامِرِ اللهِ، وَسَاءَ عَمَلُهُمْ. فالمُقْتَصِدُ الواقِفَ على حَدِّ الأَمْرِ؛ لا يُقَصِّرُ فيُنْقِصُ، ولا يُجاوِزُ فيَزيدُ. ويقالُ المقتصدُ الذي تَساوى في هِمَّتِهِ فَقْدُ الحادثاتِ ووُجودُها.
وقد تضمّن هذا النَصُّ الكريمُ بِضْعَ إشارات، أَوَّلُها: التعبيرُ عن القُرآن بـ "ما أُنْزِلَ إليْكم مِن رَّبِّكم" وهذا يَعني أنَّهم مُخاطَبونَ بالقرآنِ الكريم، وأنَّهم مُكَلَّفونَ ـ معَ غيرهم ـ بما فيه من أحكامٍ، وهم مسؤلون أمام اللهِ عن تطبق ذلك ولَيْسُوا خارجين عَنِ التَكليفِ. وثانيها: أنَّ ما جاءَ في التوراةِ والإنجيلِ حَقًّا هُوَ مِنْ عندِ اللهِ، وأنَّ القُرآنَ جاء مِصَدِّقًا لِما جاءَ قبلَه مِنَ الكتابِ. وثالثها: أنَّ إقامةَ الشرعِ الحنيفِ خيرٌ وبركةٌ تأتي بالرِزْقِ والرغدِ لِمَنْ أَخَذَ بالأَسبابِ معتمدًا على الله تعالى حَقَّ الاعْتِمادِ. ورابعُها: أنَّ في قولِه: "لأَكَلوا مِنْ فوقِهم ومِنْ تَحْتِ أرْجُلِهم" إشارةٌ إلى ما يَحصُلُ بالوهْبِ الرَحْمانيِّ، وما يَحصُلُ بالكَسْبِ الإنسانيِّ، فمَن عَمِلَ بِما عَلِمَ واجْتَهَدَ في طريقِ الحَقِّ كلَّ الاجْتِهادِ يَنالُ مَراتِبَ الأذواقِ والمُشاهداتِ فيَحصُلُ لهُ جَنَّتان: جَنَّةُ العَمَلِ وجَنَّةُ الفَضْلِ والرِزْقِ المعنوي. وخامِسُها: أنَّهُ لَا يَخْلو قومٌ مِنْ خَيْرٍ أَبَدًا فهؤلاء الكِتابِيُّون "مِنْهُمْ أُمَّةٌ مقْتَصِدَةٌ" والأُمَّةُ: الجَماعَةُ مِنَ الناسِ الذين يَجمعُهم دينٌ أوْ فِكْرٌ أوْ مَكانٌ أوْ جِنْسٌ، أوْ نحوُ ذلك، وكلُّ شيءٍ ضَمَّ إليْهِ سائرَ ما يَليه يُسَمَّى أُمَّةً، عند الخليلِ بْنِ أحمدٍ الفراهيديِّ، والاقْتِصادُ مِنَ القَصْدِ، وهو اسْتِقامَةُ الطَريقِ الذي يُوصِلُ إلى العدالَةِ والحَقِّ، وعلى هذا فإنَّ من هؤلاءِ الكتابيين جماعةً مستقيمةَ الإدراكِ تُدرِكُ الحَقَّ وتُذْعِنُ إليْه، وإنْ كانتْ قليلةً فيهم، "وكَثِيرٌ منْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ" فإنَّ كلمةَ "ساءَ" تُفي أنَّ السُوءَ منهم كثيرٌ.
قوله تعالى : {لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ} لأَكَلُواْ: اللامُ للتوكيدِ. و"أَكَلُواْ" فعلٌ وفاعلٌ، ومَفعولُ الأَكْلِ هُنا مَحذوفٌ اقْتِصارًا، أيْ لوُجِدَ مِنْهُم هذا الفعلُ، و"مِنْ فوقِهم" مُتَعلِّقٌ بِهِ، أيْ: لأَكَلوا مِنَ الجِهَتَيْن. وقال أبو البَقاءِ: إنَّ "من فوقهم" صِفَةٌ لِمَفعولٍ مَحذوفٍ، أيْ: لَأكلُوا رِزْقًا كائنًا مِنْ فوقِهم.
وقولُهُ {منهم أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ} منهم: خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، و"أُمَّةٌ" مُبْتَدَأٌ مؤخَّرٌ، و"مُقْتَصِدَةٌ" صِفتُها، ويَجوزُ عندَ الأَخْفَشِ أنْ تَكونَ "أُمَّةٌ" فاعلًا بالجارِّ.
وقولُه: {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ ساءَ ما يَعملون} تَنويعٌ في
التَفْصيلِ، فأَخْبرَ في الجُمْلَةِ الأُولى بالجارِّ والمَجرورِ، ووَصَفَ المُبْتَدَأَ بالاقْتِصادِ، وفي الجملةِ الثانية وصفَه بـ "منهم"، وأَخْبَرَ عنْه بِجُمْلَةِ"سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ" وذلكَّ لأنَّ الطائفةَ الأُولى مَمْدوحةٌ فُوُصِفوا بالاقْتِصادِ، وأَخْبَرَ عنهم بأنَّهم مِنْ جُمْلَةِ أَهلِ الكِتابِ فإنَّ الوَصْفَ أَلْزَمُ مِنَ الخَبَرِ، فإذا أَسَلَموا زَالَ عنهم هذا الاسْمُ، وأمَّا الطائفةُ الثانيةُ فإنَّهم وُصِفوا بِكَوْنِهم مِنْ أهلِ الكِتابِ فإنَّ الوَصْفَ أَلْزَمُ وهُم كُفَّارٌ فهُم مِنْهم، وأَخْبَرَ عنهم بالجُملةِ الذَمِّيَّةِ فإنَّ الخَبَرَ لَيْسَ بِلازِمٍ، وقدْ يُسْلِمُ مِنْهُمْ ناسٌ فَيَزولَ عَنْهُمُ الإِخْبارُ بذلك. ويجوزُ في "ساءَ" أنْ تَكونَ تَعَجُّبًا، فكأنَّه قيلَ: ما أَسْوَأَ عَمَلَهم، ولقد ذَكَرَ النُّحاةُ صِيَغَ التَعَجُّبِ ولم يَعُدُّوا فيها "ساء"، فهي تَعَجُّبٌ مِنْ جِهَةِ المَعنى لا مِنْ جِهَةِ التَعَجُّبِ المُبوبِ لَهُ في النَحْوِ. ويجوزُ فيها أن تكونَ بمَعنى "بِئْس" فتَدُلُّ على الذَمِّ كقولِه تعالى: {سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُون} الأعراف: 177. وعلى هذيْنِ القولَيْنِ فـ "ساءَ" غيرُ مُتَصَرِّفَةٍ، لأنَّ التَعَجُّبَ والمَدْحَ والذَمَّ لا تَتَصَرَّفُ أفعالُها. كما يَجوزُ فيها أنْ تَكونَ "ساءَ" المُتَصَرِّفةَ، أي يكون المعنى مِنْ "ساءَ يَسوءُ" نحوَ: قولِه تعالى: {لِيَسُوؤواْ وُجُوهَكُمْ} الإِسراء: 7. وقولِه: {سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ} المُلك: 27، والمُتَصَرِّفَةُ مُتَعَدِّيةٌ، قالَ تعالى: {لِيَسُوؤواْ وُجُوهَكُمْ} فقد تعدّت لمفعولٍ هو "وُجُوهَ"، أمّا "ساءَ" فمفعولُها محذوفٌ تقديرُه: ساءَ عمَلُهُمُ المُؤمِنينَ، أَمَّا التي بمَعنى "بئسَ" فلا بُدَّ لَها مِنْ مُمَيِّزٍ وهو هُنا مَحذوفٌ تقديرُه: ساءَ عَمَلًا الذي كانوا يَعملونَه.