وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} أي واقْصُصْ أيُّها الرسولُ على بَني إسرائيلَ خَبَرَ ابنَيْ آدَمَ ـ عليه السلام ـ قابيلَ وهابيلَ، وهو خبرٌ حقٌ.
وقولُه: {إِذْ قَرَّبا قُرْبانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ} روي أنَّ قابيلَ كان صاحبَ زرعٍ فقَرَّبَ أَرْدَأَ زَرْعِه، حزمةً مِنْ سُنْبُلٍ، ثُمَّ إِنَّهُ وَجَدَ فِيهَا سُنْبُلَةً طَيِّبَةً فَفَرَكَهَا وَأَكَلَهَا. وكان هابيلُ صاحبَ غَنَمٍ فقرَّبَ أَحْسَنَ كَبْشٍ عندَه، أَخَذَهُ مِنْ أَجْوَدِ غَنَمِهِ. "فَتُقُبِّلَ" فَرُفِعَ إِلَى الْجَنَّةِ، فَلَمْ يَزَلْ يَرْعَى فِيهَا إِلَى أَنْ فُدِيَ بِهِ الذَّبِيحُ "إسماعيل" عَلَيْهِ السَّلَامُ، وكانتْ العادةُ حينئذٍ أَنْ يُقرِّبَ الإنسانُ قُربانَه إلى اللهِ ويقومُ يُصلّي، فإذا نَزَلَتْ نارٌ مِنَ السَماءِ وأَكَلَتِ القُربانَ فذلكَ دليلٌ على القَبولِ وإلَّا فلا قَبولَ، فَنَزَلَتْ النارُ فأخذَتْ كَبْشَ هابيلَ ورَفَعَتْه وتَركتْ زَرْعَ قابيلَ، فحَسَدَهُ قابيلُ فقتله.
وكان سببُ قربانِهما ـ على ما ذَكرَه أهلُ العلمِ ـ أنَّ حواءَ كانتْ تَلِدُ
لآدَمَ ـ عليهما السلامُ ـ في كلِّ بطنٍ غلامًا وجاريةً، إِلَّا شِيثَا ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ فَإِنَّهَا وَلَدَتْهُ مُنْفَرِدًا عِوَضًا مِنْ هَابِيلَ، وَاسْمُهُ هِبَةُ اللهِ، لِأَنَّ جِبْرِيلَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ قَالَ لِحَوَّاءَ لَمَّا وَلَدَتْهُ: هَذَا هِبَةُ اللهِ لَكِ بَدَلَ هَابِيلَ. وَكَانَ آدَمُ يَوْمَ وُلِدَ شِيثُ ابْنَ ثَلَاثِينَ وَمِئَةِ سَنَةٍ، وكان جميعُ ما وَلَدَتْهُ أَربعين وَلَدًا في عشرين بَطْنًا أَوَّلُهم "قابيلُ" وتَوْأَمَتُهُ "أَقليمياء"، وآخرُهم عبدُ المُغيثِ وتَوْأَمَتُهُ أَمَةُ المُغيثِ، ثمَّ بارَكَ اللهُ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ في نَسلِ آدمَ ـ عليْهِ السَّلامُ، قالَ ابنُ عبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عنْهُما: لمْ يَمُتْ آدمُ حتّى بَلَغَ وَلَدَهُ ووَلَدَ وَلَدِهِ أَرْبعين أَلَفًا.
واخْتَلفوا في مَوْلِدِ قابيلَ وهابيلَ، فقالَ بعضُهم: غَشِيَ آدمُ حواءَ بعدَ مَهْبِطِهِما إلى الأرضِ بمئةِ سَنَةٍ، فوَلَدَتْ لَه "قابيلَ" وتَوْأَمَتَهُ "أقليمياء" في بَطْنٍ واحدٍ، ثمَّ وَلَدَتْ "هابيلَ" وتَوْأَمَتَهُ "لَيوذا" في بَطْنٍ، وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ عن بعضِ أَهْلِ العِلْمِ بالكِتاب الأَوَّلِ: إنَّ آدمَ كان يَغْشى حوّاءَ في الجَنَّةِ قبلَ أنْ يُصيبَ الخطيئةَ، فحَمَلَتْ فيها بِـ "قابيلَ" وتَوْأمَتِهِ "أَقليما"، فلمْ تَجِدْ عليهِما وَحْمًا ولا وَصَبًا ولا طَلْقًا حتَّى وَلَدَتْهُما، ولم تَرَ مَعَهُما دَمًا، فلمَّا هَبَطَا إلى الأرضِ تَغَشَّاها فحَمَلَتْ بـ "هابيلَ" وتَوْأَمَتِه، فوَجَدَتْ عليهِما الوَحَمَ والوَصَبَ والطَلْقَ والدَمَ، وكان آدمُ إذا شَبَّ أوْلادُه يُزوِّجُ غُلامَ هذا البَطْنِ جاريةَ بَطْنٍ أُخْرى، فكانَ الرَّجُلُ منهم يَتَزَوَّجُ أيَّةَ أَخَواتِه شاءَ إلَّا تَوْأَمَتَه التي وُلِدتْ مَعَهُ لأنَّه لم يَكُنْ يَومئذٍ نِساءٌ إلَّا أَخَواتُهم، فلمَّا وُلِدَ "قابيلُ" وتَوْأَمَتُهُ "أَقليمياء" ثمَّ هابيلُ وتَوْأَمَتُه "لَيوذا"، وكان بينَهُما سَنَتانِ بحسبِ قولِ الكَلْبِيِّ وأَدْرَكوا أَمْرَ اللهِ ـ تَعالى ـ لآدمَ ـ عليه السَلامُ ـ أنْ يَنْكِحَ "قابيلُ" "لَيوذا" أُخْتَ "هابيلَ" ويَنْكِحَ "هابيلُ" "إقليمياء" أختَ "قابيل"، وكانتْ أُخْتُ "قابيلَ" أَحْسَنَ مِنْ أُخْتِ "هابيلَ"، فذَكَرَ ذلك آدمُ لِوَلَدِهِ، فرَضِيَ "هابيلُ" وسَخِطَ "قابيلُ"، وقال: هي أُخْتي أنَا أَحَقُّ بِها، ونحنُ مِنْ وِلادَةِ الجَنَّةِ وهُما مِنْ وِلادةِ الأرضِ، فقالَ لَه أَبوهُ: إنَّها لا تَحِلُّ لكَ فأَبَى أنْ يَقبَلَ ذلك، فَأَمَرَهُ آدَمُ فَلَمْ يَأْتَمِرْ، وَزَجَرَهُ فَلَمْ يَنْزَجِرْ، وقال: إنَّ اللهَ لم يَأمُرْهُ بهذا وإنَّما هو مِنْ رَأيِ أبيهِ آدم، فقالَ لهُما آدمُ ـ عليه السلامُ: فقَرِّبا قُربانًا فأيُّكُما يُقبَلُ قُرْبانُه فهو أَحَقُّ بها، فوضَعا قُربانَهُما ـ الذي سبق ذكرُه ـ أَعلى الجَبَلِ، ثمَّ دَعا آدمُ ـ عليْه السلامُ ـ فنَزَلتْ نارٌ مِنَ السماءِ وأَكَلَتْ قُرْبانَ "هابيلَ" ولمْ تَأكُلْ قربانَ "قابيلَ" فغضِبَ قابيلُ لِرَدِّ قربانِه وكان يُضمِرُ الحَسَدَ في نفسِه، إلى أنْ أتى آدمُ مكَّةَ لِزيارةِ البَيْتِ، فأتى "قابيلُ" "هابيلَ" وهو في غَنَمِه، و"قَالَ لأقْتُلَنَّكَ" قال: ولِمَ؟ قال: لأنَّ اللهَ تعالى قَبِلَ قُربانَكَ ورَدَّ قُرباني، وتَنْكِحَ أُختي الحَسناءَ وأَنْكِحُ أُخْتَكَ الدَميمَةَ، فيَتَحدَّثُ الناسُ أنَّك خيرٌ منّي ويَفْتَخُرُ ولدُك على ولَدي، "قَالَ" هابيلُ: وما ذَنْبي؟ "إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ" إلى آخرِ القِصَّةِ التي أَخْرجَها الطَبَرِيُّ في تفسيرِهِ، وهي مِمَّا أَخَذَه ابْنُ عبَّاسٍ عنْ أَهْلِ الكِتابِ.
قولُه: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} استَدَلَّ بِها المُعتزِلَةُ وغيرُهم على أنَّ صاحبَ المَعاصي لا يُتَقَبَّلُ عَمَلُه، وتَأَوَّلَها الأَشْعَرِيَّةُ بأنَّ التَقوى هُنا يُرادُ بها تَقوى الشِرْكِ. وَجْهُ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا التَّنْبِيهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّ ظُلْمَ الْيَهُودِ، وَنَقْضَهُمُ الْمَوَاثِيقَ وَالْعُهُودَ كَظُلْمِ ابْنِ آدَمَ لِأَخِيهِ. الْمَعْنَى: إِنْ هَمَّ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ بِالْفَتْكِ بِكَ يَا مُحَمَّدُ فَقَدْ قَتَلُوا قَبْلَكَ الْأَنْبِيَاءَ، وَقَتَلَ قَابِيلُ هَابِيلَ، وَالشَّرُّ قَدِيمٌ. أَيْ ذَكِّرْهُمْ هَذِهِ الْقِصَّةَ فَهِيَ قِصَّةُ صِدْقٍ، لَا كَالْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ، وَفِي ذَلِكَ تَبْكِيتٌ لِمَنْ خَالَفَ الْإِسْلَامَ، وَتَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاخْتُلِفَ فِي ابْنَيْ آدَمَ، فَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَيْسَا لِصُلْبِهِ، وكَانَا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ـ ضَرَبَ اللهُ بِهِمَا الْمَثَلَ فِي إِبَانَةِ حَسَدِ الْيَهُودِ ـ وَكَانَ بَيْنَهُمَا خُصُومَةٌ، فَتَقَرَّبَا بِقُرْبَانَيْنِ وَلَمْ تَكُنِ الْقَرَابِينُ إِلَّا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. ولَعَلَّ ممَّا يُشيرُ إلى ذلك قولُه تعالى مِنْ بَعْدُ: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ من قَتَلَ نَفْسًا بِغيْرِ نَفْسٍ ..}. وقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا وَهْمٌ، وَكَيْفَ يَجْهَلُ صُورَةَ الدَّفْنِ أَحَدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَقْتَدِيَ بِالْغُرَابِ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا ابْنَاهُ لِصُلْبِهِ، وهو قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمَا، وَهُمَا قَابِيلُ وَهَابِيلُ، وقَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَغَيْرُهُ. فَلَمَّا تُقُبِّلَ قُرْبَانُ هَابِيلَ لِأَنَّهُ كَانَ مُؤْمِنًا ـ قَالَ لَهُ قَابِيلُ حسدًا: لأنَّه كَانَ كَافِرًا ـ أَتَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ يَرَاكَ النَّاسُ أَفْضَلَ مِنِّي! "لَأَقْتُلَنَّكَ". وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ ـ رضي اللهُ عنه: أَنَّ آدَمَ لَمْ يَكُنْ يُزَوِّجُ ابْنَتَهُ مِنِ ابْنِهِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ آدَمُ لَمَا رَغِبَ عَنْهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمَّا أَهَبَطَ آدَمَ وَحَوَّاءَ إِلَى الْأَرْضِ وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا وَلَدَتْ حَوَّاءُ بِنْتًا فَسَمَّاهَا عَنَاقًا فَبَغَتْ، وَهِيَ أَوَّلُ مَنْ بَغَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهَا مَنْ قَتَلَهَا، ثُمَّ وَلَدَتْ حواءُ لِآدَمَ قَابِيلَ، ثُمَّ وَلَدَتْ لَهُ هَابِيلَ، فَلَمَّا أَدْرَكَ قَابِيلُ أَظْهَرَ اللهُ لَهُ جِنِّيَّةً مِنْ وَلَدِ الْجِنِّ، يُقَالُ لَهَا: جَمَّالَةٌ فِي صُورَةِ إِنْسِيَّةٍ، وَأَوْحَى اللهُ إِلَى آدَمَ أَنْ زَوِّجْهَا مِنْ قَابِيلَ فَزَوَّجَهَا مِنْهُ. فَلَمَّا أَدْرَكَ هَابِيلَ أَهْبَطَ اللهُ إِلَى آدَمَ حُورِيَّةً فِي صِفَةٍ إِنْسِيَّةٍ وَخَلَقَ لَهَا رَحِمًا، وَكَانَ اسْمُهَا بَزْلَةَ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا هَابِيلُ أَحَبَّهَا، فَأَوْحَى اللهُ إِلَى آدَمَ أَنْ زَوِّجْ بَزْلَةَ مِنْ هَابِيلَ فَفَعَلَ. فَقَالَ قَابِيلُ: يَا أَبَتِ أَلَسْتُ أَكْبَرَ مِنْ أَخِي؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَكُنْتُ أَحَقَّ بِمَا فَعَلْتَ بِهِ مِنْهُ! فَقَالَ لَهُ آدَمُ: يَا بُنَيَّ إِنَّ اللهَ قَدْ أَمَرَنِي بِذَلِكَ، وَإِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، فَقَالَ: لَا وَاللهِ، وَلَكِنَّكَ آثَرْتَهُ عَلَيَّ. فَقَالَ آدَمُ: "فَقَرِّبَا قُرْبَانًا فَأَيُّكُمَا يُقْبَلُ قُرْبَانُهُ فهو أَحَقُّ بالفَضلِ".
ومَا أَظُنُّ هذه القضيَّةَ تَصِحُّ عن جعفرٍ ـ رضيَ اللهُ عنه، وَأَنَّ الْقَوْلَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يُزَوِّجُ غُلَامَ هَذَا الْبَطْنِ لِجَارِيَةِ تِلْكَ الْبَطْنِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا مِنَ الْكِتَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً} النساء: 1. وَهَذَا كَالنَّصِّ ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ "الْبَقَرَةِ". وَكَانَ جَمِيعُ مَا وَلَدَتْهُ حَوَّاءُ أَرْبَعِينَ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى فِي عِشْرِينَ بَطْنًا، أَوَّلُهُمْ قَابِيلُ وَتَوْأَمَتُهُ إِقْلِيمِيَاءُ، وَآخِرُهُمْ عَبْدُ الْمُغِيثِ. ثُمَّ بَارَكَ اللهُ فِي نَسْلِ آدَمَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَمُتْ آدَمُ حَتَّى بَلَغَ وَلَدُهُ وَوَلَدُ وَلَدِهِ أَرْبَعِينَ أَلْفًا. وَمَا رُوِيَ عَنْ جَعْفَرٍ ـ مِنْ قَوْلِهِ: فَوَلَدَتْ بِنْتًا وَأَنَّهَا بَغَتْ ـ فَيُقَالُ: مَعَ مَنْ بَغَتْ؟ أَمَعَ جِنِّيٍّ تَسَوَّلَ لَهَا! وَمِثْلُ هَذَا يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ يَقْطَعُ الْعُذْرَ، وَذَلِكَ مَعْدُومٌ. وَاللهُ أَعْلَمُ. الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِ هَابِيلَ "قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ" كَلَامٌ قَبْلَهُ مَحْذُوفٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ قَابِيلُ: "لَأَقْتُلَنَّكَ" قَالَ لَهُ: وَلِمَ تَقْتُلُنِي وَأَنَا لَمْ أَجْنِ شَيْئًا؟، وَلَا ذَنْبَ لِي فِي قَبُولِ اللهِ قُرْبَانِي، أَمَا إِنِّي اتَّقَيْتُهُ وَكُنْتُ عَلَى الْحَقِّ وَإِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. قَالَ ابْنُ عطِيَّةَ: الْمُرَادُ بِالتَّقْوَى هُنَا اتِّقَاءُ الشِّرْكِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَمَنِ اتَّقَاهُ وَهُوَ مُوَحِّدٌ فَأَعْمَالُهُ الَّتِي تَصْدُقُ فِيهَا نِيَّتُهُ مَقْبُولَةٌ، وَأَمَّا الْمُتَّقِي الشِّرْكَ وَالْمَعَاصِيَ فَلَهُ الدَّرَجَةُ الْعُلْيَا مِنَ الْقَبُولِ وَالْخَتْمِ بِالرَّحْمَةِ، عُلِمَ ذَلِكَ بِإِخْبَارِ اللهِ تَعَالَى لَا أَنَّ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَى اللهِ تَعَالَى عَقْلًا. وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ وَغَيْرُهُ: قُرْبَانُ مُتَّقِي هَذِهِ الْأُمَّةِ الصَّلَاةُ. وَهَذَا خَاصٌّ فِي نَوْعٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضي اللهُ عنه قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بها ورجلَه التي يَمشي بِها ولئن سأَلَني لأُعْطِيَنَّه ولئن اسْتَعاذني لأُعيذَنَّه وما تردَّدتُ عن شيءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الموت وأَنَا أَكْرَهُ مَساءَتَه)).
قوله تعالى: {بالحقِّ} حالٌ مِنْ فاعلِ "اتْلُ" أيْ: اتْلُ ذلك حالَ كونِكَ مُلْتَبِسًا بالحَقِّ أيْ: بالصِدْقِ. أو حالٌ مِنْ مَفعولِهِ وهو "نبأَ" أي: اتلُ نبأَهُما بالصِدْقِ مَوافقًا لِما في كُتُبِ الأَوَّلينَ لِتَثْبُتَ عليهِمُ الحُجَّةُ برِسالتِكَ. أو أنّه صفةٌ لِمَصدرِ "اتْلُ" أي: اتْلُ ذلك تِلاوةً مُلْتَبِسَةً بالحَقِّ والصدق، فالباءُ للمُصاحَبَةِ، وهي مُتَعَلِّقةٌ بمحذوفٍ.
وقرأَ أبو عَمْرٍو بِسُكونِ الميمِ مِنْ "آدم" قبل باءِ "بالحق"، وكذا كلُّ ميمٍ قبلَها مُتَحَرِّكٌ وبعدَها باءٌ.
قولُه: {إِذْ قَرَّبَا} إذ: ظرفُ زمانٍ مُتَعلِّقٌ بـ "نبأَ" ، أي: قصتُهما وحديثُهما في ذلك الوقتِ، وهذا واضحٌ. أو هو بَدَلٌ مِنْ "نبأَ" على حذفِ مُضافٍ تقديرُه: واتْلُ عليْهِم النِبِأَ نَبَأَ ذلك الوقتِ. لكنَّ هذا غيرُ جائزٍ لأنَّ "إذ" لا يُضافُ إليها إلّا الزَمانُ، و"نبأَ" ليس بِزَمانٍ. وذكَرَ أبو البَقاءَ وجهًا ثالثاً بأنَّه حالٌ من "نبأ" وعلى هذا فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، لكنَّ هذا الوجهَ غيرُ واضحٍ، ولا يكونُ ظرفًا لـ "اتْلُ" لأنَّ الفِعْلَ مُسْتَقْبَلٌ و"إذ" للماضي فيكفَ يَتَلاقيان؟
والقُرْبان: إمَّا أنَّه اسْمٌ لِما يُتَقَرَّبُ به، كما أنَّ الحُلْوان اسْمُ ما يُحَلِّي، وإمَّا أنْ يكونَ في الأصلِ مصدرًا ثمَّ أُطلِقَ على الشيءِ المُتَقَرَّبِ بِهِ كقولهم: "نَسْجُ اليَمَنِ" و"ضَرْبُ الأَميرِ" ويؤيِّد ذلك أنَّه لم يُثَنَّ والمَوْضِعُ موضِعُ تثنيةٍ؛ لأنَّ كُلًّا مِنْ قابيلَ وهابيلَ لَه قُرْبانٌ يَخُصُّه، فالأصلُ: إذْ قَرَّبا قربانيْن وإنَّما لَمْ يُثَنَّ لأنَّه مَصْدرٌ في الأصل. وللقائلِ بأنَّه اسمُ ما يُتَقَرَّبُ بِهِ لا مَصْدَرٌ أنْ يَقولَ: إنَّما لم يُثَنَّ. لأنَّ المَعنى ـ كما قالَهُ أَبو عليٍّ الفارسي ـ إذْ قَرَّبَ كلُّ واحِدٍ منهما قُربانًا، كقولِه تعالى: {فاجْلدوهم ثَمَانِينَ
جَلْدَةً} النورُ: 4. أيْ: كلَّ واحدٍ منهم.
وقولُه: {قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ} أيْ: قال الذي لم يُتَقَبَّلْ منْه للمِقبولِ منْه. وقَرَأَ الجُمهورُ: "لأقتلنَّك" بالنُونِ الشديدةِ. وهذا جوابُ قَسَمٍ محذوفٍ، وقرأهُ زيدٌ بالخَفيفَةِ. قال: "إنما يتقبَّل الله" مفعولُه محذوفٌ لِدَلالةِ المَعنى عليْه أيْ: قَرابينَهم وأَعْمالَهم، ويَجوزُ ألاَّ يُرادَ لَهُ مفعولٌ كقولِه: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطى واتَّقى} الليل: 5. هذه الجُملةُ قال أبو محمَّدٍ بنُ عَطيَّةَ: قبلَها كلامٌ محذوفٌ، تقديرُه: لِمَ تَقْتُلني وأنَا لَمْ أَجْنِ شيئًا ولا ذَنْبَ لي في تَقَبُّلِ الله قُرباني دونَ قُربانِك؟.
وقال غيرُه: "فيه حذْفٌ يَطُول" وذكرَ نحوَه، ولا حاجةَ إلى تقديرِ ذلك كلِّه، إذِ المَعاني المَفهومةُ مِنْ فَحْوى الكلامِ إذا قُدِّرَتْ قَصيرةً كان أَحْسَنَ، والمَعنى هُنا: قال لأَقْتُلَنَّكَ حَسَدًا على تقبُّلِ قُربانِك فعَرَضَ لَه بأنَّ سببَ التقبُّلِ التَقوى. ولَمَّا كان الحَسَدُ لأخيه على تقبُّلِ قُربانِه هو الذي حَمَلهُ على تَوَعُّدِهِ بالقتلِ، اعْتُبِرَ قولُه: "إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المتقين" جوابًا لِقولِه: "لأقتلنَّك".
وهذا ونحوُه مِنْ تَفسيرِ المَعنى لا الإِعراب. وقيلَ: إنَّ هذه الجُملةَ اعْتِراضٌ بيْن كلامِ القاتِلِ وبيْنَ كلامِ المَقْتُولِ. والضميرُ في "قال" إنَّما يَعودُ على الله تعالى، أيْ: قالَ اللهُ ذَلكَ لِرَسولِهِ فيَكونُ قد اعترضَ بقولِه: "إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله" بيْنَ كلامِ قابيلَ وهو: "قال لأقتلنَّك" وبيْن كلامِ هابيلَ، وهو
"لئن بَسَطْتَ" إلى آخرِهِ، وهو في غاية البُعْد لتنافِرِ النَّظمِ. واللامُ في قولِه: "لَئِن" هي المُوطِّئةُ لقَسَمٍ محذوفٍ.