يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. (16)
قولُه ـ عزَّ مِنْ قائلٍ: {يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ}
هذه هي الثمراتُ التي تُرجى مِنَ الرسالةِ الإلهيَّةِ إلى أَهلِ الأَرضِ، وكونِها نورًا يَهتَدي بِه الساري، وفيه شريعةٌ قائمةٌ في كتابٍ محفوظٍ إلى يومِ القيامةِ، وهذه الثمراتُ ثلاثٌ أوَّلُها: هَدايةٌ إلى الحَقِّ، وإخراجٌ مِنَ الظُلُماتِ إلى النُّورِ، ويَهدي بِه اللهُ ـ سُبْحانَه ـ إلى صِراطٍ مُستقيمٍ لا عِوَجَ ولا أَمْتَ. والضمير في قولِه: "يَهدي بهِ اللهُ" راجعٌ إلى الكتابِ، أو إليه وإلى النورِ، ووحَّدَ الضميرَ لاتِّحادِ المَرْجِعِ بالذات، أوْ لِكونِهِما في حُكْم الواحدِ، أوْ لِكَوْنِ المُرادِ أنَّه ـ سبحانه ـ يَهدي بما ذُكِرَ، وقدَّمَ المَجرورَ للاهتمامِ نَظرًا إلى المَقامِ، وإظهارُ الاسْمِ الجَليلِ لإظهارِ كمالِ الاعْتِناءِ بأمرِ الهِدايةِ، "مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَه" أيْ ما رَضِيَهُ، وهو دينُ الإسلامِ، أو مَنْ عَلِمَ اللهُ تَعالى أنَّه يُريدُ اتِّباعَ رضا اللهِ بالإيمانِ به، "سُبُلَ السَّلامِ" طُرُقَ السَّلامةِ مِنَ العَذابِ المُوصِلَةِ إلى دارِ السلامِ المُنزَّهةِ عنْ كلِّ آفةٍ، وقيلَ المُرادُ بالسَّلامِ هو الإسلامُ. وعن السُدِّيِّ قال: سبيلُ السلامِ هي سبيلُ اللهِ الذي شَرَعَه لِعِبادِهِ، ودعاهم إليْه وبعثَ بِهِ رُسُلَهُ وهو الإسْلامُ.
قولُه: {ويُخرجُهم مِنَ الظُلُماتِ إلى النورِ} الظلمات: أيْ الكُفْرِ " "النور" أي الإسلام.
قولُه: "ويَهْديهم إلى صِراطٍ مُستقيم" أيْ إلى طريقٍ يَتَوصَّلون بِها إلى
الحَقِّ لا عِوَجَ فيها ولا مَخَافَةَ، وهَذه الهدايةُ غيرُ الهِدايةِ إلى سُبُلِ السَلامِ وإنَّما عُطِفَتْ عليْها تَنزيلًا للتَغايُرِ الوَصْفِيِّ مَنزِلَةَ التَغايُرِ الذاتيِّ.
قولُه تعالى: "يَهْدِي" فيه خمسةُ أَوْجُهٍ، أَظهرُها: أنَّه جملةٌ في مَحَلِّ
رَفْعٍ لأنَّه صفةً ثانيَةً لـ "كتاب" وَصَفَهُ بالمُفْرَدِ ثمَّ بالجُمْلَةِ وهو الأصلُ. الثاني: أنْ يَكونَ صِفَةً أيْضًا لكنْ لـ "نور"، وفيه نَظَرٌ، إذِ القاعدةُ أنَّه إذا اجتمعتِ التَوابِعُ قُدِّمَ النَّعتُ على عَطْفِ النَسَقِ، تقولُ: "جاءَ زيدٌ العاقلُ وعَمْرو" ولا تقول: "جاءَ زيدٌ وعَمْرٌو العاقلُ" ولأنَّ فيه إلباسًا أيضًا. الثالث: أنْ يَكونَ حالًا مِنْ "كتاب" لأنَّ النَكِرَةَ لَمَّا تخَصَّصتْ بالوَصْفِ قَرُبَتْ مِنَ المَعرِفةِ، وقياسُ قولُ أَبي البَقاءِ أنَّه يَجوزُ أنْ يَكونَ حالًا مِنْ "نور" كما جازَ أنْ يَكونَ صِفَةً لَه. الرابعُ: أنَّه حالٌ مِنْ "رَسولِنا" بَدَلًا مِنَ الجُمْلَةِ الواقعةِ حالًا له وهي قولُه "يُبَيِّنُ". الخامسُ: أنَّه حالٌ مِنَ الضَميرِ في "يُبَيِّنُ" ذَكَرَهُما أبو البقاء ولا يَخْفى ما فيها من الفَصْلِ، ولأنَّ فيه ما يُشْبِهُ تَهْيِئَةَ العامِلِ للعَمَلِ وقَطْعَه عنْه. والضميرُ في "بِهِ" يَعودُ على مَنْ جَعَلَ "يَهْدي" حالًا منْه أوْ صفةً لَه، فلِذلك أُفْرِد، أيْ: إنَّ الضميرَ في "به" أَتى بِهِ مُفردًا، وقد تقدَّمَه شيئان، وهما نُورٌ وكتابٌ، ولكنْ لَمَّا قَصَدَ بالجُملةِ مِن قولِه "يهدي" الحالَ أو الوصفَ مِنْ أَحدِهِما أَفرَدَ الضَميرَ، وقيل: الضَميرُ في "به" يعودُ على الرسولِ. وقيلَ: يَعودُ على السَّلامِ، وعلى هذين القولين لا تكونُ الجُمْلَةُ مِنْ قولِه "يهدي" حالًا ولا صفةً لعدمِ الرابِطِ. و"مَنْ" مَوْصولَةٌ أوْ نَكِرَةٌ مَوْصوفَةٌ، وراعى لَفظَها في قولِهِ: "اتَّبَعَ"
فلِذلك أَفرَدَ الضَميرَ، ومعناها، فلِذلك جَمَعَه في قولِه: {وَيُخْرِجُهُمْ}.
وقرَأَ عُبيْد بنُ عُمَيرٍ ومُسْلم بْنُ جُنْدُبٍ والزَّهري: "بهُ" بضمِّ الهاءِ حيثُ وَقَعَ، وقد تقدَّمَ أنَّه الأصلُ. وقرَأَ الحسنُ: "سُبْل" بسكون الباءِ، وهو تخفيفٌ قياسِيٌّ بِه كقولِهم في "عُنُق": "عُنْق"، وهذا أَوْلى لِكونِه جَمْعًا، وهو مفعولٌ ثاني لـ "يهدي" على إسقاطِ حرفِ الجَرِّ أيْ: إلى سُبُلِ، ويَجوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ على أنَّه بدلٌ من "رِضوانِه": إمَّا بدلُ كلٍّ مِنْ كلٍّ؛ لأنَّ "سُبُلَ السلامِ" هي رُضْوانُ الباري تَعالى، وإمَّا بَدَلُ اشْتِمالٍ لأنَّ الرِضوانَ مُشْتَمِلٌ على سُبُلِ السَّلامِ، أوْ لأنَّها مُشْتَملةٌ على رِضْوانَ اللهِ ـ تعالى، وإمَّا بَدَلُ بعضٍ مِنْ كلٍّ، لأنَّ سُبُلَ السلامِ بعضُ الرِضْوان. و"بإذنه" متعلِّقٌ بـ "يخرجهم" أيْ بِتَيْسيرِه أوْ بأمْرِه، والباءُ للحالِ، أيْ: مُصاحبين لِتَيْسيرِه، أو للسَّبَبِيَّةِ، أيْ: بسببِ أمرِهِ المُنَزَّلِ على رَسولِه.