يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا. (171)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَهْلَ الْكِتابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} يَنْهَى اللهُ تَعَالَى أَهْلَ الكِتَابِ عَنِ الغُلُوِّ فِي دِينِهِمْ ، وَعَنِ المُبَالَغَةِ ، وَتَجاوُزِ الحُدُودِ التِي حَدَّها اللهُ، وَيَأمُرُهُمْ بِألا يَعْتَقِدُوا إلاَّ القَوْلَ الحَقَّ الثَّابِتِ، وَيَعْنِي بِذَلِكَ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ غُلُوَّ الْيَهُودِ فِي عِيسَى حَتَّى قَذَفُوا مَرْيَمَ، وَغُلُوَّ النَّصَارَى فِيهِ حَتَّى جَعَلُوهُ رَبًّا، بلْ قدْ غَلَوْا في أَتباعِه وأشياعِه، ممَّنْ زَعَم أنَّه على دينِه، فادَّعوْا فيهمُ العِصمةَ واتَّبعوهم في كلِّ ما قالوه، سَواء كان حقًّا أو باطلًا، ضلالًا أو رشادًا، صحيحًا أوْ كَذِبًا؛ ولهذا قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} التوبة: 31.
فَالْإِفْرَاطُ وَالتَّقْصِيرُ كُلُّهُ سَيِّئَةٌ وَكُفْرٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: الْحَسَنَةُ بَيْنَ سَيِّئَتَيْنِ، وَقَالَ الشَّاعِرُ أبو سليمان الخطابي:
وَأَوْفِ ولا تَسْتَوفِ حَقَّكَ كُلَّهُ ............. وَصَافِحْ فَلَمْ يَسْتَوْفِ قَطُّ كَرِيمُ
وَلَا تَغْلُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَمْرِ وَاقْتَصِدْ ........ كِلَا طَرَفَيْ قَصْدِ الْأُمُورِ ذَمِيمُ
وَقَالَ آخَرُ:
عَلَيْكَ بِأَوْسَاطِ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا .............. نَجَاةٌ وَلَا تَرْكَبْ ذَلُولًا وَلَا صَعْبَا
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ برقم /3445/ عن الزُهريِّ عَنْهُ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى وَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ)). وروى الإمامُ أحمد في مسنده عن أنسَ بْنِ مالكٍ ـ رضي اللهُ عنه: أنَّ رجلًا قالَ: محمَّدٌ يا سيِّدُنا وابْنُ سيِّدِنا، وخيرُنا وابْنُ خيرِنا. فقالَ رسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْه وسلَّم: ((يا أيُّها النَّاسُ، عليكم بقولِكم، ولا يَسْتَهْويَنَّكُمُ الشيطانُ، أنا محمدُ بنُ عبدِ اللهِ، عبدُ اللهِ ورَسولُه، واللهِ ما أُحِبُّ أنْ تَرفعوني فوقَ مَنزِلَتي التي أَنْزلَني اللهُ عَزَّ وجَلَّ". وهذا من شدّةِ تواضعهِ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ وخوفِه على أمته أنْ تبلغَ فيه ما بلغته النصارى في سيدنا عيسى وما بلغته اليهودُ في سيدنا العزير عليهما السلامُ، وإلّا فهو سيدنا وخيرنا حقيقةً ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ يثبت ذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ في الحديث الذي خرجه أبو يَعلى الموصليُّ في مسنده والبيهقيُّ في شُعَبِ الإيمان، عن ابْنِ عبّاسٍ، وفي فتحِ الباري ـ لابْنِ رجَبٍ (2/ 23)، وخرَّجَه كذلك التِرْمِذِيُّ وابنُ ماجةَ مِنْ حديثِ أَبي سعدٍ عن سيدِنا رسولِ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ أنَّه قال: (( .. وأنا سيِّدُ ولَدِ آدمَ ولا فَخْرَ..)). وفي سَنَدِ رِوايةِ أبي يَعلى عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ، وَقَدْ وُثِّقَ عَلَى ضَعْفِهِ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ رِجَالُ الصَّحِيحِ إلَّا أنَّ للحديثِ عَواضِدُ كثيرةٌ بهذا اللفظِ: "وأنا سيِّدُ ولَدِ آدمَ ولا فَخْرَ". وزادَ في روايةٍ: ((أنا أكرمُ الأوَّلين والآخِرين وأنا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ ولا فَخْرَ..)).. أَضِفْ إلى ذلك ما أَجْمَعَ عليْه النَسَّابون مِنْ أنَّ قريشًا أشرفُ العَرَبِ وأنَّ هاشمًا أَشْرفُ قريشٍ والرسولُ ـ عليه الصلاةُ والسَّلامُ ـ هو مُحَمَّدٌ بْنُ عبدِ اللهِ بْنِ عبدِ المُطَّلِبِ سيِّدِ بَني هاشِمٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} أَيْ لا تَقولوا إنَّ لَه شريكًا أوْ أبناءَ.
قولُهُ: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ} الْمَعْنَى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. وَدَلَّ بِقَوْلِهِ: "عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ" عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مَنْسُوبًا بِوَالِدَتِهِ كَيْفَ يَكُونُ إِلَهًا، وَحَقُّ الْإِلَهِ أَنْ يَكُونَ قَدِيمًا لَا مُحْدَثًا. ولَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ امْرَأَةً وَسَمَّاهَا بِاسْمِهَا فِي كِتَابِهِ إِلَّا مَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ اسْمَهَا فِي نَحْوٍ مِنْ ثَلَاثِينَ مَوْضِعًا لِحِكْمَةٍ ذَكَرَهَا بعض الأشياخ، فإنَّ المُلوكَ والأشرافَ لَا يَذْكُرُونَ حَرَائِرَهُمْ فِي الْمَلَإِ، وَلَا يَبْتَذِلُونَ أَسْمَاءَهُنَّ، بَلْ يُكَنُّونَ عَنِ الزَّوْجَةِ بِالْعِرْسِ وَالْأَهْلِ وَالْعِيَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنْ ذَكَرُوا الْإِمَاءَ لَمْ يُكَنُّوا عَنْهُنَّ وَلَمْ يَصُونُوا أَسْمَاءَهُنَّ عَنِ الذِّكْرِ وَالتَّصْرِيحِ بِهَا، فَلَمَّا قَالَتِ النَّصَارَى فِي مَرْيَمَ مَا قَالَتْ، وَفِي ابْنِهَا صَرَّحَ اللهُ بِاسْمِهَا، وَلَمْ يُكَنِّ عَنْهَا بِالْأُمُوَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ الَّتِي هِيَ صِفَةٌ لَهَا، وَأَجْرَى الْكَلَامَ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي ذِكْرِ إِمَائِهَا.
واعْتِقَادُ أَنَّ عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ لَا أَبَ لَهُ وَاجِبٌ، فَإِذَا تَكَرَّرَ اسْمُهُ مَنْسُوبًا لِلْأُمِّ اسْتَشْعَرَتِ الْقُلُوبُ مَا يَجِبُ عَلَيْهَا اعْتِقَادُهُ مِنْ نَفْيِ الْأَبِ عَنْهُ، وَتَنْزِيهِ الْأُمِّ الطَّاهِرَةِ عَنْ مَقَالَةِ الْيَهُودِ لَعَنَهُمُ اللهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ} أَيْ هُوَ مُكَوَّنٌ بِكَلِمَةِ "كُنْ" فَكَانَ بَشَرًا مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الشَّيْءَ بِاسْمِ الشَّيْءِ إِذَا كَانَ صَادِرًا عَنْهُ. وَقِيلَ: "كَلِمَتُهُ" بِشَارَةُ اللَّهِ تَعَالَى مَرْيَمَ ـ عَلَيْهَا السَّلَامُ، وَرِسَالَتُهُ إِلَيْهَا عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} آل عمران: 45. وَقِيلَ: "الْكَلِمَةُ" هَاهُنَا بِمَعْنَى الْآيَةِ، قَالَ اللَّهُ تعالى: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها} التحريم: 12. و{ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ} لقمان: 27. وَكَانَ لِعِيسَى أَرْبَعَةُ أَسْمَاءٍ، الْمَسِيحُ وَعِيسَى وَكَلِمَةٌ وَرُوحٌ، وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ. وَمَعْنَى "أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ" أَمَرَ بِهَا مَرْيَمَ.
قال حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي الغزالي قُدِّسَ سِرُّهُ: لِكُلِّ
مَولودٍ سببٌ قريبٌ وسببٌ بَعيدٌ، فالأوَّلُ: المَنِيُ، والثاني: قولُ "كن"، ولمَّا دلَّ الدَليلُ على عَدَمِ القَريبِ في حَقِّ عيسى ـ عليه السَّلامُ ـ أَضافَه إلى البعيدِ، وهو قولُ كُنْ إشارةً إلى انْتِفاءِ القَريبِ، وأَوْضَحَهُ بقولِهِ ـ سبحانَه: {ألقاها إلى مَرْيَمَ} أيْ أَوْصَلَها إليْها، فجعلَه كالمَنِي الذي يُلْقى في الرَّحِمِ فهو اسْتِعارةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَرُوحٌ مِنْهُ}. هَذَا الَّذِي أَوْقَعَ النَّصَارَى فِي الْإِضْلَالِ، فَقَالُوا: عِيسَى جُزْءٌ مِنْهُ فَجَهِلُوا وَضَلُّوا.
يُحكى أنَّ طبيبًا نَصرانيًّا حاذقًا كان للرشيدِ، ناظَرَ عليًّا بنَ الحُسيْنِ الواقِديِّ المَرْوزيِّ ذاتَ يومٍ فقال له: إنَّ في كِتابِكم ما يَدُلُّ على أنَّ عيسى ـ عليه السلامُ ـ جُزْءٌ منه ـ تعالى، وتَلى هذِه الآيةَ، فقَرأَ الواقِدِيُّ قولَه تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السموات وَمَا فِي الأرضِ جَمِيعًا مّنْهُ} الجاثية: 13. فقال: إذاً يَلزَمُ أنْ يَكونَ جميعُ الأَشياءِ جزءً منه ـ سبحانَه وتعالى ـ عُلُوًّا كبيرًا فانْقَطَعَ النَّصْرانيُّ فأَسْلَمَ، وفرِحَ الرَّشيدُ فرحًا شَديدًا، ووصَلَ الواقِدِيَّ بِصِلَةٍ فاخرةٍ.
ولا حُجَّةَ ـ كذلك ـ للنَّصارى على شيءٍ مما زَعَموا في تشريفِ عيسى ـ عليه السلامُ ـ بنسبةِ الرُّوحِ إليْه إذْ لِغيرِه مُشاركةٌ له في ذلك، ففي "إنْجيلِ لُوقا" قالَ يَسوعُ لِتَلاميذِه: إنَّ أباكم السَّماوِيَّ يُعطي رُوحَ القُدُسِ الذين يَسألونَه، وفي "إنجيلِ متّى": إنَّ يُوحَنَّا المَعمدانيَّ امْتَلَأَ مِنْ رُوحِ القُدُسِ وهو في بَطْنِ أُمِّهِ، وفي "التوراة": قال اللهُ تعالى لِموسى ـ عليه السلامُ: اخْتَرْ سبعينَ مِنْ قومِك حتّى أُفيضَ عليهم مِنَ الرُّوحِ التي عليكَ فيَحمِلوا عنكَ ثِقَلَ هَذا النَّعْتِ، ففَعلَ فأفاضَ عليهِم مِنْ رُوحِه فتُبُنُّوا لِساعتِهم، وفيها في حقُّ يَوسُفَ ـ عليه السلام: يَقولُ المَلِكُ: هل رأيتم مثلَ هذا الفتى الذي رُوحُ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ ـ حالٌّ فيه، وفيها أيضًا: إنَّ روحَ اللهِ ـ تعالى ـ حلَّتْ على دانيالَ، إلى غيرِ ذلك.
ولَعَلَّ الرُّوحَ في جميعِ ذلك أمرٌ قُدْسِيٌّ وسِرٌّ إلهيٌّ يُفيضُه اللهُ ـ تعالى ـ على مَنْ يَشاءُ مِن عِبادِهِ حَسْبَما يَشاءُ، وفي أيِّ وقتٍ يَشاء، وإطلاقُ ذلك على عيسى ـ عليه السلام ـ من بابِ المُبالَغَةِ، وليس المُراد بِه الروحُ الذي بِه الحياةُ أصْلًا.
وفي معنى قولِه: "وَرُوحٌ مِنْهُ" أَقوالٌ منها: قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: خَلَقَ اللهُ أَرْوَاحَ بَنِي آدَمَ لَمَّا أَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ، ثُمَّ رَدَّهَا إِلَى صُلْبِ آدَمَ وَأَمْسَكَ عِنْدَهُ رُوحَ عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا أَرَادَ خَلْقَهُ أَرْسَلَ ذَلِكَ الرُّوحَ إِلَى مَرْيَمَ، فَكَانَ مِنْهُ عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلِهَذَا قَالَ: "وَرُوحٌ مِنْهُ". وَقِيلَ: هَذِهِ الْإِضَافَةُ لِلتَّفْضِيلِ وَإِنْ كَانَ جَمِيعُ الْأَرْوَاحِ مِنْ خَلْقِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} الحج: 26، وَقِيلَ: قَدْ يُسَمَّى مَنْ تَظْهَرُ مِنْهُ الْأَشْيَاءُ الْعَجِيبَةُ رُوحًا، وَتُضَافُ إِلَى اللهِ تَعَالَى فَيُقَالُ: هَذَا رُوحٌ مِنَ اللَّهِ أَيْ مِنْ خَلْقِهِ، كَمَا يُقَالُ فِي النِّعْمَةِ إِنَّهَا مِنَ اللهِ. وَكَانَ عِيسَى يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُحْيِي الْمَوْتَى فاسْتَحَقَّ هذا الاسم. وقيل: يُسَمَّى رُوحًا بِسَبَبِ نَفْخَةِ جِبْرِيلَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَيُسَمَّى النَّفْخُ رُوحًا، لِأَنَّهُ رِيحٌ يَخْرُجُ مِنَ
الرُّوحِ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
فَقُلْتُ لَه ارْفَعْها إليكِ وأَحْبِها ............... بِرُوحِكَ وَاقْتَتْهُ لَهَا قِيتَةً قَدْرَا
يقول الشاعر: بروحِك: أي بِنَفْخِك. واقتَتْه لها قيتةً: أي ارفِقُ بالنَفخِ القليلِ في النار. وأنْ يُطْعِمْها حَطَبًا قليلًا قليلًا.
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَفَخَ فِي دِرْعِ مَرْيَمَ فَحَمَلَتْ مِنْهُ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ "وَرُوحٌ مِنْهُ" مَعْطُوفًا عَلَى الْمُضْمَرِ الَّذِي هُوَ اسْمُ اللهِ فِي "أَلْقاها" التَّقْدِيرُ: أَلْقَى اللَّهُ وَجِبْرِيلُ الْكَلِمَةَ إِلَى مَرْيَمَ.
وَقِيلَ: "رُوحٌ مِنْهُ" أَيْ مِنْ خَلْقِهِ، كَمَا قَالَ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} الجاثية: 13. أَيْ مِنْ خَلْقِهِ. وَقِيلَ: "رُوحٌ مِنْهُ" أَيْ رَحْمَةٌ مِنْهُ، فَكَانَ عِيسَى رَحْمَةً مِنَ اللهِ لِمَنِ اتَّبَعَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} المجادلة: 22. أي برحمة، وقرئ: "فَرُوحٌ وَرَيْحَانٌ". وَقِيلَ: "وَرُوحٌ مِنْهُ" وَبُرْهَانٌ مِنْهُ، وَكَانَ عِيسَى بُرْهَانًا وَحُجَّةً عَلَى قَوْمِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقيل: سُمِّيَ رُوحًا لأنَّ الناسَ يَحْيَوْنَ بِه كَما يَحْيَوْنَ بالأرواح.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} أَيْ آمِنُوا بِأَنَّ اللَّهَ
إِلَهٌ وَاحِدٌ خَالِقُ الْمَسِيحِ وَمُرْسِلُهُ، وَآمِنُوا بِرُسُلِهِ وَمِنْهُمْ عِيسَى فَلَا تَجْعَلُوهُ إِلَهًا. "وَلا تَقُولُوا" آلِهَتُنَا "ثَلاثَةٌ" فعَنِ الزَّجَّاجِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ بِالتَّثْلِيثِ اللهَ تَعَالَى وَصَاحِبَتَهُ وَابْنَهُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدٍ: أَيْ لَا تَقُولُوا هُمْ ثَلَاثَةٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ} الكهف: 22. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الفارسي: التَّقْدِيرُ وَلَا تَقُولُوا هُوَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، فَحُذِفَ الْمُبْتَدَأُ وَالْمُضَافُ. وَالنَّصَارَى مَعَ فِرَقِهِمْ مُجْمِعُونَ عَلَى التَّثْلِيثِ وَيَقُولُونَ: إِنَّ اللهَ جَوْهَرٌ وَاحِدٌ وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَقَانِيمَ، فَيَجْعَلُونَ كُلَّ أُقْنُومٍ إِلَهًا وَيَعْنُونَ بِالْأَقَانِيمِ الْوُجُودَ وَالْحَيَاةَ وَالْعِلْمَ، وَرُبَّمَا يُعَبِّرُونَ عَنِ الْأَقَانِيمِ بِالْأَبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ، فَيَعْنُونَ بِالْأَبِ الْوُجُودَ، وَبِالرُّوحِ الْحَيَاةَ، وَبِالِابْنِ الْمَسِيحَ، فِي كَلَامٍ لَهُمْ فِيهِ تَخَبُّطٌ بَيَانُهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ. وَمَحْصُولُ كَلَامِهِمْ يَؤولُ إِلَى التَّمَسُّكِ بِأَنَّ عِيسَى إِلَهٌ بِمَا كَانَ يُجْرِيهِ اللهُ ـ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ـ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ عَلَى حَسَبِ دَوَاعِيهِ وَإِرَادَتِهِ، وَقَالُوا: قَدْ عَلِمْنَا خُرُوجَ هَذِهِ الْأُمُورِ عَنْ مَقْدُورِ الْبَشَرِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَدِرُ عَلَيْهَا مَوْصُوفًا بِالْإِلَهِيَّةِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ مَقْدُورَاتِهِ وكان مستقلًا به كَانَ تَخْلِيصُ نَفْسِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ وَدَفْعُ شَرِّهِمْ عَنْهُ مِنْ مَقْدُورَاتِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنِ اعْتَرَفَتِ النَّصَارَى بِذَلِكَ فَقَدْ سَقَطَ قَوْلُهُمْ وَدَعْوَاهُمْ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُهَا مُسْتَقِلًّا بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمُوا ذَلِكَ فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ أَيْضًا، لِأَنَّهُمْ مُعَارَضُونَ بِمُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَا كَانَ يَجْرِي عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْأُمُورِ الْعِظَامِ، مِثْلَ قَلْبِ الْعَصَا ثُعْبَانًا، وَفَلْقِ الْبَحْرِ وَالْيَدِ الْبَيْضَاءِ وَالْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ مَا جَرَى عَلَى يَدِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ فَنُنْكِرُ مَا يَدَّعُونَهُ هُمْ أَيْضًا مِنْ ظُهُورِهِ عَلَى يَدِ عِيسَى ـ عليه السلام، فلا يمكنهم إثباتُ شيءٍ مِنْ ذَلِكَ لِعِيسَى، فَإِنَّ طَرِيقَ إِثْبَاتِهِ عِنْدَنَا نُصُوصُ الْقُرْآنِ وَهُمْ يُنْكِرُونَ الْقُرْآنَ، وَيُكَذِّبُونَ مَنْ أَتَى بِهِ، فَلَا يُمْكِنُهُمْ إِثْبَاتُ ذَلِكَ بِأَخْبَارِ التَّوَاتُرِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ النَّصَارَى كَانُوا عَلَى دينِ الإسلامِ إحْدى وثمانينَ سنةً بعدَ ما رُفِعَ عِيسَى، يُصَلُّونَ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَيَصُومُونَ شَهْرَ رَمَضَانَ، حَتَّى وَقَعَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْيَهُودِ حَرْبٌ، وَكَانَ فِي الْيَهُودِ رَجُلٌ شُجَاعٌ يُقَالُ لَهُ بُولِسُ، قَتَلَ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِ عِيسَى فَقَالَ: إِنْ كَانَ الْحَقُّ مَعَ عِيسَى فَقَدْ كَفَرْنَا وَجَحَدْنَا وَإِلَى النَّارِ مَصِيرُنَا، وَنَحْنُ مَغْبُونُونَ إِنْ دَخَلُوا الْجَنَّةَ وَدَخَلْنَا النَّارَ، وَإِنِّي أَحْتَالُ فِيهِمْ فَأَضِلُّهُمْ فَيَدْخُلُونَ النَّارَ، وَكَانَ لَهُ فَرَسٌ يُقَالُ لَهَا الْعُقَابُ، فَأَظْهَرَ النَّدَامَةَ وَوَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ التُّرَابَ وَقَالَ لِلنَّصَارَى: أَنَا بُولِسُ عَدُوُّكُمْ قَدْ نُودِيتُ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ لَيْسَتْ لَكَ تَوْبَةٌ إِلَّا أَنْ تَتَنَصَّرَ، فَأَدْخَلُوهُ فِي الْكَنِيسَةِ بَيْتًا فَأَقَامَ فِيهِ سَنَةً لَا يَخْرُجُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا حَتَّى تَعَلَّمَ الْإِنْجِيلَ، فَخَرَجَ وَقَالَ: نُودِيتُ مِنَ السَّمَاءِ أَنَّ اللهَ قَدْ قَبِلَ تَوْبَتَكَ فَصَدَّقُوهُ وَأَحَبُّوهُ، ثُمَّ مَضَى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهِمْ نُسْطُورًا وَأَعْلَمَهُ أَنَّ عِيسَى بن مريم إلهٌ، ثمَّ توجَّه إلى الرومِ وعلَّمَهم اللَّاهُوتِ وَالنَّاسُوتِ وَقَالَ: لَمْ يَكُنْ عِيسَى بِإِنْسٍ فَتَأَنَّسَ وَلَا بِجِسْمٍ فَتَجَسَّمَ وَلَكِنَّهُ ابْنُ اللهِ. وَعَلَّمَ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ يَعْقُوبُ ذَلِكَ، ثُمَّ دَعَا رَجُلًا يُقَالُ لَهُ الْمَلِكُ فَقَالَ لَهُ، إِنَّ الْإِلَهَ لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ عِيسَى، فَلَمَّا اسْتَمْكَنَ مِنْهُمْ دَعَا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ وَاحِدًا وَاحِدًا وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ خَالِصَتِي وَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَسِيحَ فِي النَّوْمِ وَرَضِيَ عَنِّي، وَقَالَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ: إِنِّي غَدًا أَذْبَحُ نَفْسِي وَأَتَقَرَّبُ بِهَا، فَادْعُ النَّاسَ إِلَى نِحْلَتِكَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَذْبَحَ فَذَبَحَ نَفْسَهُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ ثَالِثِهِ دَعَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ النَّاسَ إِلَى نِحْلَتِهِ، فَتَبِعَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ طَائِفَةً، فَاقْتَتَلُوا وَاخْتَلَفُوا إِلَى يَوْمِنَا هَذَا، فَجَمِيعُ النَّصَارَى مِنَ الْفِرَقِ الثَّلَاثِ، فَهَذَا كَانَ سَبَبَ شِرْكِهِمْ فِيمَا يُقَالُ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} كَأَنَّهُ قَالَ: ائْتُوا خَيْرًا لَكُمْ، لِأَنَّهُ إِذَا
نَهَاهُمْ عَنِ الشِّرْكِ فَقَدْ أَمَرَهُمْ بِإِتْيَانِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ، قَالَه سِيبَوَيْهِ وَأَنْشَدَ:
فَوَاعِدِيهِ سَرْحَتَيْ مَالِكٍ ........................... أَوِ الرُّبَا بَيْنَهُمَا أَسْهَلَا
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} أي إِنَّمَا الْمَعْبُودُ وَاحِدٌ. و"سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ" أَيْ تَنْزِيهًا عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، أَيْ كَيْفَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ؟ وَوَلَدُ الرَّجُلِ مُشْبِهٌ لَهُ، وَلَا شَبِيهَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قولُه: {لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} فَلَا شَرِيكَ لَهُ، وَعِيسَى وَمَرْيَمُ مِنْ جُمْلَةِ مَا في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَمَا فِيهِمَا مَخْلُوقٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ عِيسَى إِلَهًا وَهُوَ مَخْلُوقٌ! وَإِنْ جَازَ وَلَدٌ فَلْيَجُزْ أَوْلَادٌ حَتَّى يَكُونَ كُلُّ مَنْ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ مُعْجِزَةٌ وَلَدًا لَهُ.
قولُه: {وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا} أيْ لأوليائه، وفيه إشارةٌ إلى دليلٍ آخَرَ لأنَّ الوَكيلَ بمعنى الحافظ فإذا استقلَّ ـ سبحانَه وتعالى ـ في الحفظِ لم يحتَجْ إلى الوَلَدِ فإنَّ الولَدَ يُعينُ أباه في حياتِه، ويَقومُ مقامَه بعدَ وفاته، واللهُ تعالى منزَّهٌ عن كلِّ هذا فلا يُتَصوَّرُ لَه وَلَدٌ عقلًا ويَكونُ افتراؤه حُمْقًا وجهلًا.
قولُه تعالى: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} الغُلُوُّ: تجاوزُ الحدِّ، ومنْه: "غَلْوة السهم" و"غَلاء السعر".
قوله: {إِلاَّ الحقَّ} استثناءٌ مُفرَّغٌ، و"الحقَّ" مفعولٌ به منصوبٌ لأنَّه تضمَّنَ معنى القولِ نحو: "قلتُ خُطبةً" أو هو نعتُ مصدرٍ محذوفٍ أي: إلَّا القولَ الحقَّ، وهو قريب في المعنى من الأول.
وقرأ جعفر بنُ محمَّدٍ: "المِسِّيح" بوزن "السِّكِّيت" كأنّه جَعَله مثالَ مبالغةٍ نحو: شِرِّيبٌ العسلَ، و"المسيح" مبتدأٌ بعد "إنَّ" المكفوفة، و"عيسى" بدلٌ منْه أو عطفُ بيانٍ، و"ابن مريم" صفتُه و"رسول الله" خبرُ المُبتدأِ، و"كلمتُه" عطفٌ عليه.
و"ألقاها" جملةٌ ماضيةٌ في مَوْضِعِ الحالِ، و"قد" معها مقدرةٌ. وفي عاملِ الحالِ ثلاثةُ أَوْجُهٍ. أحدُها: أنَّه معنى "كلمة" لأنَّ معنى وصفِ عيسى بالكَلِمَةِ: المُكوَّنُ بالكَلِمَةِ مِنْ غيرِ أبٍ، فكأنَّه قال: ومَنشؤهُ ومُبتَدَعُه. والثاني: أنْ يَكونَ التقديرُ: إذْ كان ألقاها، فـ "إذا" ظرفُ زمانٍ مُستقبَلٍ، و"كان" تامَّةٌ، وفاعلُها ضميرُ اللهِ ـ تعالى. و"ألقاها" حالٌ مِنْ ذلك الفاعِلِ، وهو كقولِهم: "ضربني زيدًا قائمًا" والثالث: أنْ يَكونَ حالًا مِنَ الهاءِ المَجرورةِ، والعاملُ فيها معنى الإِضافةِ تقديرُه: وكلمةُ اللهِ مُلْقِيًا إيّاها. أمّا جَعلُ القائلِ بهذا الوجهِ العاملَ معنى "كلمة" فصحيحٌ، لكنَّه لم يُبَيِّن في هذا الوجهِ مَنْ هو صاحبُ الحال؟ وصاحبُ الحالِ الضميرُ المُستَتِرُ في "كَلِمتُه" العائدُ على عيسى لما تَضمَّنَتْه مِنْ معنى المُشْتَقِّ نحو: "مُنشَأٌ ومُبتَدَعٌ"، وأمّا جَعْلُه العاملَ معنى الإِضافة فشيءٌ ضعيفٌ، ذهبَ إليْه بعضُ النَحْوِيّين. وأمَّا تقديرُه الآيةَ بمثلِ "ضربي زيدًا قائمًا"
ففاسِدٌ مِن حيثُ المَعنى. واللهُ أعلمُ.
وقولُه: {رُوحٌ} عطفٌ على "كلمة" و"منه" صفة لـ "روح"، و"من" لابتِداءِ الغايةِ مجازًا، وليست تَبعيضيَّةً.
وقولُه: {ثلاثةٌ} خبرُ مبتدأٍ مُضمَرٍ، والجُملةُ مِنْ هذا المُبتَدَأِ والخبرِ في محلِّ نصبٍ بالقولِ أي: ولا تقولوا: "آلهتنا ثلاثةٌ" يدلُّ عليه قولُه بعد ذلك: "إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ" وقيل: تقديرُه: الأقانيمُ ثلاثةٌ أو المعبودُ ثلاثةٌ.
وقال الفارسي: تقديرُه: اللهُ ثالثُ ثلاثةٍ، ثمَّ حُذِفَ المُضافُ وأُقيمَ المُضافُ إليْه مُقامَه، يُريدُ بذلك موافقةَ قولِه: {لَقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} المائدة: 73.
وقولُه: {انتهوا خَيْراً لَّكُمْ} نصبُ "خيرًا" هُنا كَنَصْبِه فيما تقدَّمَ في جميعِ وجوهِ نسبتِه إلى قائليه. و"أن يكون له ولد" تقديرُه: مِنْ أنْ يَكونَ، أو: عن أنْ يكونَ، لأنَّ معنى "سبحان" التنزيهُ، فكأنّه قيل: نَزَّهوه عن أنْ يكون، أو مِنْ أنْ يَكونَ لَه ولَدٌ، فيَجيءُ في محلِّ "أن" الوجهان المشهوران. و"واحد" نعتٌ على سبيلِ التَوكيدَ، وظاهرُ كلامِ مَكّي أنَّه نَعْتٌ لا على سبيلِ التَوكيدِ، فإنَّه قال: "والله" مبتدأ، و"إله" خبرُه، "واحدٌ" نعتٌ تقديرُه: إنَّما اللهُ مُنفَرِدٌ في إلهَيَّتِهِ. وقيل: "واحدٌ" تأكيدٌ بِمنزِلَةِ {لاَ تَتَّخِذُواْ إلهيْن اثْنَيْن} النحل: 51، ويَجوزُ أنْ يكونَ "إله" بدَلًا مِنْ "الله" و"واحد"
خبرُه، تقديرُه: إنَّما المَعبودُ واحدٌ.
وقولُه: {أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} تقدَّمَ نظيرُه، وقرَأَ الحسنُ: "إنْ يكونُ"
بكسرِ الهمزةِ ورفعِ "يكون" على أن "إنْ" نافيةٌ أي: ما يكون له ولدٌ، فعلى قراءته يكونُ هذا الكلامُ جملتين، وعلى قراءةِ العامَّةِ يَكونُ جملةً واحدةً.
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا.
(172)
قولُه ـ عَزَّ وَجَلَّ: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ..} أي لا يَتَكَبَّرُ ولا يَأْنَفُ، وكيفَ يَسْتَنْكِفُ عَنْ عُبوديَّتِهِ وبالعُبوديَّةِ شَرَفُه، وكيفَ يَسْتَكْبِرُ عَنِ التَذَلُّلِ وفي اسْتِكْبارِهِ تَلَفُه، ولهذا الشأنِ نَطَقَ المَسيحُ أوَّلَ ما نَطَقَ بِقولِه: إنّي عبدُ اللهِ، والمعنى مأخوذٌ مِن نَكَفْتَ الدَّمعَ إذا نَحَّيْتَه بإصبِعِكَ عن خَدَّيْك، وعليه لَنْ يَأنَفَ عَنِ العُبوديَّةِ ولَنْ يَتَنَزَّهَ عنها. وقيلَ هو مِنَ النَّكفِ وهو العَيبُ، يُقالُ ما عليه في هذا الأمرِ نَكْفٌ ولا وَكْفٌ أيْ عيبٌ، أيْ لَنْ يَعيبَ العُبوديَّةَ ولَنْ يَنْقَطِعَ عنها. "المسيح" الذي زَعَمتم بأنَّه إلهٌ عن "أنْ يَكونَ عبدًا لله". أيْ أَنْ يُقِرَّ بالعُبوديَّةِ للهِ.
نَزَلَتْ هَذِه الْآيَةُ فِي قَوْلِ النصارى: إِنَّه عَارٌ على صاحِبِنا مَا تَقولُ يَا مُحَمَّدُ، فَأنْزلَ اللهُ هذه الآيةَ التي تقولُ إِنَّه لَيْسَ بِعَارٍ أَنْ يَكونَ عِيسَى عَبدًا لله. فقد رُوِيَ أنَّ وفدَ نَجران قالوا لِرَسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ تعالى عليْه وسلَّم: لِمَ تَعيبُ صاحبَنا؟. قالَ: ((ومَنْ صاحبُكم))؟ قالوا عيسى، قال: ((وأيُّ شىءٍ أَقولُ))؟ قالوا: تقولُ إنَّه عبدُ اللهِ، قال: ((إنَّه ليسَ بِعارٍ أنْ يَكونَ عبدَ اللهِ)). قالوا: بَلى بِعارٍ، فنَزَلَتْ.
قولُهُ: {ولا الملائكةُ المُقرَّبون} أيْ ولَنْ يَستَنْكِفَ حملةُ العرشِ وأَفاضلُ المَلائكةِ مثلُ جبريلَ وغيرِه عن أنْ يَكونوا "عِبادًا للهِ"، لأنَّهُمْ يَعْرِفُونَ عَظَمَتَهُ وَجَلاَلَهُ، وهذا مِنْ أحْسَنِ الاسْتِطْرادِ، ذُكِرَ للرَدِّ على مَنْ زَعَمَ أنَّها آلهةٌ أو بناتُ اللهِ كما رُدَّ بما قبلِه على النَصارى الزاعمين ذَلك، والمَقصودُ خِطابُهم.
يُخْبِرُ اللهُ ـ سبحانَه ـ أنَّ أُولَئِكَ الذينَ تَعبُدونَهم أنْتُم لمْ يَسْتَنْكِفوا عَنْ عِبادتي، فكيفَ تَسْتَنْكِفونَ أَنتم؟! وذلك لأنَّ منهم مَنْ كان يَعبُدُ المَلائكةَ مِنْ دونِ اللهِ، ومنهم مَنْ كان يَعبُدُ المَسيحَ من دونِه ـ سبحانه. ولقد تكلَّم الناسُ في هذِه الآيةِ: قال الحَسَنُ: فيه دليل تفضيلِ الملائكةِ على البشرِ، لأنَّ الثاني يَخرُج مَخْرَجَ التأكيدِ للأوَّلِ، وإنَّما يُذْكَرُ ما بِه يُؤكَّدُ، إذا كان أفضلَ منه وأَرْفعُ، ولا يَكونُ التأكيدُ بمثلِه ولا بما دونِه، كما يُقالُ: لا يَقدِرُ أنِ يَحْمِلَ هذا واحدٌ ولا عَشَرَةٌ، فهو يُقالُ على التأكيدِ، فذَكَرَ المَلائكةَ على أثَرِ ذِكْرِ المَسيحِ للتأكيدِ، وإنّما يكونُ التأكيدُ بما هو أَكبرُ، لا بما هو دون. وقال: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} التحريم: 6، وقال: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} الأنبياء: 20، فقالوا: كيف يَستوي حالُ مَنْ يَعصي مَعَ حالِ مَنْ لا يَعصي؟! وحالُ مَنْ لا يَفْتُرُ عن عبادتِه طَرْفَةَ عَيْنٍ معَ حالِ مَنْ يَرْتَكِبُ المَعاصي؟! وقال ـ تعالى ـ حكايةً عن إبليس؛ حيثُ قال لآدمَ وحواءَ ـ عليهِما السلامُ ـ {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} الأعراف: 20. فلو لم يَكنْ للمَلائكةِ فضلٌ عندَهم ومَنزلةٌ ـ ليس للبشر مثله ـ لم يكن إبليس ليُغريهما بأنَّهما يَصيران مَلَكَينِ، ولا كانا باللَّذين يغتران بذلك، فدَلَّ على أنَّ المَلَكَ أَفضلَ مِنَ البَشَرِ. ثمَّ إنَّ الأنبياءَ ـ عليهمُ الصلاةُ والسلامُ ـ ما استغفروا لأَحَدٍ، إلَّا بدؤوا بالاستِغْفارِ لأنفُسِهم ثمَّ لغيرِهم مِنَ المؤمنين؛ كقول نوحٍ ـ عَلَيهِ السلامُ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} نوح: 28. وكقول إبراهيم ـ عليه السلامُ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) إبراهيم: 41. وما أَمَرَ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ به نبيَّه محمَّدًا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ـ بالاستغفار، بقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} غافر: 55، وقوله: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الفتح: 2، فما أُمِرَ بِذلك، وما فَعلوا ذلك؛ إلَّا لاحتِمالِ أنْ يَكونَ منهم ـ عليهم الصلاةُ والسلامُ ـ ذَنْبٌ. أمّا المَلائكة فلم يستغفروا لأنفُسِهِم؛ إنَّما طَلَبوا المَغفِرَةَ للمُؤمنين مِنَ البَشَرِ؛ كقولِه: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} غافر: 7، ولذلك فقد ذَهبَ بعضُ الناسِ إلى تفضيلِ الملائكةِ على البَشر.
وقال آخرون بِتَفضيلِ البَشَرِ على الملائكةِ، ولا يَجبُ أنْ يُتَكَلَّمَ في تفضيلِ البَشَرِ على إطلاقِه؛ لأنَّهم يَعملون بالفَسادِ وبالفِسْقِ، إلَّا أنْ يُتَكَلَّمَ في تفضيلِ أهلِ الفَضْلِ مِنَ البَشَرِ ومَنْ عُرِفَ بذلك منهم.
ويذهب من قال بتَفضيلِ مَن ذَكَرْنا مِنَ البَشَرِ على الملائكةِ إلى أنَّه:
ليس في قولِه تعالى: "لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا
الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ" دَلالةٌ على أنَّ الملائكةَ كلُّهم أَفضلُ منهم؛ لأنَّه إنَّما ذَكَرَ "المقربون"، ولم يَذكُرْ المَلائكةَ مُطلَقًا؛ فيَجوزُ أنْ يَكونَ لِمَنْ ذُكِرَ فضلٌ على البَشَرِ، وكلامُنا في تفضيلِ الجَوْهَرِ على الجَوْهَرِ، ولأنَّ البَشَرَ رُكِّبَ فيهم مِنَ الشَهواتِ والأَمانِي التي تَدعوهم إلى ما فيه المخِالفةُ للهِ والمعصيةُ لَه، ماليس للملائكةِ مثلُه وما ليس في وُسْعِهم فِعلُه، وجَعَلَ لَهم أعداءً أُمِروا بمُجاهدتِهم، مِنْ نَحْوِ: أَنفُسِهم، والشياطين الذين سُلِّطوا عليهم، ولا كذلك أيضاً للمَلائكة؛ فمن حَفِظَ نفسَه، وصانَها، وأَخْلَصَها مِنْ بيْنِ الأعداءِ، وقَمَعَ ما رُكِّبَ فيهم مِنَ الشَهَواتِ، والحاجاتِ الداعيةِ إلى المخالفةِ للهِ والمَعصيةِ لَه كان أَفضلَ ممَّنْ لا يَشْغَلُه شيءٌ مِنْ ذلك، واللَّه أَعلمُ.
وما ذكر من اغترارِ آدمَ وحَواءَ بقولِ إبليسَ: {إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ} لا يَحتمِلُ أنْ يَكونَ آدمُ، لِما خَلَقَه مِن جَوهَرِ البَشَرِ، وأَخبَرَ أنَّه جَعَلَهُ خَليفةً في الأرْضِ أنَّه يَتَناوَلُ ما نُهيَ عنه؛ لِيَصيرَ مِن جَوهَرِ المَلائكةِ، ولكنه ـ واللهُ أَعلمُ ـ رأى أنَّ المَلائكةَ طُبِعُوا على حُبِّ العِبادةِ للهِ، ولمْ يُرَكَّبْ فيهم مِنَ الشَهَواتِ والحاجاتِ التي تَشْغَلُ المَرْءَ عنِ العِبادةِ للهِ والطاعةِ لَه، فأَحَبَّ أنْ يُطْبَعَ بِطبعِهم؛ لِيَقومَ بعبادةِ اللهِ كما قاموا هُمْ، والله أعلم.
قولُه: {ومَنْ يَسْتَنْكِفْ عنْ عِبادتِه ويِسْتَكْبِرْ} أيْ يَأنَفُ تَكَبُّرًا عَن الْإِقْرَار بعبوديته ويَعُدُّ نفسَه كبيرًا على العبادَةِ "وَيَسْتَكْبِرْ" عَن الْإِيمَان بِالله
ـ سبحانه وتعالى.
قولُه: {فسيحشرهم إليه جميعًا} أيْ سَيَحْشُرُ اللهُ ـ سبحانَه ـ المُسْتَنْكِفَ وغيرَه فيُجازي كلًّا بِعَمَلِهِ، لا يَمل