وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161)
قولُه تعالى شأنُه: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ}
لقد كان الظلمُ الأوَّلُ موضِعُه القلبُ والاعْتِقادُ، وما يَنْبَعِثُ مِنْ أفعالٍ شاذَّةٍ فيها اعتداءٌ على رُسُلِ اللهِ تعالى وأنبيائه ـ عليهمُ السلامُ، فالاعتداءُ فيها كان على جَنْبِ اللهِ تعالى والفَسادُ كان في القُلوبِ، وفي الأعمالِ التيِ تتعلَّقُ بها. أمّا الظُلْمُ هنا فهو واقعٌ على العِبادِ. فقد نَهاهُم اللهُ ـ سبحانَه ـ في التوراةِ عَنِ أَكْلِ الرِّبا فلم يَنْتَهوا عنْه، وهي إحْدى جَرائِمِهِمُ الّتي اسْتَحَقُّوا بارْتِكابِهِمْ لَها عُقوبَةَ اللهِ ـ تعالى ـ بِتَحْرِيمِ الطَّيِّبَاتِ عَلَيْهِمْ، وقد احْتَالُوا عَلَى أَكْلِهِ بَأْنَواعِ الحِيَلِ، وَصُنُوفٍ مِنَ الشُّبَهِ. وفي الآيةِ دليلٌ على أنَّ النَهْيَ يَدُلُّ على حُرْمَةِ المَنْهيِّ عنْه.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لَا خِلَافَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ قَدْ نُهُوا عَنِ الرِّبَا وَأَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خَبَرًا عَمَّا نَزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ فِي الْقُرْآنِ وَأَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي الْخِطَابِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَإِنْ كَانَ خَبَرًا عَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى فِي التَّوْرَاةِ، وَأَنَّهُمْ بَدَّلُوا وَحَرَّفُوا وَعَصَوْا وَخَالَفُوا فَهَلْ يَجُوزُ لَنَا مُعَامَلَتُهُمْ وَالْقَوْمُ قَدْ أَفْسَدُوا أَمْوَالَهُمْ فِي دِينِهِمْ أَمْ لَا؟ فَظَنَّتْ طَائِفَةٌ أَنَّ مُعَامَلَتَهُمْ لَا تَجُوزُ، وَذَلِكَ لِمَا فِي أَمْوَالِهِمْ مِنْ هَذَا الْفَسَادِ. وَالصَّحِيحُ جَوَازُ مُعَامَلَتِهِمْ مَعَ رِبَاهُمْ وَاقْتِحَامِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ، فَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى ذَلِكَ قُرْآنًا وَسُنَّةً، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ} المائدة: 5. وَهَذَا نَصٌّ، وَقَدْ عَامَلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْيَهُودَ وَمَاتَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ فِي شَعِيرٍ أَخَذَهُ لِعِيَالِهِ. وَالْحَاسِمُ لِدَاءِ الشَّكِّ وَالْخِلَافِ اتِّفَاقُ الْأُمَّةِ عَلَى جَوَازِ التِّجَارَةِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَقَدْ سَافَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ تَاجِرًا، وَذَلِكَ مِنْ سَفَرِهِ أَمْرٌ قَاطِعٌ عَلَى جَوَازِ السَّفَرِ إِلَيْهِمْ وَالتِّجَارَةِ مَعَهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، قُلْنَا: إِنَّهُ لَمْ يَتَدَنَّسْ قَبْلَ النُّبُوَّةِ بِحَرَامٍ ـ ثَبَتَ ذَلِكَ تَوَاتُرًا ـ وَلَا اعْتَذَرَ عَنْهُ إِذْ بُعِثَ، وَلَا مَنَعَ مِنْهُ إِذْ نُبِّئَ، وَلَا قَطَعَهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي حَيَاتِهِ، وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَقَدْ كَانُوا يُسَافِرُونَ فِي فَكِّ الْأَسْرَى وَذَلِكَ وَاجِبٌ، وَفِي الصُّلْحِ كَمَا أَرْسَلَ عُثْمَانُ وَغَيْرُهُ، وَقَدْ يَجِبُ وَقَدْ يَكُونُ نَدْبًا، فَأَمَّا السَّفَرُ إِلَيْهِمْ لمجرد التجارة فمباح.
قولُه: {وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ} وَمِنْ هذِهِ الجَرائمِ التي عُوقِبوا عليها أَكْلُهُمُ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ، وَذَلِكَ بِالرِّشْوَةِ وَالسَّرِقَةِ وَالخِيَانَةِ وَنَحْوِها المآكِلِ الَّتي يُصيبونَها مِنْ عوامِّهم مِمَّا فِيهِ أَخْذٌ لِلْمَالِ بِلاَ مُقَابِلٍ يُعْتَدُّ بِهِ.
وَقولُه: {وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذابًا أَلِيمًا} يَتَهَدَّدُهُمُ اللهُ تَعَالَى بِالعِقَابِ الأَلِيمِ الذِي أَعَدَّهُ لِمَنْ يَرْتَكِبُ هَذِهِ الجَرَائِمَ، وَهُوَ الخُلُودُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَفِيهَا العَذَابُ الأَلِيمُ. و"للكافرين" أيْ للمُصرِّين على الكُفْرِ لا لِمَن تابَ وآمَنَ مِنْ بينِهم كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلام وأضرابِه "عَذَاباً أَلِيماً" سيذوقونَه في الآخرةِ كما ذاقوا في الدُنيا عقوبةَ التَحريمِ، وكان التحريمُ عامًّا للظالِمِ وغيرِه، وأنَّه مِن بابِ {واتَّقوا فتنةً لا تُصيبَنَّ الذين ظَلَموا مِنكم خاصَّةً} الأنفال: 25. ولِذا قالَ ـ سبحانَه: "للكافرين" ولم يَقُلْ لَهم.
قولُهُ تعالى: {وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ} جملةٌ في محلِّ نَصْبٍ لأنَّها حاليَّةٌ، ونظيرُ ذلك في إعادةِ الحرفِ وعدمِ إعادتِه ما تقدَّم في قولِه: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ} النساء: 155، الآية.
وقولُه: {بالباطلِ} يَجوزُ أنْ يَتَعلَّقَ بـ "أَكْلِهم" على أنَّها سَببيَّةٌ أو بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ مِن "هم" في "أكلهم" أي: مُلْتَبِسين بالباطل.
لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162)
قَوْلُهُ تَعَالَى جَدُّهُ: {لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ والمؤمنون} استدراكٌ مِنْ قولِه تعالى {وأَعْتَدْنا} الآية أوْ مِنَ {الذين هادوا}، وبيانٌ لكونِ بعضِهم على خلافِ حالِهم عاجِلًا وآجلًا فاسْتَثْنَى مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ أَنْكَرُوا وَقَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كَانَتْ حَرَامًا فِي الْأَصْلِ وَأَنْتَ تُحِلُّهَا وَلَمْ تَكُنْ حُرِّمَتْ بِظُلْمِنَا، فَنَزَلَت "لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ" وَالرَّاسِخُ هُوَ الْمَبَالِغُ فِي عِلْمِ الْكِتَابِ الثَّابِتِ فِيهِ، وَالرُّسُوخُ الثُّبُوتُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي "آلِ عِمْرَانَ" وَالْمُرَادُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَكَعْبُ الْأَحْبَارِ وَنُظَرَاؤُهُمَا. فقد كان عبدُ اللهِ بْنُ سَلامٍ عالِمًا بالتَوراةِ راسِخًا في العِلْمِ فقالَ لمَّا رأيتُ وجهَ رَسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ ـ عَرَفْتُ أنَّه ليس بوجهِ كذّابٍ فآمنتُ به.قائلًا لرسول اللهِ: إنِّي أومِنُ بِكَ رسولًا، واللهِ لقد عَرَفتُك حينَ رأيتُك كَمعرِفتي لابْني ومعرفتي لك أَشَدُّ. ويقولُ الحقُّ عن مثلِ هذا المَوقف: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}. ولا أحدٌ يتوهُ عن معرفةِ ابْنِه؛ كذلك الراسخون في العلم يعرفون أنَّ محمَّدًا رسولٌ مِنَ اللهِ ومُبَلِّغًا عنه، فالراسخُ في العِلمِ هو الثابتُ على إيمانِه لا يَتزَحْزَح عنْه ولا تَأخُذُه الأَهواءُ ولا النَزَواتُ. بل هو صاحبُ ارتقاءٍ صَفائيٍّ في اليَقينِ لا تَشوبُه شائبةٌ أو شُبهةٌ. ولمَّا لم يَكُنْ لِغيره مِنَ الأحبارِ رسوخٌ في العِلْمِ، لم يعرفوه فكفروا بِهِ، مع أنهم قرؤوا صفتَه في التوراة.
قولُه: {وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} الْمُؤْمِنُونَ: أَيْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ. أو مِن الجميع "يؤمنون بما أنزل إليك" أيْ القُرآن وهو أصلٌ يُرَدُّ إليه كلُّ كتابٍ سابقٍ عليْه، فحين يؤمنون بما أُنزِلَ إلى سَيِّدِنا رَسولِ اللهِ، لابُدَّ أنْ يُؤمِنوا بما جاءَ مِنْ كُتُبٍ سابقةٍ. "وما أنزل من قبلك" أي سائرِ
الكُتُبِ المُنْزَلَةِ على الأنبياءِ.
قولُهُ: {الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} فيها كسرٌ للإعراب لَفْتًا للأنظارِ وإثارةً لانتباه السامعين لاستحضارِ الوعيِ بهذِه القَضيَّة التي يَجبُ أنْ يَقِفَ الذِهْنُ عنْدَها لأَهميَّتِها القصوى، وكان الإعرابُ يقتضي أن يُقالَ "والمقيمون" لأنه جمعُ مذكَّرٍ سالمٌ معطوفٌ على مروفوعٍ فمكانُهُ الرَّفعُ وعلامةُ رفعِ جمع المذكرِ السالمِ الواو، فنُصِبَ على المدحِ، رفعًا لشأنِ المصلين وتنبيهًا إلى شرفِ الصلاةِ، لأنَّ الصلاةَ تَضُمُّ وتَشْمَلُ العِمادَ الأساسيَّ في أَركانِ الإسلامِ؛ لأنَّ كلَّ رُكْنٍ مِنْ الأَركانِ لَه مُدَّةٌ ولَه زَمَنٌ ولَهُ مَناطُ تكليفٍ. فالشَهادةُ بأنْ لا إلهَ إلّا اللهُ وأنَّ محمَّدًا رَسولُ اللهِ يَكفي أنْ يَقولَها المُسلمُ مرَّةً واحدةً في العُمرِ، والصومُ شهرٌ في العامِ وقدْ لا يَصومُ الإنسانُ ويأخُذُ بِرُخَصِ الإفْطارِ إنْ كانتْ لَه مِنْ واقعِ حياتِه أسبابٌ للأخذِ بها. والزّكاةُ يؤدِّيها المرءُ كلَّ عامٍ أوْ كلَّ زِراعةٍ إنْ مالكًا لِنِصابِ الزِكاة. والحَجُّ قد يَستَطيعُه الإنسانُ وقدْ لا يَستَطيعُه، وهو مرةً في العمرِ. وتَبقى الصلاةُ الركنَ الأساسيَّ للدِّينِ. ولذلك نَجِدُ هذا القولَ الكريمَ: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين} المُدَّثِّر: 42 ـ 43.
قولُه: {والمُؤتونَ الزَكاةَ} والزكاة معونةٌ اجْتِماعيَّةٌ للمؤمنين، فهي عطاءٌ بِنِيَّةِ العِبادةِ، وهي تومئ إلى التعاوُنِ بين المؤمنين، بحيث يُعينُ القويُّ الضعيفَ، والغنيُّ الفقيرَ، وكلُّ امرئٍ في حاجةِ أخيه وعونِه كما قال عليه الصلاةُ والسلامُ فيما رواه مسلمٌ وغيرُه عن أبي هريرة ـ رضي اللهُ عنه: ((.. الله في عونِ العبدِ، ما دامَ العبدُ في عونِ أخيه))، وكلُّ امْرئٍ كائنًا منْ كان يَحتاجُ إلى غيرِه في ناحيةٍ مّا، ويَمُدُّ لغيرِه يدَ المساعدة في حاجة من الحوائج من ناحيةٍ أُخرى.
قولُه: {وَالْمُؤْمِنونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} ذكر ـ سبحانَه وتعالى ـ لُبَّ اليقين، ونورَ الإيمانِ وما يكونُ به الرُّسوخُ في العِلْمِ والعقيدة؛ فالإيمانُ باللهِ جلَّ جَلالُه، وإدراكْ معنى صِفاتِه، والإذعانُ لَه، واعتقادُ أنَّه فوقَ كلِّ الوُجودِ وما فيه وأنَّه القاهرُ فوقَ عِبادِه.
والإيمانُ باليومِ الآخرِ هو إيمانٌ بالغيبِ، وهو أَخَصُّ عناصِرِ الإيمانِ، وهو الذي يَجعلُ المؤمنَ يَعرِفُ حقيقةَ الدُنيا، ويَصبِرُ على سَرّائها وضَرّائها، ولا تَذْهَبُ نفسُه حَسَراتٍ عندَ الحِرْمان، ولا يَطْغى ويَغترُّ عندما يُعطيهِ، ويَعلَمُ أنَّه مَجْزِيٌّ بالصَبْرِ، مُحاسَبٌ على ما أَنْعَمَ اللهُ تعالى بِه عليْه.
قولُه: {أولئك سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيمًا} هو أجرٌ عظيمٌ لأنَّ كلَّ واحدٍ منهم قد شذَّ عن جماعتِه مِن بقيَّةِ أهلِ الكِتابِ ووَقفَ الموقفَ المُتأبّي والرافضَ المُتمرِّدَ على تَدليسِ غيرِه، ولأنّه فعل ذلك لِيُبيِّنَ صِدْقَ القرآنِ في أنَّ الإعلامَ بالرَّسولِ قد سَبَقَ وجاءَ في التوراةِ. فأولئك الذين نالوا هذه الخِصالَ كلَّها، من إيمان بكلِّ الأنبياءِ وتهذيبٍ لضمائرِهم بالصَلاةِ، وتعاونهم فيما بينهم بالزكاة، بعد الإيمان باللهَ تعالى حَقَّ الإيمان، والتصديق بالبعثِ والنُشورِ، والصبر في السرّاءِ والضَرَّاءِ، هؤلاءِ المُتَّصِفون بتلك الصِفاتِ يَستحِقُّونَ بِسبِبها جَزاءً عَظيمًا. وقد أكَّدَ ذلك الجَزاءَ
بثلاثةِ مُؤكِّداتٍ:
أوَّلُها: "السين" في قولِه "سَنُؤْتِيهِمْ"؛ لأنَّها لِتَأْكيدِ الوُقوعِ في المُستقبَلِ.
وثانيها: إسنادُ العَطاءِ إلى اللهِ تعالى القادرِ على كلِّ شيءٍ، وهو لَا يُخلِفُ المِيعادَ.
ثالثها: تنكيرُ الأجرِ، ووصفِهِ بالعَظَمَةِ، فهو أجرٌ عظيمٌ لَا يَجري في خيالِ البَشَرِ، ويَعْلَمُه خالقُ البَشرِ وحده.
قولُه تعالى: {لكنِ الراسخون} استدراكٌ مِنْ قولِه ـ سبحانَه: {وَأَعْتَدْنَا} النساء: 161. الخ، وبيانٌ لكونِ بعضِهم على خلافِ حالِهم عاجلًا وآجلًا، وجِيءَ هُنا بـ "لكن" لأنَّها بيْن نقيضيْنِ، وهُما الكُفَّارُ والمؤمنون. و"الراسخون" مبتدأٌ وخبرُهُ "يؤمنون" أو جُملةُ "أولئك سنؤتيهم"، و"في العلم" متعلِّقٌ بـ "الراسخون". و"منهم" متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنَّه حالٌ مِنَ الضميرِ المُسْتَكِنِّ في "الراسخون".
قولُه: "المؤمنون" عطفٌ على "الراسخون" وفي خبرِهِ الوجهان المَذكوران في خبرِ "الراسخون"، ولكن إذا جَعَلْنا الخبَرَ "أولئك سنُؤتيهم" فما هو محلُّ يؤمنون؟ والذي يَظْهر أنَّه جُملةُ اعتِراضٍ لأنَّ فيه تأكيدًا وتسديدًا للكلامِ، ويكون "يؤمنون" يَعودُ على "الراسخون" و"المؤمنون" جميعاً، ويَجوزُ أنْ تَكونَ حالًا منهما، وحينئذٍ لا يُقالُ: إنَّها حالٌ مُؤكَّدَةٌ لِتَقدُّمِ عاملٍ مُشارِكٍ لَها لفظًا؛ لأنَّ الإِيمانَ فيها مُقيَّدٌ، والإِيمانُ الأوَّلُ مُطلَقٌ، فصارَ فيها فائدةٌ لم تَكنْ في عامِلِها، وقد يُقالُ: إنَّها مُؤكّدةٌ بالنِسْبةِ لقولِه: "يؤمنون" غيرُ مؤكّدةٍ بالنِسبَةِ لقولِه: "الراسخون".
قولُه: {والمقيمين} قراءةُ الجمهورِ بالياءِ، وقرَأَ جَماعةٌ كثيرةٌ "والمقيمون" بالواوِ منهم ابْنُ جُبيْرٍ وأبو عَمْرٍو بْنُ العَلاءِ في روايةِ يونُس وهارون عنه، ومنهم مالك بنُ دينارٍ وعِصمةُ عنِ الأعمَشِ، وعَمْرو بنُ عُبيْدٍ، والجَحْدَرِيُ وعيسى بْنُ عُمَر وخلائق. فأمَّا قراءةُ الياءِ فقد اضْطَرَبَتْ فيها أقوالُ النُحاةِ، وفيها سِتَةُ أقوالٍ، أَظهرها: ما عزاه مَكِيّ لِسِيبويْهِ، وأبو البقاءِ للبَصْرِيِّين من أنَّه منصوبٌ على القَطْعِ، يَعني المُفيدَ للمَدْحِ كما في قطعِ النُعوتِ، وهذا القطعُ مفيدٌ لِبيانِ فضلِ الصلاةِ ـ كما تقدَّمَ بيانُه ـ فَكَثُرَ الكلامُ في الوَصفِ بأنْ جُعِلَ في جُملةٍ أُخرى، وكذلك القطعُ في قولِه {والمؤتون الزكاة} على ما سيأتي هو لبيانِ فَضْلِها أيضًا، لكن على هذا الوجْهِ يَجِبُ أنْ يَكونَ الخبرُ قولَه: "يؤمنون" ولا يَجوزُ أنْ يَكونَ قولَه "أولئك سَنُؤْتِيهِمْ" لأنَّ القطعَ إنَّما يَكونَ بعدَ تمامِ الكلامِ. وحكى ابنُ عطيَّة عن قومٍ مَنْعَ نصبِه على القطعِ مِنْ أجلِ حرفِ العطفِ، والقطعُ لا يكونُ في العطف، إنّما ذلك في النعوت، ولمّا استدلَّ الناسُ بقولِ الخِرْنِقِ بنت بدرٍ:
لا يَبْعَدَن قومي الذين همُ ....................... سُمُّ العُداةِ وآفَةُ الجُزْرِ
النازلين بكلِّ معتَركٍ .............................. والطيبون معاقدَ الأُزْرِ
على جوازِ القطعَ فَرَّقَ هذا القائلُ بأنَّ البيتَ لا عطفَ فيه؛ لأنَّها
قطعتْ "النازلين" فنصبتْه، و"الطيبون" فرفعَتْه عن قولِها "قومي"، وهذا الفرقُ لا أثرَ لَهُ؛ لأنَّه في غيرِ هذا البيتِ ثَبَتَ القطعُ مَعَ حرفِ العطفِ، فقد أنشدَ سِيبويْهِ لأُميَّةَ بنِ أبي عائذ الهُذَلِيِّ من المتقارب:
ويَأْوي إلى نِسْوةٍ عُطَّلٍ ..................... وشُعْثاً مراضيعَ مثلَ السَّعالِي
فنَصَبَ "شعثًا" وهو معطوفٌ.
القولُ الثاني: أنْ يَكونَ معطوفًا على الضميرِ في "منهم" أي: لكن الراسخون في العلمِ منهم ومن المقيمين الصلاة.
القولُ الثالث: أنْ يَكونَ مَعطوفًا على الكافِ في "إليك" أي: يؤمنون بما أُنْزل إليك وإلى المقيمين الصلاةَ وهم الأنبياءُ ـ عليهِمُ السلامُ.
القولُ الرابعُ: أنْ يَكونَ مَعطوفًا على "ما" في "بما أُنْزِل" أي: يؤمنون بما أُنزلَ إلى مُحمَّدٍ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وبالمُقيمين الصلاة من الأنبياءِ ـ عليهِمُ السلامُ. وقيلَ: "المقيمين" هم الملائكة أي "ويؤمنون بالملائكة الذين صفتُهم إقامةُ الصلاةِ كقوله: {يُسَبِّحُونَ الليلَ والنهارَ لاَ يَفْتُرُونَ} الأنبياء: 20. وقيل: همُ المُسلِمون، ويكون على حَذْفِ مضافٍ أي: وبدينِ المُقيمين.
القولُ الخامسُ: أنْ يَكونَ معطوفًا على الكافِ في "قبلك" أي: ومِنْ قبلِ المُقيمين، ويعني بهم الأنبياءَ أيضًا. السادسُ: أنْ يَكونَ معطوفًا على نفسِ الظَرْفِ، ويَكون على حَذْفِ مضافٍ أي: ومن قبلِ المقيمين، فحُذِف المضافُ وأُقيمَ المُضافُ إليه مُقامَه.
وقد زَعمَ قومٌ لا اعتبارَ بِهم أنَّه لحنٌ، ونَقَلوا عن عائشةَ ـ رضي الله عنها ـ وأَبان بنِ عُثمانٍ أنَّها خطأٌ مِنْ جِهةِ غَلَطِ كاتبِ المُصحَفِ، وهذا لا يَصحُّ عن عائشة ولا أَبان، ولا يَلتَفِتُ إلى ما زَعموا، مَنْ يَنظرُ في الكتاب ومَنْ يعرفُ مذاهِبَ العَرَبِ وما لَهم في النَّصْبِ على الاخْتِصاصِ مِنَ الافْتِنانِ، والسابقون الأولون الذين مَثَلُهم في التوراةِ ومثلُهم في الانجيلِ كانوا أبعدَ همَّةً في الغَيْرةِ وذَبَّ المطاعنِ عن الاسلامِ من أنْ يقولوا ثُلْمَةً في كتابِ الله لِيسُدَّها مَنْ بَعدَهم، وخَرْقاً يَرْفوه مَنْ يلحقُ بهم "وأمَّا قراءةُ الرفعِ فواضحةٌ.
قولُه: {والمؤتون} فيه سبعةُ أوجهٍ أظهرُها: أنَّه على إضمارِ مُبتَدأٍ، ويكونُ مِنْ بابِ المَدحِ المَذكورِ في النَّصبِ.
والوجهُ الثاني: أنَّه معطوفٌ على "الراسخون"، وفي هذا ضَعْفٌ؛ لأنَّه إذا قُطِعَ التابعُ عن مَتْبوعِهِ لم يَجُزْ أنْ يَعودَ ما بعدَه إلى إعرابِ المَتبوعِ فلا يُقالُ: "مَرَرْتُ بزيدٍ العاقلَ الفاضلِ" بنصبِ "العاقل" وجرِّ "الفاضل" فكذلك هذا.
الوجهُ الثالث: أنَّه عطفٌ على الضميرِ المُسْتَكِنِّ في "الراسخون"، وجاز ذلك للفَصْلِ.
الوجهُ الرابعُ: أنَّه مطعوفٌ على الضميرِ في "المؤمنون".
الوجهُ الخامسُ: أنَّه معطوفٌ على الضميرِ في "يؤمنون".
الوجهُ السادسُ: أنَّه معطوفٌ على "المؤمنون"، السابعُ: أنَّه مبتَدَأٌ
وخبرُه "أولئِك سنؤتيهم" فيكونُ "أولئك" مبتدأٌ، و"سنؤتيهم" خبرُه، والجملةُ خبرُ الأوَّلِ، ويَجوزُ في "أولئك" أنْ يَنتصِبَ بفعلٍ محذوفٍ يفسِّرُهُ ما بعدَه فيكونَ مِنْ بابِ الاشْتِغالِ، إلّا أنَّ هذا الوجْهَ مَرجوحٌ فرَفعُه أجْوَدُ مِنْ نَصبِه، لأنَّه لا يُحوِجُ إلى إضمارٍ، ولأنَّ لنا خلافًا في تقديم معمولِ الفِعلِ المُقتَرِنِ بحرفِ التَنفيسِ في نحوِ "سأضربُ زيدًا" فمَنَعَ بعضُهم "زيدًا سأضرِبُ"، وشرطُ الاشتغالِ جوازُ تسلُّطِ العاملِ على ما قبلَه، فالأَوْلى أَنْ نَحْمِلَه على ما لا خلاف فيه.
وقرأ حمزة: "سيؤتيهم" بالياءِ مُراعاةً للظاهرِ في قولِه: "والمؤمنون بالله" والباقون بالنونِ على الالْتِفاتِ تعظيمًا، ولمناسبةِ قولِه: "وأعتدْنا" وهما واضحتان.
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ}
إنا أوحينا اليك ـ أيها الرسولُ ـ بتبليغِ الرسالةِ كما أوحينا إلى نوحٍ والنبيّينَ مِنْ بعدِه، وأوحيْنا إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطِ ـ وهمُ الأنبياءُ الذين كانوا في قبائلِ بني إسرائيل الاثنتي عشْرِةِ مِنْ وَلَدِ يعقوب ـ وعيسى وأيوبَ ويُونُسَ وهارونَ وسليمانَ. وهو جوابٌ لأهلِ الكتابِ عن سؤالِهم رسولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ ـ {أن ينزل عليهم كتابًا مِنَ السَماءِ}، فأَعْلَمَ اللهُ تَعَالَى أَنَّ أَمْرَ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ كَأَمْرِ مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما ـ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ ـ مِنْهُمْ سُكَيْنٌ وَعَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ ـ قَالُوا لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَعْدِ مُوسَى فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ. وَالْوَحْيُ إِعْلَامٌ فِي خَفَاءٍ، يُقَالُ: وَحَى إِلَيْهِ بِالْكَلَامِ يَحِي وَحْيًا، وَأَوْحَى يُوحِي إِيحَاءً. و"إِلى نُوحٍ" قَدَّمَهُ لِأَنَّهُ أَوَّلُ نَبِيٍّ شُرِعَتْ عَلَى لِسَانِهِ الشَّرَائِعُ. وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا، فقد جاء عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَوَّلُ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ـ فِي الْأَرْضِ إِدْرِيسُ وَاسْمُهُ أَخْنُوخُ، ثُمَّ انْقَطَعَتِ الرُّسُلُ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ نُوحَ بْنَ لَمَكِ بْنِ مَتُّوشَلَخَ بْنِ أَخْنُوخَ، وَقَدْ كَانَ سَامُ بْنُ نُوحٍ نَبِيًّا، ثُمَّ انْقَطَعَتِ الرُّسُلُ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ نَبِيًّا وَاتَّخَذَهُ خَلِيلًا، وَهُوَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ تَارَخَ وَاسْمُ تَارَخَ آزَرُ، ثُمَّ بُعِثَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ فَمَاتَ بِمَكَّةَ، ثُمَّ إسحاق بن إبراهيم فَمَاتَ بِالشَّامِ، ثُمَّ لُوطٌ وَإِبْرَاهِيمُ عَمُّهُ، ثُمَّ يَعْقُوبُ وَهُوَ إِسْرَائِيلُ بْنُ إِسْحَاقُ ثُمَّ يُوسُفُ ابن يَعْقُوبَ ثُمَّ شُعَيْبُ بْنُ يَوْبَبَ، ثُمَّ هُودُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ثُمَّ صَالِحُ بْنُ أَسِفَ، ثُمَّ مُوسَى وَهَارُونُ ابْنَا عِمْرَانَ، ثُمَّ أَيُّوبُ ثُمَّ الْخَضِرُ وَهُوَ خَضِرُونُ، ثُمَّ دَاوُدُ بْنُ إيشا، ثم سليمانُ ابْنُ دَاوُدَ، ثُمَّ يُونُسُ بْنُ مَتَّى، ثُمَّ إِلْيَاسُ، ثُمَّ ذَا الْكِفْلِ وَاسْمُهُ عُوَيْدِنَا مِنْ سِبْطِ يهوذا ابنِ يَعْقُوبَ، قَالَ: وَبَيْنَ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَمَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ أُمِّ عِيسَى أَلْفُ سَنَةٍ وَسَبْعُمِائَةِ سَنَةٍ وَلَيْسَا مِنْ سِبْطٍ، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ نَبِيُّنا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ خاتم النبيِّين. وقَالَ الزُّبَيْرُ بنُ بكَّار: كُلُّ نَبِيٍّ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ غَيْرَ إِدْرِيسَ وَنُوحٍ وَلُوطٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ. وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْعَرَبِ أَنْبِيَاءٌ إِلَّا خَمْسَةٌ: هُودٌ وَصَالِحٌ وَإِسْمَاعِيلُ وَشُعَيْبٌ وَمُحَمَّدٌ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَإِنَّمَا سُمُّوا عَرَبًا لِأَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالْعَرَبِيَّةِ غَيْرُهُمْ. "وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ" هَذَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ.
قَوله: { وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ} فَخَصَّ أَقْوَامًا بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ} سورةُ البقرةِ: 98. ثُمَّ قَالَ: {وَعِيسى وَأَيُّوبَ} قَدَّمَ عِيسَى عَلَى قَوْمٍ كَانُوا قَبْلَهُ، لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، وَأَيْضًا فِيهِ تَخْصِيصُ عِيسَى رَدًّا عَلَى الْيَهُودِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى قَدْرِ نَبِيِّنَا ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَشَرَفِهِ، حَيْثُ قَدَّمَهُ فِي الذِّكْرِ عَلَى أَنْبِيَائِهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} الأحزاب، الْآيَةَ: 7.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً} الزَّبُورُ كِتَابُ دَاوُدَ وَكَانَ مِئَةً وَخَمْسِينَ سُورَةً لَيْسَ فِيهَا حُكْمٌ وَلَا حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ، وَإِنَّمَا هِيَ حِكَمٌ وَمَوَاعِظُ. وَالْكِتَابُ يُسَمَّى زَبُورًا لِقُوَّةِ الْوَثِيقَةِ بِهِ. وَكَانَ دَاوُدُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ ـ حَسَنَ الصَّوْتِ، فَإِذَا أَخَذَ فِي قِرَاءَةِ الزَّبُورِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ وَالطَّيْرُ وَالْوَحْشُ لِحُسْنِ صَوْتِهِ، وَكَانَ مُتَوَاضِعًا يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَنْ كَانَ دَاوُدُ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لَيَخْطُبُ النَّاسَ وَفِي يَدِهِ الْقُفَّةُ مِنَ الْخُوصِ، فَإِذَا فَرَغَ نَاوَلَهَا بَعْضَ مَنْ إِلَى جَنْبِهِ يَبِيعُهَا، وَكَانَ يَصْنَعُ الدُّرُوعَ، وَسَيَأْتِي. وَفِي الْحَدِيثِ: (الزُّرْقَةُ فِي الْعَيْنِ يُمْنٌ) وَكَانَ داوود أَزرق.
قوله تعالى: {كَمَا أَوْحَيْنَا} الكافُ نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي: إيحاءً مثلَ إيحائنا، أو على أنَّه حالٌ مِنْ ذلك المَصدرِ المحذوفِ المُقدَّرِ معرَّفًا، أي: أوحيناه، أي: الإِيحاء حالَ كونِه مُشْبِهًا لإِيحائنا إلى مَنْ ذُكِرَ. و"ما" تَحتَمِلُ أنْ تكونَ مصدريَّةً فلا تَفتَقِرُ إلى عائدٍ على الصحيح، وأنْ تكونَ بِمَعنى "الذي" فيكونُ العائدُ محذوفًا، أي: كالذي أوحيناه إلى نوح. و"من بعده" متعلِّقٌ بـ "أوْحينا"، ولا يَجوزُ أنْ تَكونَ "من" للتَبْيينِ، لأنَّ الحالَ خبرٌ في المعنى. ويجوزُ أنْ يَتعلَّق بـ "النبيين"، يَعني أنَّه في معنى الفِعلِ كأنَّه قِيلَ: والذين تنبَّؤوا مِنْ بعدِه.
وفي "يونس" سِتُّ لُغاتٍ أَفصَحُها: واوٌ خالصةٌ ونونٌ مضمومةٌ، وهي لغةُ الحِجازِ، وحُكِيَ كسرُ النُونِ بَعدَ الواوِ، وبها قرأ نافعٌ في روايةِ حبان، وحُكِي أيْضًا فتحُها مع الواوِ، وبها قَرَأَ النُخَعِيُّ وهي لُغةٌ لِبَعْضِ عَقيلٍ، وهاتان القراءتان جَعَلَهما بعضُهم مَنقولتيْن مِنَ الفِعْلِ المَبنيِّ للفاعِلِ أو للمَفعولِ، وجَعلَ هذا الاسمُ مشتقٌّ مِنَ الأُنْسِ، وإنَّما أُبدِلَتْ الهَمْزةُ واوًا لِسُكونِها وانْضمامِ ما قبلَها، ويَدُلُّ على ذلك مجيئُه بالهَمْزةِ على الأصلِ في بعضِ اللُّغاتِ، وفيه نظرٌ، لأنَّ هذا الاسمَ أعجميٌّ، وحُكِيَ تثليثُ النون معَ همزِ الواوِ، كأنَّهم قَلَبوا الواوَ همزةً لانْضِمامِ ما قبلها نحو:
أَحَبُّ المُؤْقِدينَ إليَّ موسى .................. وجَعْدَةُ إذ أضاءَهُما الوَقود
وحُكي أنَّ ضمَّ النونِ مع الهمزة لغةُ بعضِ بني أَسَد، هذا إذا قلنا: إنَّ هذا الاسمَ ليس منقولًا مِنْ فِعْلٍ مَبنيٍّ للفاعِلِ أو للمفعولِ حالةَ كَسْرِ النُونِ أو فتحِها، أمَّا إذا قُلْنا بذلك فالهمزةُ أصلِيَّةٌ غيرُ مُنقلِبَةٍ مِنْ واوٍ لأنَّه مُشتقٌّ مِنَ الأُنْسِ، وأمَّا مَعَ ضَمِّ النونِ فيَنبَغي أنْ يُقالَ بأنَّ الهَمزةَ بَدَلٌ مِنَ الواوِ لانْتِفاءِ الفِعليَّةِ مَعَ ضَمِّ النُونِ.
وَانْصَرَفَ "نوح" وَهُوَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ، لِأَنَّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ فَخَفَّ، فَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ فَأَعْجَمِيَّةٌ، وَهِيَ مُعَرَّفَةٌ وَلِذَلِكَ لَمْ تَنْصَرِفْ، وَكَذَا يَعْقُوبُ وَعِيسَى وَمُوسَى إِلَّا أَنَّ عِيسَى وَمُوسَى يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ فِيهِمَا لِلتَّأْنِيثِ فَلَا يَنْصَرِفَانِ فِي مَعْرِفَةٍ وَلَا نَكِرَةٍ، فَأَمَّا يُونُسُ وَيُوسُفُ فَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَ "وَيُونِسَ" بِكَسْرِ النُّونِ وَكَذَا" يُوسِفَ" يَجْعَلُهُمَا مِنْ آنَسَ وَآسَفَ، وَيَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ يُصْرَفَا وَيُهْمَزَا وَيَكُونُ جَمْعُهُمَا يَآنِسُ ويآسف. ومن لم يهمزْ قال: يُوانِسُ وَيَوَاسِفُ. وَحَكَى أَبُو زَيْدٍ: يُونَسَ وَيُوسَفَ بِفَتْحِ النُّونِ وَالسِّينِ، قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَكَأَنَّ "يُونِسَ" فِي الْأَصْلِ فِعْلٌ مَبْنِيٌّ لِلْفَاعِلِ، وَ"يُونَسَ" فِعْلٌ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، فَسُمِّيَ بِهِمَا.
قولُه: {زَبُورًا} قراءةُ الجُمهورِ بفتحِ الزايِ، وحمزة بضمِّها، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها، أنَّه جمعُ "زَبْر" وهو الكتاب، يعني أنَّه في الأصلِ مَصدرٌ على "فَعْل"، ثمَّ جُمِعَ على فُعُول، نحو: فَلْس وفُلوس، وقَلْس وقُلُوس. قال أبو علي الفارسي: ويُحتَمَلُ أنْ يكونَ جمْعَ زَبْرٍ وقع على المزبور، كما قالوا: ضَرْبُ الأميرِ ونَسْجُ اليَمَنِ، كما سُمِّي المَكتوبُ كِتابًا. ويعني أبو عليٍّ أنَّه مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعولِ بِه كما مثَّلَه.
والثاني: أنَّه جَمْعُ "زَبُور" في قراءةِ العامَّة، ولكنَّه على حَذْفِ الزوائد، يَعني حُذِفتِ الواوُ منْه فَصارَ اللفظُ: زَبُر، وهذا التخريجُ الثاني لأبي عليٍّ، قال: كما قالوا: ظريفٌ وظُروفٌ، وكَرَوانٌ وكَرْوان، وَوَرَشان ووِرْشان على تقدير حذفِ الياءِ والألفِ، وهذا لا بأسَ بِه، فإنَّ التكسيرَ والتصيغرَ يَجْريان غالبًا مجرىً واحدًا، وقد رأيناهم يُصَغِّرون بحذفِ الزوائدِ نحو: "زُهَيْرٍ وحُمَيْدِ" في أَزْهَر ومحمود، ويُسمِّيهِ النَّحويُّون "تصيغر الترخيم"، فكذلك التكسيرُ.
الثالث: أنَّه اسمٌ مفردٌ وهو مصدرٌ جاءَ على "فُعُول" كالدُّخولِ والقُعودِ والجُلوسِ، قالَه أبو البقاءِ وغيرُه. وفيه نظرٌ منْ حيثُ إنَّ الفُعُولَ يكون مصدرًا للّازمِ، ولا يَكونُ للمُتعدِّي إلَّا في أَلفاظ محفوظةٍ نحو: اللُّزومِ والنُّهوكِ، وزَبَرَ ـ كما ترى ـ متعدٍ، فيَضعُفُ جَعْلُ الفُعُول مصدرًا له.
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيمًا. (164)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ م