أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا.
(121)
قولُهُ جلَّ وعلا: {أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} وَهَؤُلاءِ المُسْتَحْسِنُونَ لِمَا وَعَدَهُمْ بِهِ الشَّيْطَانُ، وَمَنَّاهُمْ بِهِ، سَيَكُونُ مَأْوَاهُمْ وَمَصِيرُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي جَهَنَّمَ، وَلَنْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً وَلاَ خَلاَصاً. فـ "أولئك" إشارةٌ إلى مَنْ اتَّخَذَ الشيطانَ وَلِيًّا باعتبارِ معناهُ، وما فيه مِنْ مَعنى البُعْدِ للإيذانِ بِبُعدِ مَنزِلتِهم في الخُسران "مأواهم" مُستَقَرُّهم" جَهَنَّمُ، وكَلِمَةُ "مأوى" تعني المكانَ الذي يُضطَّرُّ الإنسانُ إلى أنْ يَأوي إليْه، وهذا الاضطِّرارُ سيكون جذباً، يقول ـ سبحانه ـ عن النار بأنَّها سَتَقولُ: {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} ق: 30. وكأنها سَتَجْذِبُ أصحابَها.
وقولُه: {وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} أيْ إنهم لن يجدوا عنها مَهْرَبًا ولا مَعْدى ولا مَفَرًّا، وقد كان باستطاعةِ الواحدِ منهم أنْ يَفِرَّ مِن مخلوقٍ مثلَه في الحياة الدنيا، أمّا في الآخرةِ فالأمرُ لله وحده ولا مَفَرَّ، يقولُ اللهُ تعالى حينَها: {لِمَنِ الملك اليوم} ويُجيبُ نفسَه حيث لا مجيبُ مِنْ خلقٍ: {لِلَّهِ الواحد القهار} غافر: 16.
قولُهُ تعالى: {أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} أولئك: إشارة إلى أولياءِ الشيطانِ بمُراعاةِ معنى {مَنْ} في قولِه {مَنْ يتّخذ} النساء، الآية: 119. وهذا مبتدأ وقولُه "مأواهم" مبتدأٌ ثانٍ، وقولُه: "جهنم" خبرٌ للثاني والجملةُ خبرٌ للأوَّلِ.
وقولُه: {عَنْهَا} يجوزُ أنْ يتعلَّق بمحذوفٍ: إمَّا على الحالِ من "محِيصًا" لأنَّه في الأصلِ صفةُ نَكِرةٍ قُدِّمَتْ عليها، وإمَّا على التَبْيينِ، أي: أَعني عنها، ولا يَجوزُ تعلُّقُه بمحذوفٍ؛ لأنَّه لا يتعدَّى بـ "عن" ولا بـ "محيصًا"، وإنْ كان المعنى عليْه لأنَّ المَصدَرَ لا يَتَقدَّمُ معمولُه عليْه، ومَنْ يُجَوِّزُ ذلك يُجَوِّزُ تَعَلُّقَ "عن" به. والمَحيصُ: اسمُ مصدرٍ مِن حاصَ يَحِيص إذا خَلَصَ ونَجا، وقيل: هو الزَّوَغَان بنُفُور، ومنه قولُه:
ولم نَدْرِ إنْ حِصْنًا مِنَ الموتِ حَيْصَةً ..... كمِ العُمرُ باقٍ والمَدَى مُتَطاوِلُ
ويروي: "جِضْنًا" بالجيم والضاد المعجمة، ومنه: "وقعوا في حَيْصَ بَيْصَ" وحاصَ باصَ، أي: وقعوا في أمرٍ يَعْسَرُ التخلُّص منه، ويقال: مَحِيص ومَحاص قال:
أتَحِيصُ من حُكْمِ المَنِيَّةِ جاهداً ........... ما للرجال عن المَنونِ مَحاصُ
ويُقالُ: حاصَ يَحُوص حَوْصاُ وحِياصاً أي: زَايَل المكانَ الذي كان
فيه، والحَوْصُ: ضيقُ مؤخَّرِ العيْنِ ومنْه الأحْوَصُ.