عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم ... سورة النساء، الآية: 47 الأربعاء مايو 15, 2013 7:29 am | |
| يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا. (47) قولُه ـ سبحانَه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم) النداءُ لأهلِ الكتابِ، والتعبيرُ بالمَوصولِ للإشارةِ إلى أنَّ إعطاءَ عِلْمِ الكتابِ لهم يُوجِبُ عليهم أنْ يؤمنوا بالكُتُبِ التي أنزلها الله على رسلِ كلِّها ومن ضِمْنِها الكتابُ المُنْزَلُ على رَسولِهِ محمدٍ ـ عليه الصلاةُ والسلام، لا سِيَّما وهو مُبَشَّرٌ بِه في كِتابِهم لَا أنْ يُعْرِضُوا عنه ويعاندوا فيه ويَلُجُّوا في عِدائهم له. وفي النصِّ الكَريمِ تحريضٌ على الإيمانِ بأمورٍ ثلاثةٍ:أوَّلُها: أنَّهم أُوتُوا عِلْمَ الكِتابِ وعِلمَ النُبُوَّاتِ، وأنَّهم يَعلمون الوَحْيَ الإلهيَّ، والكتابَ الذي نَزَلَ على نَبِيِّهم، والكتُبَ التي نَزَلَتْ على الأَنبياءِ قبلَه، وإن ذلك كلَّه يُوجبُ المُسارَعَةَ إلى تَلبِيَة داعي الحَقِّ إذا دُعوا، وألَّا يتعَصَبوا لدِينِهم، كما تَعصَّبَ أهلُ الشِرْكِ لجاهِلِيَّتِهم.وثانيها: أنَّ هذا الإيمانَ هو التَصديقُ بِما نَزَّلَ اللهُ تعالى على نَبِيِّهِ محمَّدٍ، كما أَنزَلَ على نبيِّهم أو أَنبيائهِم شَرائعَه، وهو الذي نَزَّلَ الشريعةَ التي تدعوهم إلى الإيمانِ، ووَحدةُ المُنْزِلِ تُوجِبُ الإيمانَ بِكلِّ ما أَنزَلَ، وإلا فيكونون قد أمنوا ببعضٍ وكفروا ببعضٍ.وثالثُها: أنَّ ما يدعوكم ربُّ العالمين إلى الإيمانِ بِهِ، يُصَدِّقُ ما معكم مِنَ الحَقِّ؛ لأنَّ البِشارةَ برسولِه موجودةٌ عندَكم، وقد كنتم تَسْتَفْتِحون به على الذين كفروا، ولأن الفضائلَ الدِينِيَّةَ والاجْتِماعيَّةَ قد اتَّفقتْ فيما يَدعو إليْه النبيُّ مَعَ ما دعا إليه أنبياؤكم من قبلُ، فالوَحدَةُ الدِينيَّةُ قائمةٌ بِوَحدةِ المُنْزِلِ، وبِوَحْدَةِ الحَقِّ الذي يَدعوكم إليه رَبُّ العالمين. وإنَّ نِسيانَهم حَظًّا ممّا ذُكِّروا بِه، وتَرْكَهم نَصيبًا منه، لَا يَمنعُ الحُكمَ بأنَّهم أُوتوا الكتابَ؛ لأنَّه نَزَلَ على أنبيائهم السابقين كاملًا غيرَ مَنقوصٍ، والخِطابُ لهم على أساسِ ما أُوتُوهُ، لَا ما حرَّفوهُ، وقد يكونُ معنى الكِتابِ هُنا جِنسُه، قولُه: {من قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ} إنذارٌ لهم بسوءِ العاقبةِ في الدنيا والآخرة إن لم يؤمنوا، في الدنيا بمسخهم قردةً وخنازيرَ وإذلالهم. وفي الآخرة بأن تُجْعَلَ أعينهم في مؤخرة رؤوسهم، كما قيل، وقيلَ عنَى بالوُجوهِ الأعيانَ والرُؤساءَ، ومعناه نجعلُ رؤساءهم أَذنابًا وذَلك أعظمُ البَوارِ والهلاك!. والارْتدادُ على الأدْبارِ يَكونُ في القِتالِ يومَ الزَحْفِ حيث تكون الوُجوهُ في مَوْضِعِ الأدْبارِ فِرارًا أوْ جُبْنًا. وقد فُعلَ ذلك بهم حيث قذف الله في قلوبهم الرُّعبَ وكتب عليهم الخزي والخذلانَ فانهزموا أمام المسلمين في معاركهم كلِّها، حتى لم يبق منهم أحدٌ في شِبْهِ جَزيرةِ العَرَبِ. وقد يكون الارتِدادُ على الأدبارِ معنويًّا كقولِه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} سورة محمّد، الآية: 25. وقد يكون المقصودُ المَعْنَيَيْنِ. معًا والله أعلم.قولُه: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} قد كان في شريعةِ بني إسرائيلَ ألَّا يعملوا في يومِ السبتِ لِيَسْتَريحوا ويَنْصرِفوا إلى العبادة، والتعاونِ الاجْتِماعيِّ، ولكنَّ رغبَتَهم في المالِ وشَرَهَهم إليْه كان يَحملُ بعضَهم على العَمَلِ، وقد تقدم ذلك في تفسير سورة البقرة عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}، البقرة: 65. جاء فيما خرجه البخاريُّ في مناقِبِ الأنصارِ مِن حديثٍ طويلٍ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ سلامٍ ـ رضيَ اللهُ عنْه ـ لَمَّا سَمِعَ هذه الآيةِ جاءَ إلى النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبلَ أنْ يَأتيَ أهلَه، ويَدُهُ على وجهِهِ، وأَسْلَمَ وقال: يا رسولَ اللهِ ما كُنْتُ أرى أنَّ أَصِلَ إليكَ حتَّى يَتحوَّلَ وجهي في قفايَ. وكذلكَ كعبُ الأحبارِ. قَالَ ابنُ جريرٍ عَنْ عِيسَى بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: تَذَاكَرْنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ إِسْلَامَ كَعْبٍ، فَقَالَ: أَسْلَمَ كَعْبٌ زَمَانَ عُمَرَ، أَقْبَلَ وَهُوَ يُرِيدُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَمَرَّ عَلَى الْمَدِينَةِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ عُمَرُ، فَقَالَ: يَا كَعْبُ أَسْلِمْ فقال: أَلَسْتُمْ تقولونَ في كتابِكم: {مَثَلُ الذين حُمِّلوا التوراةَ ثمَّ لم يَحمِلوها كَمَثَلِ الحمارِ يَحمِلُ أَسْفَارًا}، وَأَنَا قَدْ حَمَلْتُ التَّوْرَاةَ، قَالَ: فَتَرَكَهُ عُمَرُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى حِمْصَ فَسَمِعَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِهَا حَزِينًا، وَهُوَ يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} الْآيَةَ. قَالَ كعب: يَا رَبُّ أَسْلَمْتُ، مَخَافَةَ أَنْ تُصِيبَهُ هَذِهِ الْآيَةُ، ثُمَّ رَجَعَ فَأَتَى أَهْلَهُ فِي الْيَمَنِ، ثمَّ جاءَ بهم مُسْلِمين.وقالَ السدِّيُّ نَزَلَتْ هذه الآيةُ الكريمةُ في مالكٍ بْنِ الصَّيِّفِ، ورِفاعة بْنِ زيدٍ بنِ التابوتِ، من بَني قَيْنُقاع. وأخرج البيهقي في "الدلائل" وغيرُه عن ابْنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ تعالى عنهما قال: (كلَّمَ رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ رؤساءَ مِن أحبارِ يَهودَ مِنهم عَبدُ اللهِ بنُ صوريا وكعبٌ بْنُ أَسَدٍ فقال لهم: يا معشرَ يهود اتَّقوا اللهَ وأَسْلِموا فواللهِ إنَّكم لَتَعْلَمون أنَّ الذي جئتُكم بِه لَحَقٌّ فقالوا: ما نَعرِفُ ذلك يا مُحَمَّدُ فأنزلَ اللهُ تعالى فيهم الآيةَ، ولا يَخفى أنَّ العِبْرَةَ لِعُمومِ اللَّفظِ وهو شاملٌ لِمنْ حُكِيتْ أحْوالُهم وأقوالُهم ولِغيرِهمقوله تعالى: {مِن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ} متعلقٌ بالأَمرِ في قولِه: "آمنوا"، و"نَطْمِس" يكون متعدِّياً، ومنه هذه الآية، ومثلُها: {فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ} المرسلات: 8. لبنائِه للمفعولِ مِن غيرِ حَرفِ جرٍّ، ويكون لازماً، يُقالُ: "طمس المطرُ الأعلامَ" و"طَمَست الأعلامُ"، قال كعب: من كلِّ نَضَّاخةِ الذِّفْرى إذا عَرِقَتْ ....... عُرْضَتُها طامِسُ الأعلامِ مجهولُوقرأ الجمهور: "نَطْمِس" بكسرِ الميمِ، وقرأ أبو رجاءٍ بضمِّها، وهما لُغتان في المُضارِعِ. وقَدَّر بعضُهم مضافاً أي: عيونَ وجوهٍ، ويُقَوِّيه أنَّ الطمْسَ للأعيُنِ، قال تعالى: {لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ} يس: 66.وقولُه: {على أَدْبَارِهَا} متعلِّقٌ بـ "نَرُدَّها"، وهو الظاهر. وقيلَ هو متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنَّهُ حالٌ مِن المَفعولِ في "نرُدَّها"، وليس بواضحٍ.قولُه: "أو نلعَنَهم" عطفٌ على "نَطْمِسَ"، والضميرُ في "نَلْعَنَهم" يَعودُ على الوُجوهِ، "على حَذْفِ مضافٍ إليه"، أي: وُجوهَ قومٍ، أو على أنْ يُرادَ بِهم الوُجَهاءُ والرؤساءُ، أو يَعودُ على "الذين أُوتُوا الكتابَ، ويكون ذلك التفاتاً من خطابٍ إلى غَيبَةٍ، وفيه استدعاؤُهم للإِيمان، حيث لم يواجِهْهم باللَّعْنَةِ بعد أَنْ شَرَّفهم بكونِهم مِنْ أهلِ الكتابِ. وقولُه: {وَكَانَ أَمْرُ الله} أمرٌ واحدٌ أُريدَ بِه الأُمورُ. وقيل: هو مصدرٌ واقعٌ موقعَ المَفعولِ بِه أيْ: مأمورُه، أيْ: ما أَوْجَدَه كائنٌ لا مَحالةَ. | |
|