قَوْلُهُ: {إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} دَلَّ عَلَى أَنَّ السَّلَمَ إِلَى الْأَجَلِ الْمَجْهُولِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَدَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى مِثْلِ مَعْنَى كِتَابِ اللهِ تَعَالَى. ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَسْتَلِفُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَسْلَفَ فِي تَمْرٍ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ)) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا من حديثِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَبَايَعُونَ لَحْمَ الْجَزُورِ إِلَى حَبَلِ الْحَبَلَةِ. وَحَبَلُ الْحَبَلَةِ: أَنْ تُنْتَجَ النَّاقَةُ ثُمَّ تَحْمِلُ الَّتِي نُتِجَتْ. فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ ذَلِكَ. وَأَجْمَعَ كُلُّ مَنْ يُحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ السَّلَمَ الْجَائِزَ أَنْ يُسْلِمَ الرَّجُلُ إِلَى صَاحِبِهِ فِي طَعَامٍ مَعْلُومٍ مَوْصُوفٍ، مِنْ طَعَامِ أَرْضٍ عَامَّةٍ لَا يُخْطِئُ مِثْلُهَا. بِكَيْلٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ بِدَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ مَعْلُومَةٍ، يَدْفَعُ مِمَنْ مَا أَسْلَمَ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا مِنْ مَقَامِهِمَا الَّذِي تَبَايَعَا فِيهِ، وَسَمَّيَا الْمَكَانَ الَّذِي يُقْبَضُ فِيهِ الطَّعَامُ. فَإِذَا فَعَلَا ذَلِكَ وَكَانَ جَائِزَ الْأَمْرِ كَانَ سَلَمًا صَحِيحًا لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يُبْطِلُهُ. والسَّلَمَ إِلَى الْحَصَادِ وَالْجَذَاذِ وَالنَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ جَائِزٌ، إِذْ ذَاكَ يَخْتَصُّ بِوَقْتٍ وَزَمَنٍ مَعْلُومٍ.
وحَدَّ العُلَمَاءُ السَّلَمَ فَقَالُوا: هُوَ بَيْعٌ مَعْلُومٌ فِي الذِّمَّةِ مَحْصُورٌ بِالصِّفَةِ بِعَيْنٍ حَاضِرَةٍ أَوْ مَا هُوَ فِي حُكْمِهَا إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ. فَتَقْيِيدُهُ بِمَعْلُومٍ فِي الذِّمَّةِ يُفِيدُ التَّحَرُّزَ مِنَ الْمَجْهُولِ، وَمِنَ السَّلَمِ فِي الْأَعْيَانِ الْمُعَيَّنَةِ، مِثْلُ الَّذِي كَانُوا يَسْتَلِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّامَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَلِفُونَ فِي ثِمَارِ نَخِيلٍ بِأَعْيَانِهَا، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ، إِذْ قَدْ تُخْلِفُ تِلْكَ الْأَشْجَارُ فَلَا تُثْمِرُ شَيْئًا. وَقَوْلُهُمْ: "مَحْصُورٌ بِالصِّفَةِ" تَحَرُّزٌ عَنِ الْمَعْلُومِ عَلَى الْجُمْلَةِ دُونَ التَّفْصِيلِ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي تَمْرٍ أَوْ ثِيَابٍ أَوْ حِيتَانٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ نَوْعَهَا وَلَا صِفَتَهَا الْمُعَيَّنَةَ. وَقَوْلُهُمْ: "بِعَيْنٍ حَاضِرَةٍ" تَحَرُّزٌ مِنَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ. وقولُهم: "أَوْ مَا هُوَ فِي حُكْمِهَا" تَحَرُّزٌ مِنَ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ الَّتِي يَجُوزُ تَأْخِيرُ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عِنْدَنَا ذَلِكَ الْقَدْرَ، بِشَرْطٍ وَبِغَيْرِ شَرْطٍ لِقُرْبِ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَيْهَا. وَلَمْ يُجِزِ الشَّافِعِيُّ وَلَا الْكُوفِيُّ تَأْخِيرَ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ عَنِ الْعَقْدِ وَالِافْتِرَاقِ، وَرَأَوْا أَنَّهُ كَالصَّرْفِ. وَدَلِيلُنَا أَنَّ الْبَابَيْنِ مُخْتَلِفَانِ بِأَخَصِّ أَوْصَافِهِمَا، فَإِنَّ الصَّرْفَ بَابُهُ ضَيِّقٌ كَثُرَتْ فِيهِ الشُّرُوطُ بِخِلَافِ السَّلَمِ فَإِنَّ شَوَائِبَ الْمُعَامَلَاتِ عَلَيْهِ أَكْثَرُ. وَاللهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُمْ: "إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ" تَحَرُّزٌ مِنَ السَّلَمِ الْحَالِّ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَسَيَأْتِي. وَوَصْفُ الْأَجَلِ بِالْمَعْلُومِ تَحَرُّزٌ مِنَ الْأَجَلِ الْمَجْهُولِ الَّذِي كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسْلِمُونَ إِلَيْهِ.
والسَّلَمُ وَالسَّلَفُ عِبَارَتَانِ عَنْ مَعْنًى وَاحِدٍ وَقَدْ جَاءَا فِي الْحَدِيثِ، غَيْرَ أَنَّ الِاسْمَ الْخَاصَّ بِهَذَا الْبَابِ "السَّلَمُ" لِأَنَّ السَّلَفَ يُقَالُ عَلَى الْقَرْضِ. وَالسَّلَمُ بَيْعٌ مِنَ الْبُيُوعِ الْجَائِزَةِ بِالِاتِّفَاقِ، مُسْتَثْنًى مِنْ نَهْيِهِ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ. وَأَرْخَصَ فِي السَّلَمِ، لِأَنَّ السَّلَمَ لَمَّا كَانَ بَيْعَ مَعْلُومٍ فِي الذِّمَّةِ كَانَ بَيْعَ غَائِبٍ تَدْعُو إِلَيْهِ ضَرورَةُ كُلِّ واحِدٍ مِنَ المُتَابِعينَ، فَإِنَّ صَاحِبَ رَأْسِ الْمَالِ مُحْتَاجٌ إِلَى أَنْ يَشْتَرِيَ الثَّمَرَةَ، وَصَاحِبُ الثَّمَرَةِ مُحْتَاجٌ إِلَى ثَمَنِهَا قَبْلَ إِبَّانِهَا لِيُنْفِقَهُ عَلَيْهَا، فَظَهَرَ أَنَّ بَيْعَ السَّلَمِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْحَاجِيَّةِ، وَقَدْ سَمَّاهُ الْفُقَهَاءُ بَيْعَ الْمَحَاوِيجِ، فَإِنْ جَازَ حَالًّا بَطَلَتْ هَذِهِ الْحِكْمَةُ وَارْتَفَعَتْ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ، وَلَمْ يَكُنْ لِاسْتِثْنَائِهِ مِنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ فَائِدَةٌ. وَاللهُ أَعْلَمُ. أَمَّا شُرُوطُ السَّلَمِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا،